ديسمبر 3, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد محمد الهلالي

 تصاعدت هذه الايام بمواقع التوصل الاجتماعي على الانترنت كالفيس بوك وغيرها صراعات جدلية بين مايطلق عليهم عند العراقيين (اللفو) – اي الوافدين والنازحين والمهاجرين من الريف الى المدينة – وبين السكان الاصليين لتلك المدن , او بين اهل المحافظات الجنوبية الوافدين الى المحافظات الاخرى مثل البصرة وبغداد وكربلاء والنجف , وهذا الصراع هو نموذج لعشرات الصراعات الكامنة – او العلنية – التي تضرب المجتمع العراقي يمينا وشمالا , وسبق ان ذكر قسما منها الدكتور علي الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) . وسبب اثارة هذه الصراعات هذه الايام هى الحملات التي قامت بها الحكومات المحلية على التجاوزات والعشوائيات في البصرة وكربلاء , واغلبها بالطبع من الخزان البشري في العراق (الناصرية والعمارة) …

في الواقع ان اغلبية السكان العراقيين – وربما 90% منهم – من (اللفو) (والمحافظات) والسبب لانهم جميعا كانوا في يوم من الايام من اهل الريف وهاجروا للمدينة , واما السكان الاصليين – ونعني بهم مؤسسي المدن ونواتها الاولى – فهم حتما اقلية لايعتد بها , فعائلتنا مثلا عندما هاجرت للمدينة في مطلع الستينيات كانت من (اللفو) , ولكن اصبحت الان من السكان الاصليين او القدامى . اي ان القضية هى مجرد اختلاف بالسنوات , او في اختلاف تواريخ القدوم للمدينة , فاللفو اليوم هم السكان الاصليين غدا .

ان هذا الصراع اتخذ وجها علنيا بعد سقوط النظام البعثي الاستبدادي عام 2003 , بسبب الهجرة الكبيرة جدا من الريف للمدن اولا , ومن اهالي الجنوب (الناصرية والعمارة) الى البصرة وكربلاء والنجف وبغداد ثانيا , ولاسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية , واسباب اخرى اهمها طبيعة الجفاف الذي ضرب الجنوب بخاصة في العقود الاخيرة وشحة المياه والامطار .

ان هذه الهجرة الكبيرة جدا ادت لتغيير المدن لهويتها لصالح هوية واحدة وهى (التريف) . فعندما كنا صغارا ونزور المدن المقدسة في النجف وكربلاء , او المدن الاخرى مثل بغداد والبصرة والناصرية – وحتى غيرها مثل الشطرة والرفاعي – كنا نشعر ان لكل مدينة هوية خاصه بها , او رائحة خاصة لها , او خصوصية حضرية بالتنظيم والشوارع والملابس والكلام والسلوكيات وغيرها , ولكن الان تجد ان جميع مدن العراق اصبحت متشابهة مثل (الاحياء الصينية) , والسبب هو خضوعها جميعا لنمط ريفي – او متريف – واحد , وفرض المهاجرين والنازحين هويتهم الثقافية وانساقهم الاجتماعية على تللك المدن , من العادات والتقاليد والسلوكيات الشعبية والقيم العشائرية وغيرها .

ان البواكير الاولى لتغيير المدن لهويتها بدأ في عقد الثمانينات , عندما اخذت الحكومة البعثية توزع الاراضي السكنية للجنود والشهداء والاسرى والمفقودين ابان الحرب العراقية الايرانية 1980 – 1988 , الامر الذي ادى الى قدوم مئات الالاف منهم للمدينة , الا ان تلك الهجرات كان مسيطر عليها وتدريجية , وهو ما جعل المهاجرين يخضعون للنمط المدني والحضري السائد , بل وربما الشعور بالنقص والاستلاب امام اهل المدينة ومحاولة تقليدهم ومحاكاة تصرفاتهم . وتصاعد فقدان الهوية المدنية في التسعينات بعد انهيار الطبقة الوسطى وتلاشي الطابع الحضري للمدن بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضه مجلس الامن على العراق بعد غزو نظام صدام الحسين الكويت عام 1990 وتحول اكثر من 80 % من الشعب العراقي الى خانة الفقر والعوز والحرمان .. الا ان التحول الكبير حدث بعد السقوط عام 2003 , حيث اصبحت الهجرة بالملايين للمدن القريبة من جانب , او من المحافظات الجنوبية الى البصرة وبغداد وكربلاء من جانب اخر , وبالتالي اصبح الوضع غير مسيطر عليه , واخذ المهاجرين يفرضون هويتهم الشعبية وانماطهم الثقافية وعاداتهم الاجتماعية على المدينة , سيما بعد توفر ثلاث عناصر من القوة وهى :

الاول : الوظائف الحكومية والعسكرية والقدرة المالية الكبيرة التي وفرتها لهم للدولة العراقية بعد السقوط عام 2003 وانضمام اغلبهم للطبقة الوسطى .

الثاني : الانضمام الى الحركات والتيارات والاحزاب السياسية والفصائل المسلحة , وهو ماشكل عامل قوة واعتزاز لهم , ومن ثم التمهيد الى تسلم المناصب الصغيرة والكبيرة في الدولة .

الثالث : تملق السياسيين للمهاجرين بعد ان وجدوا فيهم اصوات انتخابية للوصول الى مجالس النواب والمحافظات .

شكل المهاجرين و(اللفو) واهل المحافظات في العراق ثقلا كبيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد السقوط , حتى يمكن القول ان الحكم في العراق اليوم هو (حكم اللفو) او المهاجرين , ابتدا من رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني ومن سبقه بهذا المنصب , الذي هو بالاصل مهاجر من العمارة الى مدينة الحرية في بغداد , وانتهاء بأصغر مدير ناحية في العراق . (وقد فصلت ذلك قبل اكثر من اربع سنوات في دراستي في موقع الحوار المتمدن (من الذي يحكم في العراق : السراة الاعيان ام رجال الدين ام الشروكية) . بل يمكن القول ان حكم (اللفو) واهل المحافظات في الدولة العراقية لم يبدأ بعد السقوط عام 2003 , وانما بدأ بعد ثورة تموز 1958 التي وصفها رئيس الوزراء في العهد الملكي عبد الوهاب مرجان (بانها ثورة الريف على المدينة) , ابتدأ بحكم عبد الكريم قاسم (1958- 1963) (من مدينة الصويرة) او عبد السلام عارف (1963-1966) (من الانبار) واخيه عبد الرحمن عارف (1966-1968) (من الانبار) وانتهاء بحكم احمد حسن البكر(1968 – 1979) (من تكريت) وصدام حسين (1979 – 2003) (من تكريت) وكل هؤلاء من (اللفو) واهل المحافظات المهاجرين لبغداد , الذين تسلموا مقاليد السلطة من خلال الانقلابات العسكرية اولا , وركوب الموجات الثورية والنزعات الايديولوجية اليسارية والقومية ثانيا .

ان هذا الجدل او الصراع بين (اللفو) والسكان الاصليين في المدن هو جدل عقيم غير منتج , ولاينفع المجتمع في التضامن الاندماج والتوحد . فالسكان الاصليين عليهم ان يعترفوا بهذا الواقع , وان مايسمى باللفو اصبحوا اليوم هم الثقل البشري والاداري والتجاري والتعليمي في المدن العراقية عامة , وعماد الدولة العراقية وركيزتها القضائية والتنفيذية والعسكرية والتشريعية والاعلامية والادارية . ويجب بالتالي التكيف مع هذا الواقع . واما (اللفو) – او المهاجرين من جانبهم – فعليهم ايضا ان يتطبعوا بالنمط المدني والحضري , ويتركوا الماضي الكئيب والمتخلف والنسق الريفي والعشائري وراء ظهورهم , ويصبحوا اكثر اعتدالا وتحضرا واندماجا , حتى لو على سبيل التقليد والمحاكاة . فالتحولات الكمية تتحول بمرور الزمن الى تحولات بالكيف – كما يقول هيغل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *