الكاتب : فاضل حسن شريف
عن تفسير الميسر: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ امة اسم، مَنَاسِكَنَا: مَنَاسِكَ اسم، نَا ضمير، أَرِنَا مَنَاسِكَنَا: علمنا كيف نحج بيتك، مناسكنا: شرائع عبادتنا أو حجنا. ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام، منقادَيْن لأحكامك، واجعل من ذريتنا أمة منقادة لك، بالإيمان، وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك، وتجاوز عن ذنوبنا. إنك أنت كثير التوبة والرحمة لعبادك.
تكملة للحلقة السابقة عن المركز الاسترتيجي للدراسات الاسلامية التحديد المفاهيمي لمصطلحيّ الأمّة والمُواطَنة للسيد صادق عباس الموسوي: لهذا المفرد تاريخٌ عريقٌ في اللغةِ العربية وفي المجال الثقافيّ والسياسيّ الإسلاميّ، حيث يرى (ماسينيون) أنَّ المصطلحَ إِستُعمِلَ في الإسلام بمعنى (الجماعة من الناس التي أَرسلَ الله لها نبّياً وآمنت به فارتبطت بعقدٍ مع الله من خلاله). لكن لو تحرَّينا بدّقة عن تاريخَ المصطلح فلن نجدَ هذا المعنى الواسع، بل سنلحظ أنَّ مصطلحَ الأُمَّـة كان يشيرُ بوضوحٍ وتأنٍ إلى خصوصِ المُسلِمين وديارهم، وهذا ما سيظهر عندما سنستعرِضُ استعمَالاتِهِ المختلفة. ولكن بدأَ هذا المدلولُ يتَّسِعُ شيئاً فشيئاً، فبعد أن كان مُختّصاً بالمُسلِمين توسَّعَ ليشملَ أقواماََ أخرين يُصَّنفون بحسب الدين، ثمّ بعد ذلك يخلع ثوبَه الدينيّ لينطبق على شعوبٍ مختلفةٍ باعتباراتٍ متنَّوعة. لذلك يمكن لنا أن نخلصَ إلى أنّ المفهوم المذكور استُعمِلَ جدّياً بمداليل ثلاثة انطلاقاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووصولاً إلى القرن التاسع عشر وهذه المداليل هي: الأوّل: الدولة الإسلامية أو أراضي الخلافة: حيث تكون السطوة السياسيّة للمسلمين، فكلُّ دارٍ يسيطرُ المُسلِمون على حكمها وينفذون إلى إدارتها بحيث تكون خاضعةََ لهم، وتحت رغبتهم وفي ظلِّ سطوتهم هي أرضُ الأُمَّـة، وحيث نجد في هذا المدلول مُقَّّوِمان أساسيّان هما البعدُ المكانيُّ والسلطة السياسيّة. فتكون الدولة تعبيراً عن الأُمَّـة، فتتعدَّد داخلها الإنتماءات الفرعيّة إلا أنّ جامعةً سياسيّةً واحدة تربطُ بين المنتمين لها، هذه الجامعة قد تقبل لأسباب إقتصاديّة أو أمنيّة تعدُّداً في الإنتماءات الأوليّة للجماعات المكوِّنة للأُمَّة، دون أن يعني ذلك تعارُضاً مع المبادىء الدينيَّة التي قامت الدولة على أساسها وبين ضرورات المصلحة الشرعيّة التي رضيت أن يكونَ بين مواطني الدولة الإسلاميِّة آخرون لا يؤمنون بالدين الإسلامي. في هذا المجتمع، تسودُ العلاقات التعاضُديّة وعلاقات المنفعة والمصلحة المشتركة، على ما يحمل هذان المفهومان من تناقض وتوافق في وعاء الأُمَّـة الإسلاميِّة. وقد استُعمِلَ هذا المعنى بشكلٍ كبيرٍ في مستهلّ بناء الدولة الإسلاميِّة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة، حيث وردَ نصُّ خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ يهودَ بني عَوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهودِ دينُهم وللمسلمين دينُهم، مواليهم وانفسهم، إلا من ظلم). حيث يظهرُ من هذا النّص أنَّ المقوِّمَ لمصطلحِ الأُمَّـة هو الرابطُ السياسيُ حيث تكون السلطة بيد المُسلِمين. ويُرادف هذا النص تعبيرٌ آخر، كان متداولاً بين المُسلِمين، هو دار الإسلام، وهي البلاد التي يحكمها المُسلِمون، حيث يقولُ الفقيهُ الشافعيُّ الرافعي (643هـ): ليس من شرط دار الإسلام أن يكونَ فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام. فالمعيار الأساس فيها ليس ديانة المحكومين بل الحاكمين. وكذا دار الهجرة، وهي المناطق التي هاجر إليها المُسلِمون، هذان الداران يُعبِّران عن معنى الأُمَّـة بقسمهِ السياسي حيثُ يخضعُ الجميعُ لأحكامِ الإسلام، ويُنفَقُ على المُسلِمين من بيت المال وتجري أحكامُ القَصاص والحدود والدِّيات وفق الشريعة. يذكرُ ذلك رسولُ الخليفةِ الأوَّل إلى اليمامة بأنّه: (أيُّّما شيخٍ ضَعُفَ عن العمل أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيّاً فافتقرَ، وصار أهلُ دينِهِ يتصَّدقون عليه، طُرِحت جزيته وعيلَ من بين مالِ السلمين وعياله ما أقامَ بدار الهجرة ودار الإسلام). فالداران المذكورتان هما أرضان يحكمُها المُسلِمون بخلاف دار الحرب التي يفصلُ السيفُ بينها وبين أراضي المُسلِمين، وبالتغاير عن دار العهد التي يحكمها غير المُسلِمين ولكن أنشأَ المُسلِمون فيما بينهم وبينها صلحاً وعهداً، وبالتمايزِ عن دار الرِدَّةِ التي انقلبت إلى غيرِ حُكمِ المُسلِمين بعد أن كانت ضمن حوزتهم.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ قوله تعالى: “ربنا واجعلنا مسلمين لك”، “ومن ذريتنا أمة مسلمة لك”، من البديهي أن الإسلام على ما تداول بيننا من لفظه، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدينية، أعم من الإيمان والنفاق، وإبراهيم عليه السلام وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية – أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسمعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، وهما أعلم بمن يسألانه، وأنه من هو، وما شأنه، على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر والنهي كما قال تعالى: “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” (البقرة 131)، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك. فهذا الإسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ” (البقرة 131) الآية حيث يأمرهم إبراهيم بالإسلام وقد كان مسلما، فالمراد بهذا الإسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإسلام الموجود، ولهذا نظائر في القرآن. فهذا الإسلام هو الذي سنفسره من معناه، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو إن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له – وحاله حاله – كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن أن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الإنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإنسان متصفا به. على أن هنا نظرا أدق من ذلك، وهو أن الذي ينسب إلى الإنسان ويعد اختياريا له، هو الأفعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الإنسان، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: ” رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي” (إبراهيم 40)، وقوله تعالى: “وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (الشعراء 83)، وقوله تعالى: ” رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ” (النمل 19)، وقوله تعالى: “ربنا واجعلنا مسلمين لك” الآية، فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: ” قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ” (الحجرات 14)، بل معنى أرقى وأعلى منه سيجيء بيانه.
قال الله تعالى “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ قوله تعالى: “وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم”، يدل على ما مر من معنى الإسلام أيضا، فإن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: “ولكل أمة جعلنا منسكا”(الحج 34)، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما والأعمال التي يعملانها دون الأفعال، والأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: “أرنا” بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بآرائه حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ” (الأنبياء 73)، وسنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، وكأنه إليه الإشارة بقوله تعالى: “وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ” (ص 45-46). فقد تبين أن المراد بالإسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، وكذلك المراد بقوله تعالى: وتب علينا، لأن إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي الصادرة عنا. فإن قلت: كل ما ذكر من معنى الإسلام وإراءة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه إسماعيل إلا في دعوة الإسلام وقد سأل لهم الإسلام بلفظ آخر في جملة أخرى، فقال: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ولم يقل: واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الإسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإسلام، فإن الظاهر من الإسلام أيضا له آثار جميلة، وغايات نفيسة في المجتمع الإنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإبراهيم عليه السلام يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم من الإسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، ويجوز التزويج، ويملك الميراث، وعلى هذا يكون المراد بالإسلام في قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ما يليق بشأن إبراهيم وإسماعيل، وفي قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المنافق، وضعيف الإيمان وقويه والجميع مسلمون.