سيب

اسم الكاتب : رضا العطار

سلام على دار السلام جزيل * * * وعتبى على اهل العتاب طويل

أبغداد لا اهوى سواك مدينة * * * ومالي عن ام العراق بديل

حنانيك ما هذا الجفا ولم يكن * * * ليصرف قلبي في هواك عذول (1)

يقول المؤرخ ابن الاثير : عاصرت بغداد منذ نشأتها زمن الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور مختلف الحضارات بكل الوانها ودرجاتها حتى بلغت ذروتها زمن الخليفة المأمون المرسوم بالعهد الذهبي، فقد ازدهرت فيه العلوم والفنون والاداب الى جانب حركات الترجمة من اللغات الاجنبية كاليونانية والفارسية والهندية الى العربية بحماس منقطع النظير ، فكانت دار الحكمة في بغداد منارا شامخا للاشعاع الثقافي المنير. كانت بغداد الحضارية نقطة جذب للبلدان المجاورة، يؤمها الطلاب بمختلف اجناسهم بهدف نيل العلوم الحديثة. كان العراقي يومذاك تواقا للأطلاع على كل ما هو جديد حتى حدا بالجاحظ ان يقول : شغف العراقي بالقراءة كشهوة انقضاض الاسد على فريسته.

وحينما احتل البويهيون العراق عام 332 هجرية، كان الاصلاح بعض اهدافهم،

كان عاهلها معز الدولة حاكما عادلا، إذ نادى في الناس نشر العدل و الامان و بدا بمشاريع عمرانية كثيرة , منها انشاء اول مستشفى في بغداد وارصد لها اوقافا جزيلة

ويقول المؤرخ امير علي في هذا السبيل : ان البويهيين شجعوا الروح الفنية وعمروا مدارس بغداد وحفروا الجداول وهياؤها للملاحة وبعملهم هذا ازالوا خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق المزروعة. كما اسسوا في بغداد الكليات للعلوم والاداب حتى انه يمكن القول ان عهد البويهيين امتاز بالخصب والعطاء.

اقول : وكان من اعمالهم السلبية تشجيعهم المفرط للطقوس المذهبية.

وبعد مرور قرون عديدة من الزمن اصبحت بغداد مركزا ثقافيا هاما إذ غدت تواكب الدول الحديثة في التقدم الحضاري، فقد تطورت الحياة فيها بكافة المجالات، فظهرت فيها المؤسسات الكبيرة والمعاهد العلمية بمختلف تخصصاتها والجامعات الراقية فضلا عن وجود مدارس للتكنولوجيا الحديثة، وزخرت بالمكتبات العامة. وقلت نسبة الامية، وانتشر التعليم الرسمي والاهلي . يكفي ان نقول انه لا يوجد في العراق طفل يولد، لا يدخل المدرسة.

والى جانب هذا الازدهار الحضاري المضيء انبثق في بغداد لون اخر من الحضارة توسمت في ميل الناس الى الاهتمام بمظاهر الحياة وجمالياتها. فاصبحوا يتألقون ويتأنقون في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة، كما سرى بين النساء الحرائر شغفهن بالعطور النادرة، كعطر الزعفران و البنفسج و الياسمين والمسك والكافور , يأنسن بطيب عبيرها ويتبخترن بشذى عبقها الفواح و يتمسحن بدهن الزعفران من مفرقهن الى القدم , واقتصرت رغبة الأسر الموفورة في تزيين بيوتهن بالورد والرياحين التي كانت تملئ الاجواء باريج نفحتها الزكية , فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد مثلما كانت باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب و الخيال .

هذا ما جاء في كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف.

ونستطيع ان ندخل في فنون الظرف التي اشاعها الجواري، اعجابهن بالزهور، فأنشئن حدائق لمختلف صنوف الورد في قصور الخلفاء ، ليس ذلك فحسب، بل احس الشعراء في الورد معاني السلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه، وفي معنى الخجل لأحمراره ويحس آخر في هجرالحبيب سرعة ذبوله، او يحس العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال. كما كانوا يتهادون بالزهور والرياحين دالين بها على امثال تلك المعاني.

لقد ظهرت في المجتمع العباسي بدعة التحية بالتفاح، فكانت الجارية تترك على التفاحة اثر عضها، ثم تعطره بالمسك والعنبر، وقد تكتب عليه البيت التالي

:

وآثار وصل في هواك حفظتها * * * تحيات ريحان ولوعة عاشق

كما كن يكتبن ابيات الحب الرقيقة على الثياب والمناديل والوسائد. وكانت عريب مغنية المتوكل تلبس قميصا كُتب على وشاحه

واني لأهواه مسيئا ومحسنا * * * وافضي على قلبي له بالذي يقضي

فحتى متى روح الرضا لا ينالني * * * وحتى متى ايام سخطك لا تمضي

فبغداد وردة الحضارة الجميلة كانت تتزين يومذاك بمجالس الطرب لأبي نؤاس ، يجتمع فيها من كل حسن لون ومن كل جمال صورة وكل من يتنسم وسامة وخفة روح.

وقد تتلاعب الانامل منهم باوتار النغم والايقاع وترتفع الحناجر بالغناء هادئا وصاخبا وجوانح الشاربين تطير الى الافلاك الضاحكة والاجواء الباسمة والساقي غلام رشيق صبوح الوجه او ساقية لعوب قاتلة السهام هيفاء القامة مائسة الاعطاف تتمايل في غنج وتختال مزهوة بثوب الشباب تسقي الخمرة بيدها وتسقيها من خدها وقد تسقيها من فمها .

لقد ولع الخمريون بوصف الخمرة فوصفوها باجمل الاوصاف ونسبوا اليها مشاعر الانسان، فتكون تارة بلون الذهب وتارة بلون الزعفران، اما رائحتها فأشبه بشذى الازهار هي المسك والعنبر او الريحان، وللخمرة طلعة وهيبة تداخل العين فتسحرها، فتارة هي الشمس وتارة هي الكوكب المضيء ، وقد بلغ الشاعر الذروة في الوصف فقال : ( إن مسًها حجرُ ، مسًته سراءُ )

وعلى هذا النحو اسال شعراء العصر العباسي انهرا من المشاعر والاخيلة في الخمرة والغناء لا يمكن الالمام بها، ولكن قصائد ابي نؤاس هي النموذج الصادق لها

بغداد دار طيبها اخذ نسيمها مني بانفاسي

وبعد هذا العرض الموجز لأوضاع بغداد يومذاك، التي رافدت حياة العلم والثقافة حياة عابثة من لهو ومجون، يمكن القول :

بان بغداد كانت حضارة الجاحظ وحضارة ابي نؤاس مجتمعة !

*القصيدة من نظم الشاعر خضر الطائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *