رياض سعد
تشكّل ممارسات بعض بل أغلب أصحاب محطات الوقود الأهليّة في العراق مثالًا واضحًا على كيفية تحوّل السلوكيات الصغيرة وغير المحسوبة إلى ظاهرة اجتماعية واقتصادية سلبية واسعة… ؛ تُنهك المواطن وتُكرّس ثقافة الفساد والانحراف … ؛ فالقضية لم تعد مجرّد خمسُمئة دينار تُقتطع من كل سائق عند كل عمليّة تزوّد بالوقود، بل أصبحت ممارسة ممنهجة تستند إلى استغلال حاجة العمال، وتساهل المواطنين، وغياب الرقابة، وتطبيع السلوك الخاطئ باعتباره أمرًا اعتياديًا… .
أولًا: ظلم يتكرر عند كل «تفويلة»
رغم أن أصحاب المحطات الأهليّة يحققون أرباحًا كبيرة من بيع الوقود، إلا أنّ بعضهم يُجبر العمال ـ وهم غالبًا من ذوي الأجرة اليومية البسيطة التي لا تتجاوز 20 ألف دينار ـ على أخذ مبلغ ثابت من السائقين دون وجه حق، يُقدَّر بـ 500 دينار عند كل تزويد بالوقود ( تفويلة) .
ورغم أن المبلغ يبدو صغيرًا، إلا أن فرضه بالقوة ومن دون رضا السائق يجعله مبلغًا غير مشروع… ؛ كما أن اتخاذه عادة يومية يضاعف قيمته ليُصبح موردًا ضخمًا يصل إلى جيوب أصحاب المحطات، وليس إلى العمال الذين يتحملون مسؤوليته أمام الناس.
ثانيًا: المواطن محدود الدخل… الضحية الأكبر
أغلب السائقين في العراق من ذوي الدخل المحدود الذين يُرهقهم أي عبء مالي إضافي… ؛ والمبلغ المتكرر يوميًا، ومع كل تعبئة للوقود، يتحوّل إلى فاتورة ثقيلة تُضاف إلى معاناتهم… ؛ والأسوأ من ذلك أن هذا الاستقطاع يتم دون موافقة، ودون أي مبرر قانوني أو مهني... الخ .
ثالثًا: ظلم العامل واستغلال حاجته
المؤسف أن العامل لا يستفيد من هذه المبالغ، فهي لا تعدّ «إكرامية» تُقدَّم له برضا السائق، بل إتاوة مفروضة يُجبر على تحصيلها ونقلها إلى صاحب المحطة… ؛ وبهذا الشكل يتحوّل العامل من باحث عن لقمة عيش كريمة إلى طرفٍ يُكره على ممارسة فعل خاطئ، ويُحمَّل وزر سلوك ليس من اختياره… ؛ فإن اعترض، خسر عمله، وإن التزم بالأوامر أصبح شريكًا في ظلم الآخرين.
رابعًا: مخالفة قانونيّة تُشجّع على اتساع الفساد
هذا السلوك لا يضر المواطن فقط، بل يضرب المنظومة الأخلاقية والاقتصادية في المجتمع… ؛ فالسكوت عنه يشجع على انتشار ممارسات مشابهة، ويُحوّل استقطاع المال بغير حق إلى «عرف» متعارف عليه… ؛ وبذلك يصبح المجتمع أمام منظومة فساد صغيرة في شكلها… ؛ كبيرة في آثارها.
خامسًا: التطبيع مع الخطأ وتحويله إلى «حق»
الأخطر من كل ما سبق هو أن هذه الممارسات أصبحت مألوفة، حتى إن بعض العمال بات يرى أخذ هذه المبالغ أمرًا طبيعيًا ما دام الجميع يفعل ذلك… ؛ وهذا التطبيع يشكل خطرًا فكريًا وأخلاقيًا، لأنه يحوّل المال الحرام إلى سلوك مقبول، ويشجع الناس على السكوت عن التجاوزات.
سادسًا: ثقافة الاحتجاج بدل ثقافة الصمت
إن السكوت عن الحق يساهم في تضخيم الظلم، ولهذا فإن تنبيه العامل أو صاحب المحطة ـ بلطف وبأسلوب راقٍ ـ واجب أخلاقي… ؛ فمن حق المواطن أن يحصل على كمية الوقود التي يدفع ثمنها كاملة، ومن حق العامل أن يعمل دون أن يُجبر على مخالفة القانون، ومن حق المجتمع أن يحافظ على قيمه الاقتصادية والأخلاقية.
خاتمة
إن ظاهرة الاستقطاع غير المشروع في محطات الوقود الأهليّة ليست مجرد قضية «500 دينار»، بل هي قضية عدالة وحقوق وثقافة مجتمعية يجب إصلاحها… ؛ فالمبالغ الصغيرة حين تُجمع من آلاف السائقين يوميًا تُصبح مورداً كبيرًا من المال الحرام، وتساهم في إضعاف ثقة المواطن بالمؤسسات والخدمات.
وإيقاف هذه الممارسات يتطلب وعيًا شعبيًا، ورقابة حكومية، ومسؤولية أخلاقية من أصحاب المحطات، حتى يعود التعامل في هذه المرافق الحيوية إلى مساره الصحيح، القائم على احترام القانون وحفظ حقوق الناس.