الكاتب : حسين إبراهيم، سرى جياد
الفساد متأصّل في العراق منذ زمن طويل، إلّا أن الخراب الكبير لم يحلّ إلّا بعد مجيء الاحتلال. وعلى رغم أن فساد الطاغية والعشيرة أيّام صدام حسين، هو الذي فتح الباب للاحتلال، إلّا أن تلك الآفة تعمّمت حتى صارت متغلغلة في كلّ مفاصل الدولة نزولاً حتى صغار الموظفين بعد عام 2003، على يد طبقة أتقن أركانها اللعب على الحبال، فحالفوا أميركا في العمق، وإيران في العلن، وبعضهم مدّ ارتباطاته في أكثر من اتّجاه، صوْب إسرائيل وتركيا ودول الخليج.
ما يجري في العراق حالياً من صراع سياسي مستعصٍ على الحلّ، وأحداث أمنية، صار، إلى جانب أسبابه السياسية، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالفساد الذي نخر البلد، وولّد معاناة يومية بسبب تردّي مستوى الخدمات. ولن يكون من المجازفة، في البحث عن هويّة الفاسدين، ترداد قول الشاعر مظفّر النوّاب: «لا أستثني منكم أحداً»، في «بلد المليون فاسد»، إن صحّت الاستعارة العكْسية من اللقب الذي تُعرف به الجزائر. فالفساد معمَّم على كلّ «المكوّنات»، وكلّ الأحزاب، بحيث صارت الوزارات والإدارات الحكومية محميّات لهذا الحزب أو ذاك. لكنه لم يصبح عنواناً أوّل للصراع السياسي، إلّا بعد حراك تشرين 2019، الذي أطاح بحكومة عادل عبد المهدي. غير أن الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي أيضاً لم تستطع تحقيق أيّ تقدّم في عناوين الإصلاح، بغضّ النظر عن مسؤولية الكاظمي الشخصية من عدمها. وحتى مقتدى الصدر الذي جعل الحرب على الفساد شعاره الأوّل، لديه فاسدون في تيّاره، مِمّن يتخندقون في أجهزة الدولة؛ فهو نفسه اضطرّ إلى التدخّل للطلب من وزراء محسوبين عليه الاستقالة بعد فضائح في وزاراتهم، كما حصل إثر انقطاع الكهرباء التامّ عن العراق وحرائق مستشفيات «كورونا» في صيف عام 2021.
انتشار الفساد في جسد العراق، كان دائماً صِنْواً للاحتلال. وأميركا تتقن في أدبيّاتها السياسية، فنّ إدانته في العلن ودعمه في السرّ، متى كان الفاسدون في صفّها. وكلّ مَن تعاقبوا على رئاسة الوزراء في حكومات ما بعد الاحتلال، ومعظم مَن تولّوا الوزارات، كانت لهم علاقات بالأميركيين يبدو رهانهم الأكبر عليها، على رغم أن الكثيرين منهم يُحالفون إيران في العلن، بل ما كان لهؤلاء أن يتمكّنوا من السرقة لولا علاقاتهم الأميركية. فالفساد يحتاج إلى أموال، والقناة الرئيسة لضخّ الأموال هي حساب في أحد فروع الاحتياط الفيدرالي الأميركي يعود إلى الحكومة العراقية، ويصبّ فيه جزء كبير من عائدات النفط، بحسب تقرير موسّع عن الفساد العراقي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» العام الماضي. ويُورد التقرير أنه يتمّ نقل نحو مليارَي دولار نقداً، جوّاً إلى بغداد، كلَّ شهر، لتُضخّ في الاقتصاد عبر البنوك التجارية. ويحصل الفاسدون على حصّتهم من هذه الأموال، عبر آلية تُسمّى «مزاد الدولار»، كان الاحتلال قد طبّقها لشراء دنانير يموِّل بها الرواتب عندما كان يدير البلد مباشرة، واستمرّت بعد نقل السلطة إلى العراقيين. ويقوم النافذون، بحسب التقرير ذاته، بإنشاء شركات وهمية وإعداد فواتير استيراد مزيّفة للحصول على تلك الدولارات، ومن ثمّ ينقلونها إلى حساباتهم في بنوك خارجية، وهذا أيضاً يحتاج إلى موافقة أميركية. لكنّ الأميركيين يحرصون على ألّا تصل الأموال إلى حلفاء إيران من الفصائل المسلّحة، مِن مِثل «كتائب حزب الله». ولذا، يتدخّل نظام العقوبات عند الشكّ في ذلك. ويبيّن الباحث رافد العطواني، في حديث إلى «الأخبار»، أن «جزءاً من هذا الفساد ذهب لشراء الذمم والسيطرة على التنظيم الحزبي للأحزاب، كما يمكن شراء طبقة كاملة من الجماهير وبعض المفكّرين والإعلاميين بسبب غياب قانون الأحزاب وقانون من أين لك هذا. وبعض هذه الأحزاب كانت تعتاش على الدول التي كانت حاضنة في الجوار أو في بعض الدول الأوروبية، ثمّ بعد دخولها العراق، تحاصصت في تشكيل الحكومات بأخذ الوزارات التي أصبحت دكاكين لها».
قبل حوالى ثلاثة أسابيع، بادر وزير المالية، علي علاوي، إلى تقديم استقالته على رغم أن الحكومة نفسها مستقيلة، مُعلِّلاً إيّاها بـ«استفحال الفساد»، ومتحدّثاً خصوصاً عن تغريم القضاء «مصرف الرافدين» بـ600 مليون دولار لمصلحة شركة «بوابة عشتار» لخدمات الدفع الإلكتروني بعد إلغاء عقد معها، على رغم أن رأسمال الشركة لا يتجاوز 7 ملايين دولار، وهي كانت قد أُسِّست قبل شهر فقط من منْحها العقد. كما أن مالكها، علي غلام، الذي تَحوّل من صاحب «بسْطة» قبل الاحتلال، إلى مالك 3 بنوك بَعْده، شخصية مثيرة للجدل، وتتقاذف الأطراف الشيعية الاتّهامات باحتضانه. وفيما طالب الصدر، في شباط الماضي، بإيقاف تهريب العملة وإعادة النظر في بعض البنوك، مُسمّياً البنوك الثلاثة التي يملكها غلام، وهي «الشرق الأوسط» و«القابض» و«الأنصاري»، واتّهم أحدُ نوّاب كتلته الأخير بأنه «إطاري»، هاجمت النائبة في «ائتلاف دولة القانون»، عالية ناصيف، غلام وطالبت بمحاسبته، ولمّح بعض آخر إلى أنه كان ينتمي إلى «التيّار الصدري». وفي المقابل، يتّهم «الصدريون» رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، بأنه الأكثر فساداً من بين رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على السلطة. وأيّاً يكن، فاللافت أن ثقافة الفساد أسالت لُعاب حتى الموظفين العراقيين، في القطاعَين العام والخاص على السواء. وفي حين أنه من الصعوبة بمكانٍ تخليص معاملة من دون رشوى، أوردت «هيئة النزاهة»، في تقرير في حزيران الماضي، أن مصرفَين هما «الرشيد» و«التعاون الزراعي»، مع 40 شخصاً بينهم موظّفون وزبائن، اختلسوا أموالاً عامة تُقدَّر بـ700 مليون دولار.
وبالعودة إلى المستويات الأعلى، فقد سُرّب، قبل فترة، مقطع فيديو يَظهر فيه وزير الصناعة السابق، صالح الجبوري، مؤدّياً القَسَم على المصحف أمام رئيس «حزب الجماهير» أحمد الجبوري (أبو مازن) الذي كان منضوياً ضمن «تحالف عزم» (يرأسه خميس الخنجر)، بوضْع الوزارة تحت تصرّفه. وبرّر الأخير القَسَم بأنه من أجل «خدمة العراق»، مُتّهماً الخنجر بالوقوف وراء التسريبات على خلفيّة انسحاب «الجماهير» من «تحالف السيادة» الذي يضمّ كتلتَي «عزم» و«تقدّم». كما هدّد «أبو مازن» بنشر ملفّات فساد تشمل محافظات الأنبار وديالى ونينوى، وصفقات تُموّلها منظّمة الـ«UNDAF» التابعة للأمم المتحدة لإعمار المدن المُحرَّرة. وفي السياق نفسه، يُتّهم رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، بأنه يدير شبكة فساد في محافظة الأنبار التي تُعدّ مسقط رأسه ودائرته الانتخابية ومركز حزب «تقدم» الذي يترأّسه. وبحسب مصدر من المحافظة رفض الكشف عن اسمه، فإن «كلّ الدرجات الوظيفية المخصّصة للأنبار يحوّلها الحلبوسي إلى منطقة الكرمة لصالح أتباعه وأقاربه». ويستدرك المصدر، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «تحالف السيادة بدأ يفقد سطوته وتفرّده في إدارة المحافظات المحرَّرة بدءاً من نينوى وصلاح الدين وانتهاءً قريباً بالأنبار».
أمّا الباب الأوسع للفساد، فهو قطاع النفط الذي سيطرت عليه الشركات الأميركية والغربية إثر الغزو، وشرّعته للنهب المنظَّم للعائدات. ويقدّر الباحث رافد العطواني قيمة الأموال التي نُهبت منذ ذلك الوقت «بأكثر من 400 مليار دولار عن طريق استخدام الوزارات التي تملك فيها الأحزاب مكاتب اقتصادية، تأخذ المشاريع عبرها». ومنذ عام 2003، يَبرز دورياً الحديث عن تورُّط شركات غربية نفطية أو أمنية أو غيرها في فضائح، لعلّ أكبرها ما كشفته بوناتين غرينهاوس، التي كانت أرفع ضابط مدني أميركي في العراق، أمام الكونغرس، من محاولة لمنْح شركة «كيلوغ بروان آند روت» التابعة لشركة «هاليبرتون» النفطية التي كان يترأّسها ديك تشيني، عقْد تموين للجيش الأميركي بقيمة 7 مليارات دولار، من دون مناقصة، وفي النتيجة أدّت الفضيحة إلى تقسيم العقد بين شركات عدّة من بينها الشركة المذكورة. وآخر مثال على ما تَقدّم، رفع دعوى في أميركا أخيراً ضدّ شركة «إريكسون» السويدية من قِبَل مئات ضحايا «داعش»، بتهمة دفع أموال للتنظيم لتسهيل أعمالها في مناطق سيطرته. ولا يمكن الحديث عن الفضائح أيضاً، من دون ذكر الفساد المغمَّس بالدم لشركة «بلاكووتر» للخدمات الأمنية، والتي أقرّت عام 2009 دفْع رشًى لمسؤولين عراقيين بقيمة مليون دولار، لشراء صمتهم عن مجزرة ساحة النسور في بغداد، والتي ارتكبها عناصرها بحق 17 عراقياً عام 2007، ثمّ أعفى الرئيس السابق، دونالد ترامب، أربعة من المتورّطين فيها من إتمام عقوبة السجن في عام 2020 قبل مغادرته البيت الأبيض.
على أن الفساد النفطي الأكبر يحصل في إقليم كردستان، حيث مسؤولو الإقليم يتحكّمون بالثروة النفطية بكاملها، عبر تصريفها بشكل غير قانوني إلى تركيا أو إسرائيل. ويقول المعارض السياسي الكردي، مكي أوميدي، لـ«الأخبار»، إن «حالة الفساد في كردستان واضحة جداً… ولا تُعقد جلسة للبرلمان في أربيل من دون الحديث عن الفساد في الوزارات وفي الشركات وفي مجال النفط، وفي مجال المعابر الحدودية». ويَلفت إلى أن «المشكلة الكبيرة هي أن الشركات التي تقوم بتنفيذ معظم المشاريع ومعظم الأعمال التجارية والاستيراد والتصدير تابعة للعائلتَين الحاكمتَين في الإقليم، بارزاني وطالباني»، مضيفاً أن مسؤولي كلا الحزبَين «يعطون مجالاً للتحدّث عن الفساد أمام الصحافة والبرلمان، لكن لا توجد أيّ معالجات أو مكافحة. في الواقع يجري عكْس ما يقولون».
على أيّ حال، وحين يفضح الفاسدون بعضهم بعضاً، تنشأ بلا شكّ ملفات قضائية. إلّا أنه، وعلى رغم حصول توقيفات ومحاكمات، تظلّ هذه مدفوعة سياسياً، وعادةً ما لا تطاول الرؤوس الكبيرة. وفي هذا الإطار، يقول الباحث شيروان شميراني، لـ«الأخبار»، إن «كسْب الحرب على الفساد صعب للغاية، لأن القائمين على شؤون الحكومة في غالبيّتهم هم المفسدون، كأنك تحارب مافيات المخدّرات في دول أميركا الجنوبية»، مضيفاً أن «هذا الفساد انعكس على جميع القطاعات، وفي مقدّمتها الكهرباء والصحّة، وامتدّ إلى الجيش، حتى أقرّ رئيس الحكومة الأسبق، حيدر العبادي، بوجود عشرات الآلاف من الأسماء الوهمية فيه، وكان ذلك من أسباب انهياره أمام داعش في عام 2014، وأيضاً على سعر الدينار نتيجة إفراغ الخزينة من الاحتياطي بعشرات مليارات الدولارات». وفي مقابل تلك الصورة القاتمة، يتحدّث رئيس «مؤسّسة النهرين لدعم الشفافية والنزاهة»، محمد رحيم الربيعي، لـ«الأخبار»، عن «تطبيق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ودعم النزاهة، والذي بدأ عام 2021، وسيستمرّ إلى عام 2024»، متوقّعاً «تصاعُداً تدريجياً في قضايا مكافحة الفساد ونشاطات مهمّة لهيئة النزاهة والقضاء أيضاً»، لافتاً إلى «إصدار أوامر استقدام تطبيقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حيث قام العراق بتوقيع مذكّرات تفاهم مع بلدان عديدة لاسترداد الأموال المنهوبة، واتفاقات تعاون وشراكات دولية ومحلّية لاستشارات التدريب والمساعدة». إلّا أن الربيعي ينبّه إلى أن «الأحكام تتمّ وفقاً لقوانين قديمة لا تجرّم أغلب أفعال الفساد، وبالتالي يتمّ الحُكم على الفاسد أو المتسبّب بالهدر بأحكام مخفّفة».
بالنتيجة، شبكة الفساد في العراق معقّدة للغاية. ولذا، لن تكون مكافحته ممكنة إلّا إذا رفعت أميركا يدها عن العراق، وهو ما لن يحصل إلّا إذا أُجبرت على ذلك. وعليه فإن الطريق الوحيد للخلاص من الاحتلال ومن الفساد معاً، هو المقاومة، ولا شيء آخر.