الكاتب : قاسم محمد داود
حاولت قوى الإسلام السياسي الشيعي في العراق وما زالت تحاول إعادة صياغة الحياة الاجتماعية في البلاد، وذلك من خلال عدة وسائل وآليات تتماشى مع رؤيتها الأيديولوجية والدينية. فقد سعت هذه القوى ومن خلال سيطرتها على الدولة بكافة مفاصلها إلى تعزيز التشريعات التي تتوافق مع مفهومها ورؤيتها للشريعة الإسلامية، بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية، والتي تؤثر بشكل مباشر على قضايا الزواج والطلاق والميراث. وهناك جهود حثيثة ومستمرة لتضمين المزيد في النظام القانوني والاجتماعي، مما قد يحد من الحريات الشخصية للمكونات والمجموعات أو الأفراد الذين لا يشاركون نفس الرؤية الدينية. ومن ضمن ما يجري هناك محاولات لإدخال مناهج دراسية تعتمد على التعاليم الإسلامية الشيعية، مع التركيز على تعزيز الهوية الدينية في المدارس والجامعات.
هذه المحاولات وغيرها تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع العراقي وعملية تحوّل الطائفية من ظاهرة اجتماعية أو دينية إلى سياسية ونظام مؤسسي يترسخ في البنية السياسية والاجتماعية للدولة والمجتمع، بعد أن نجحت في إدخال الانقسامات الطائفية إلى قلب النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وتم ذلك من خلال تقسيم السلطة والمناصب الحكومية على أسس طائفية، حيث يتم تخصيص مناصب معينة لمكونات مذهبية وعرقية محددة، مثل رئاسة الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الجمهورية للأكراد. وتوزيع السلطة والثروة على أساس الانتماءات الطائفية والعرقية، بدلاً من الكفاءة أو الولاء الوطني. وبلا شك فإن مأسسة الطائفية تؤدي إلى تآكل الهوية الوطنية الشاملة لصالح الهويات الطائفية الضيقة، مما يعزز الانقسامات ويضعف الوحدة الوطنية. حيث أن الأفراد يصبحون مرتبطين أكثر بهويتهم الطائفية مما يؤدي إلى زيادة الاستقطاب داخل المجتمع. ويمكن أن يؤدي إلى صراعات داخلية بين الطوائف المختلفة، بسبب تنافس كل طائفة على السلطة والموارد وإلى عدم استقرار سياسي دائم وصراعات طائفية متكررة.
القوى الطائفية التي تسعى إلى فرض قيم وأيديولوجيات معينة على المجتمع ككل، سيؤدي عملها هذا إلى تغيير جذري في أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية، لأن إعادة تشكيل المجتمع يمكن أن تشمل تعزيز الهوية الطائفية على حساب الهويات الأخرى، بما في ذلك الهوية الوطنية أو العرقية، يتم ذلك من خلال تعزيز المناسبات والرموز الدينية للطائفة المهيمنة، وتقليل أو تهميش الرموز الثقافية للطوائف الأخرى. ويمكن أن تتضمن إعادة تشكيل المجتمع إلى تغييرات في كيفية توزيع الموارد الاقتصادية والوظائف الحكومية، بحيث يتم تفضيل الطائفة المهيمنة، مما يؤدي إلى تغييرات في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي.. قد تؤدي هذه العمليات إلى زيادة الانقسام الطائفي داخل المجتمع العراقي، مما يعزز من الصراعات والاحتقان الطائفي. ويبدو أن قوى الإسلام السياسي، والشيعي تحديدا باعتبار أن الأعم الأغلب من القوى السياسية الفاعلة هي الآن تمثل الإسلام السياسي الشيعي، تعمل وفق استراتيجية “حاكمية الفقيه”، فيمكن ترسيخها عن طريق مبدأ الأغلبية البرلمانية. ولذلك نجد خطاب السياسيين الشيعة يركز على مبدأ الأغلبية المكوناتية، والأغلبية البرلمانية عندما يتعلق الموضوع بفرض المناسبات والعطلات الدينية، وتشريع القوانين التي تحمل في طياتها الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
أن إضعاف المؤسسات الوطنية وتفاقم الفساد في الدولة كان النتيجة الحتمية عندما صارت الطائفية جزءاً من هيكل الدولة، ومن الممكن أن تؤدي الطائفية إلى زيادة التوترات مع دول الجوار التي قد تتدخل لدعم طائفة معينة على حساب أخرى. هذه العمليات تؤدي إلى تقويض أي جهود لبناء هوية وطنية موحدة وشاملة في العراق. فعندما تتحول الطائفية إلى نظام سياسي، تتراجع الهوية الوطنية الشاملة لصالح الهويات الطائفية الضيقة، بالتالي مأسسة الطائفية وإعادة تشكيل المجتمع العراقي هما عمليتان يمكن أن تكون لهما تداعيات خطيرة على الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، وتجعلان من الصعب تحقيق السلام والوحدة الوطنية على المدى الطويل. لأن المواطنين يبدؤون في رؤية أنفسهم أولاً كأعضاء في طوائفهم وليس كعراقيين، مما يؤدي إلى تقويض مفهوم الدولة ككيان يوحد جميع المواطنين تحت راية واحدة.
إن مأسسة الطائفية وتقسيم المؤسسات الحكومية على أساس طائفي، يؤدي إلى ضعف التنسيق بين المؤسسات الحكومية وتراجع فعاليتها، وأن تتحول إلى أدوات لخدمة مصالح الطائفة بدلاً من خدمة المصلحة الوطنية العامة وتعزز ثقافة المحسوبية، حيث يتم توزيع المناصب والموارد بناءً على الانتماء الطائفي وليس على الكفاءة أو الجدارة. وينتشر الفساد ويتفشى في جميع مستويات الدولة، حيث يسعى كل فرد أو جماعة إلى استغلال المنصب لخدمة المصالح الشخصية. ويترتب على ذلك نشوء سلطات موازية تابعة للطوائف، مثل الميليشيات المسلحة، التي تمارس نفوذها خارج إطار الدولة وتتنافس مع الحكومة المركزية على السلطة. وتضعف قدرة الدولة على فرض القانون والنظام في جميع أنحاء البلاد. حتى أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تصبح رهينة للتوازنات الطائفية، مما يؤدي إلى تعثر المشاريع الوطنية الكبرى.
في المجمل، مأسسة الطائفية تؤدي إلى تآكل سلطة الدولة وتفتيت وحدتها، مما يضعف قدرة العراق على التقدم كدولة موحدة ومستقرة، ويجعلها أكثر عرضة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية.
أن محاولات فرض قوانين تجعل الدولة والمجتمع تسير وفق مفهومهم معين للشريعة، ينطوي ضمناً أو صراحة على رغبة كامنة في نفوسهم وتهيمن على مخيالهم السياسي بفرض الحكم بعنوان ديني، وهنا تُحكم حلقات السيطرة على المجال العام وعلى النظام السياسي والدولة من قبل فئة واحدة وتفرض وصايتها على المجتمع وتكون في موضع القيم على تفكير الملايين من الناس. وهذا هو الجانب الأخطر في مسألة دمج الدين بالدولة، فالدين ليس محض منظومة اعتقاد وشرائع، بل هو أيضاً مؤسسات يديرها بشر لهم من المطامح والمصالح ما لغيرهم.
أن الظروف الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية تتغير بمرور الزمن، وبالتالي، القوانين والتشريعات التي كانت ملائمة في سياق معين قد لا تكون كذلك في سياق آخر. مع ذلك، هناك من يجادل بأن بعض المبادئ والقيم يمكن أن تكون عالمية وتصلح للتطبيق عبر الأزمنة المختلفة، مع إمكانية التعديل والتطوير للتكيف مع الظروف المستجدة. في النهاية، توازن بين الحفاظ على التراث والقيم من جهة، وبين التكيف مع المتغيرات الحديثة من جهة أخرى، هو التحدي الرئيسي في مثل هذه النقاشات.
في العصور الوسطى، كانت الأفكار والتشريعات الدينية تلعب دورًا مركزيًا في توجيه الحياة الاجتماعية والسياسية، ولكن العالم اليوم يواجه تعقيدات وتحديات جديدة تتطلب حلولًا تتجاوز الفهم القديم. فعلى سبيل المثال، مفاهيم مثل حقوق الإنسان، الديمقراطية، التعددية، والتكنولوجيا لم تكن موجودة أو متطورة في تلك الفترة، الحكم في العصر الحديث يتطلب فهمًا عميقًا للعلوم الحديثة، الاقتصاد، السياسة الدولية، والتكنولوجيا، وهي مجالات قد لا تغطيها التشريعات والأفكار الدينية القديمة بشكل كافٍ. هذا لا يعني بالضرورة استبعاد الدين من الحياة العامة، ولكن يشير إلى الحاجة لفصل الدين عن السياسة وتطوير نظام حكم يعتمد على المبادئ الحديثة التي تضمن العدالة والحرية للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية.