أين تذهب التجربة؟

رياض الفرطوسي

في كل مرة نحاول فيها أن نفهم لماذا تتعثر تجربة الوعي في هذا البلد، نصطدم بحقيقة مُرّة: أن الطريق الذي يفترض أن يقودنا إلى المستقبل، مغطّى ببقايا الماضي، وأن التجارب التي يحملها القادة معهم من ثلاث قارات—وأحياناً من نصف الكرة الأرضية—تتلاشى فور دخولهم المجال الجوي العراقي، كأنها غبار على أجنحة الذاكرة.

معظم رؤساء الوزراء الذين مرّوا على حكم العراق مرّوا قبلها على تجارب نوعية: عاشوا في دول ديمقراطية، درسوا في جامعات مرموقة، رأوا مصانع تُنتج الفكر قبل الحديد، واطّلعوا على أنظمة صحية وتعليمية ورعائية تسبقنا بنصف قرن. عرفوا مدناً لا يعلو فيها صوت الفوضى على صوت القانون، وشاهدوا كيف تُبنى الطفولة في رياض أطفال تبدأ من الشهر السادس، وكيف يصبح احترام الإنسان قاعدة لا استثناء.

ومع ذلك… ما إن يعودوا إلى العراق، حتى ينكمش كل ذلك في صندوق صغير داخل ذاكرتهم، ويذوبون في المشهد العراقي بكل اضطراباته. يتماهى القائد مع البيئة بدلاً من أن يصنع لها بيئة جديدة. هذه هي العقدة الكبرى: أن التجارب العظيمة تبقى عند باب المطار، لا تدخل البلاد معهم.

نترك وراءنا نظماً صحية كان يمكن أن تُغيّر وجه المستشفيات، ونظمًا تعليمية جاهزة كان يمكن أن تُعيد للمدرسة العراقية روحها التي خمدت، ونظمًا قانونية كان يمكن أن تُرشد الفوضى السياسية، ونظم نقل ومواصلات وثقافة وصناعة وزراعة شهدها جيراننا وسبقونا فيها، بينما نحن ما زلنا نعيش على بقايا مرحلة عثمانية وبعثية لم تُعد لنا سوى العطب.

الغريب أن بعض جيران العراق، الذين كنا نظنهم أقل منا شأناً في مراحل ما، بنوا دولًا متماسكة بتجارب واضحة: صناعة ناضجة، زراعة منظمة، اقتصادات تستند إلى رؤية، مسارح وسينما وفنون، طرق حديثة، نقل حضري، خطط طويلة الأمد. كان يمكن أن نستعير منهم خبرة جاهزة، لا تحتاج سوى الإرادة والقرار. كان يمكن أن نربط مستقبلنا بخبرات العالم، لا بماضي أنفسنا.

لكن الوعي سقط في جبّ عميق. جبّ لا نرى قعره، ولا نملك له سلّماً. ذلك الجب الذي خرج منه يوسف بمعجزة، أما نحن فنعرف أن المعجزات لا تتكرر… وأن من يسقط في الغياب لا يخرجه إلا وعي يقوده من الأعلى.

ما الذي يمنع المؤسسات أن تمدّ يدها إلى العالم؟

ما الضير أن توقّع بروتوكولات مع الدنمارك أو هولندا أو ألمانيا أو كندا أو اليابان، فتجلب إلى العراق تجارب جاهزة في الصحة والتعليم والبنى التحتية؟

ما الضير أن نستعير أسلوب رياض الأطفال من بريطانيا، ونقول بشجاعة: نعم، هناك من سبقنا وعلّمنا؟

في زمن تتبادل فيه الدول العلوم كما تتبادل رسائل البريد، ما الذي يجعلنا نخشى التعلّم؟

نذكر ما قاله الدكتور صلاح نيازي: إن الصين، بكل عظمتها، أرسلت 700 أمّ إلى بريطانيا ليتعلمن كيف تُربّي تلك البلاد أطفالها حتى سن الخامسة. وعندما عدن، صنعن 700 ورشة في الصين.

الصين—العملاق السياسي والاقتصادي—لم تجد حرجاً في أن تتعلّم.

فكيف نجد نحن حرجاً في أن نتعلم؟

وكيف نستكبر على التجربة، ونحن أحوج الناس إليها؟

ترميم الوعي لا يأتي من الصدف ولا من الخطابات؛ إنه بحاجة إلى قيادة تعرف أن التجربة ليست مجرد ذكريات عاشها المسؤول في الخارج… بل أدوات تُستثمر في الداخل.

الوعي لا يعود بالكلمات، بل بالخطوات التي تمشي في الأرض.

وبين التجربة التي لا تأتي، والوعي الذي لا ينهض، يظل العراق واقفاً في منطقة رمادية، كأننا نعرف الطريق ولا نجرؤ على السير فيه.

ويبقى السؤال الذي يطرق الجدار كل يوم:

أين تذهب التجربة؟

ولماذا لا تأتي إلينا؟

هل تضيع منا؟ أم نضيّعها نحن؟

ربما الإجابة واضحة حدّ الألم:

تذهب التجربة… لأننا لا نفتح لها الباب.

وتتلاشى… لأن القادة لم يحملوها في حقائبهم.

وتتعثر… لأننا ما زلنا نريد مستقبلًا يسير على عكّاز الماضي.

ومع ذلك، يبقى الأمل مكتوماً لكنه موجود؛ فبلداً مثل العراق لا يموت، ولو خذله وعيه. يكفي أن نستيقظ مرة واحدة… وأن نقرر، ببساطة، أن نسمح للتجارب أن تدخل.