العدالة بين النص والواقع

رياض الفرطوسي

لم تكن العدالة يوماً فكرة طارئة في وعي الإنسان.

منذ أن رفع أول مظلوم صوته في وجه القوة، وُلد هذا المعنى الثقيل: أن يكون الحق أقوى من السيف، وأن يكون الميزان أعلى من اليد.

وفي أعمق سرديات الوعي البشري، لم يكن نزول الأنبياء والرسل إلا محاولة كبرى لإعادة هذا الميزان إلى موضعه الصحيح.

جاءوا لا ليُكثروا الطقوس، بل ليقيموا القسط:

أن لا يُؤكل الضعيف باسم القوة،

ولا يُسحق الفقير تحت أقدام الامتياز،

ولا يتحول الإنسان إلى رقم في سجل الغلبة.

كانت العدالة، في أصل الرسالات، روح الرسالة نفسها.

ثم جاء الفلاسفة، كلٌّ بلغته، يحاولون الإمساك بهذه الفكرة الهاربة:

من رآها فضيلة،

ومن رآها نظاماً،

ومن رآها شرطاً لبقاء العمران،

ومن رأى في الظلم أول تشقّق في جدار الدولة.                                                                                                            مثل أفلاطون ، وأرسطو ، والفارابي ، وابن خلدون.

لكن التاريخ لم يُكتب فقط بالحِكَم، بل بالقوانين أيضاً.

قبل آلاف السنين، وقف حمورابي عند تخوم الفوضى، ونقش على مسلته الشهيرة محاولة إنسانية جريئة لترويض القوة بالنص.

قوانين قاسية أحياناً، ومنصفة أحياناً أخرى.

بعضها يُدرَّس اليوم في جامعات عريقة، بوصفه من أولى اللبنات الكبرى لفكرة “سيادة القانون”.

كان في تلك القوانين إنصاف للفقراء في مواضع، وجور عليهم في مواضع أخرى.

عدل ناقص… لكنه كان خطوة إلى الأمام في زمن كان الظلم فيه هو القاعدة، لا الاستثناء.

وفي الضفة الأخرى من التاريخ، لم تكن العدالة عند الإمام علي نصوصاً تُتلى فحسب، بل سلوكاً يُمارَس.

حين كتب لولاته، لم يوصهم بالقوة، بل بالإنصاف.

وحين وقف أمام خصمه في القضاء، قبل أن يُنادى بلا لقب.

كانت العدالة، عنده، امتحاناً يومياً للنفس قبل أن تكون حكماً على الآخرين.

ثم جاء الإمام جعفر الصادق، ليمنح العدالة بعدها الأعمق:

أن لا تستقيم في الخارج إن لم تستقم أولًا في الداخل.

فلا قانون يُنقذ مجتمعاً، إن كان الضمير معطّلًا.

هنا، يبدو أن العدالة، عبر التاريخ، سارت في ثلاثة مسارات متداخلة:

في السماء كرسالة،

وفي الأرض كقانون،

وفي النفس كاختبار.

لكن حين نعود إلى الواقع، يظهر السؤال القديم بثوب جديد:

لماذا تبدو العدالة، في النصوص، مستقيمة لا انحناء فيها…

وفي الحياة، مائلة أحياناً حدّ الانكسار؟

القوانين، في معظمها، محكمة الصياغة.

العبارات دقيقة.

المواد متوازنة.

لكن المشكلة لا تسكن في الحروف، بل في المسافة التي تفصلها عن التطبيق.

هناك، في تلك المسافة، تدخل أشياء لا يذكرها النص:

النفوذ،

المجاملة،

الخوف،

التأجيل،

و”الضرورة” التي تتضخم حتى تبتلع القاعدة.

العدالة، حين تُرهق، لا تصرخ.

هي تنسحب بهدوء.

تصير بطيئة عند البعض، وسريعة عند آخرين.

تصير دقيقة حين يكون الخصم ضعيفًا، ومرنة حين يكون قوياً.

وعند تلك النقطة، لا يعود السؤال:

هل القانون موجود؟

بل:

هل الجميع متساوون أمامه فعلًا؟

الناس لا يطلبون عدالة مثالية، ولا ينتظرون مدينة فاضلة.

هم يريدون فقط أن يشعروا أن الميزان لا يُدار من خلف الستارة،

وأن الخطأ لا يتحول إلى وجهة نظر حين يكون صاحبه محاطاً بالحصانة،

وأن الصواب لا يُعاقَب لأنه بلا سند.

أخطر ما يصيب العدالة ليس الظلم وحده،

بل فقدان القدرة على توقعها.

حين لا يعرف الإنسان إن كان الحق سينقذه أم سيتركه وحيداً في المنتصف.

حين يصبح الحظ أقوى من النص،

وتغدو المصادفة أعدل من النظام.

ومع ذلك، تبقى العدالة فكرة عصيّة على الموت.

تُهزم جولة، وتعود في التي تليها.

تُدفن تحت ركام الوقائع، ثم تطلّ من فجوة صغيرة في الضمير.

هي ليست شعاراً سياسياً،

ولا زينة لغوية في الخطب،

ولا مادة محفوظة في الدساتير فحسب.

العدالة هي الإحساس العميق بأن العالم، رغم كل شيء، ما زال قابلًا لأن يُفهم، وأن يُحتمل، وأن يُصدَّق.

بين النص والواقع، مسافة طويلة.

لكن هذه المسافة، إن تحوّلت إلى هاوية، لا يسقط فيها القانون وحده…

يسقط معها معنى الطمأنينة، ومعه الثقة، ومعها فكرة الغد نفسها.