فاضل حسن شريف
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله عز وجل “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (مريم 29) “فأشارت إليه” أي: فأومت إلى عيسى عليه السلام بأن كلموه واستشهدوه على براءة ساحتي فتعجبوا من ذلك ثم ” قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” معناه: كيف نكلم صبيا في المهد وقيل صبيا في الحجر رضيعا وكان المهد حجر أمه الذي تربيه فيه إذ لم تكن هيأت له مهدا عن قتادة وقيل إنهم غضبوا عند إشارتها إليه وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناها فلما تكلم عيسى عليه السلام قالوا إن هذا الأمر عظيم عن السدي. وجاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله عز وجل “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (مريم 29) “فَأَشارَتْ إِلَيْهِ” تستشهده على براءتها، وهو أصدق الشاهدين، لأنه ينطق بلسان اللَّه “قالُوا” متعجبين: “كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا”.
عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز وجل “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (مريم 29) إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم ويكشف لهم عن حقيقة الأمر، وهو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: “فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ” على ما تقدم البحث عنه. والمهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه وينوم عليه، وقيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، وقيل المرباة أي المرجحة، وقيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، والحق أن الآية ظاهرة في ذلك ولا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها وكلموها بعد ما رجعت إلى بيتها واستقرت فيه وهيئت له مهدا أو مرجحة وتسمى أيضا مهدا. وقد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين ولا استغراب فيه. وأجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد ومنه قريب يلي الحال وإنما يفسد المعنى لوكان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، وأما لو كان هو القريب المتصل بالحال وهو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. والوجه للزمخشري في الكشاف. وفيه أنه وإن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحوإنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه وتكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون كان زائدا مستدركا. وأجيب عنه ثانيا: بأن قوله: “كيف نكلم” لحكاية الحال الماضية و “من” موصولة والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا. وهذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف. وفيه أنه وإن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم. وأجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و “من كان في المهد” مبتدأ وخبر، وصبيا حال مؤكدة. وفيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: “كان” الزائدة تدل على الزمان وإن لم تدل على الحدث. وأجيب عنه رابعا بأن “من” في الآية شرطية و “كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” شرطها وقوله: “كيف نكلم” في محل الجزاء والمعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه والماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال. وفيه أنه تكلف ظاهر. ويمكن أن يقال: إن “كان” منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط والجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أوإن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه وتحققه فيه ولزومه له كقوله تعالى: “قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا” (الإسراء 93) أي إن البشرية والرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، وقوله تعالى: “وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا” (الإسراء 33) أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه ويكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث وسيلبث في صباه برهة من الزمان. والله أعلم.
جاء في معاني القرآن الكريم: مهد المهد: ما يهيأ للصبي. قال تعالى: “كيف نكلم من كان في المهد صبيا” (مريم 29) والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ. قال تعالى: “الذي جعل لكم الأرض مهدا” (طه 53)، و “مهادا” (النبأ 6) (الآية: “ألم نجعل الأرض مهادا”) وذلك مثل قوله: “الأرض فراشا” (البقرة 22) ومهدت لك كذا: هيأته وسويته، قال تعالى: “ومهدت له تمهيدا” (المدثر 14) وامتهد السنام. أي: تسوى، فصار كمهاد أو مهد.
ادخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين عليهما السلام وهما طفلان في شهادة صلح الحديبية “لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا” (الفتح 18) كما ذكرت ذلك روايات منها الطبراني والخطيب البغدادي. وهذا حصل مع عيسى عليه السلام “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا” (مريم 29-31). وكذلك النبي يحيى عليه السلام “يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا” (مريم 12). وفي حقيقة الأمر أن الله تعالى هو الذي أمر باختيار الحسن والحسين عليهما ليكونا شاهدين في صلح الحديبية.
الامام الحسن العسكري عليه السلام كان يقول لبني العباس اليست اية الولاية نزلت بنا “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ” (المائدة 55) واية اكمال الدين”الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (المائدة 3) واية المودة او القربى”قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى” (الشورى 23) ولكن لمن تنادي للذين جاؤوا وحكموا بالغدر. وشهد هذا العصر إمامة موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد المهدي المنتظر، وانتهى بغيبة الإمام المهدي. وكان سنه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عند استشهاد أبيه الامام الحسن العسكري عليه السلام خمس سنين، حينما آتاه الله سبحانه الحكم صبياً كما آتاه النبي يحيى عليه السلام”يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا” (مريم 12)، وجعله في حال الطفولة إماماً كما جعل نبينا عيسى عليه السلام نبياً في المهد صبياً”قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (مريم 29). وهو امام عصرنا، نعتقد بهذا لإخبار النبي صلى الله عليه واله وسلم به. وطول غيابه وعمره الطويل لا يثير الدهشة بعد أن نسمع بأشخاص آخرين عمروا طويلاً كالنبي نوح عليه السلام والخضر عليه السلام، وكذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه.