حين تدور الأسطوانة… ويستيقظ زمنٌ لم يمت

رياض سعد

كان طارق عائداً من عمله مع خيط غروبٍ واهنٍ يمدّ ظلاله على الأرصفة المتعبة، حين توقّفت سيارة الأجرة عند الإشارة المرورية… ؛  لم يكن في ذهنه سوى رغبةٍ في الوصول إلى البيت، وإغلاق باب يومٍ آخر خلفه… ؛  لكنّ الحياة كثيراً ما تخبّئ مصائرها في ومضاتٍ صغيرة لا تُلتفت إليها أول الأمر.

إلى اليمين، لمح مقهى شعبيّاً، متواضع الشكل، عتيق الروح، كأنّ الزمن نسيه في زاوية من زوايا المدينة المتعبة … ؛  كان واحداً من أوائل المقاهي التي أعادت فتح أبوابها بعد عقدٍ طويل من الصمت الثقيل إبّان الحرب العراقية–الإيرانية، حين أُغلقت مقاهي الأحياء الشعبية وذبلت ضحكات مرتاديها… ؛  بدا المقهى هادئاً، لكنّ فيه نبضاً خفياً يشبه نبض مدينةٍ تنفست أخيراً بعد اختناقٍ طويل.

شدّ طارق بصره جهاز الجرامافون في منتصف المقهى، يلمع خشبه الداكن تحت ضوءٍ أصفر واهن، فيما تدور الأسطوانة السوداء كأنها كوكبٌ صغير، يحاول أن يعيد ترتيب المجرة في صدر من يستمع… ؛  ومن قلب الدوّامة خرج صوتٌ يعرفه قلب الجنوب قبل آذانه… ؛ صوت الفنان عبادي العماري، بلبل الجنوب الأصيل، يرتفع من الجرامافون كريح دافئة تحمل على أجنحتها أنين الأرض وحنين الناس ونبل الاسلاف وماسي بلاد الرافدين ومآثرها ... .

كانت الإبرة تخدش السطح فتوقظ الذاكرة، وكان صوت العماري يتهادى في المكان بعمقٍ يجعل السامع يشعر أنه يستمع إلى وطنٍ كامل يتحدث لا إلى مغنٍ وحيد… ؛  وما إن مسّ الصوت أذني طارق، حتى انفتح في داخله بابٌ لم يُفتح منذ زمن، وارتجّت أعتاب قلبه كما لو أن أحدهم أعاد تشغيل جهازٍ قديمٍ في صدره.

كان عبادي العماري يصدح بالأبوذية والقريض :

بعضي بنار الهجر مات حريقا  **  والبعضُ أضحى بالدّموع غريقا

لم يشكُ عشقاً عاشقٌ فسمعتهُ  **   إلا ظننتكَ ذلك المعشوقا

… يا ويلي يا ويلي … ؛ انا يمي وسمعته … ؛ ما لج محبّ بهواه يمي… وسمعته إلا ولجت وياه حسبالي انت …”

فلم يحتمل طارق… ؛  طلب من السائق التوقف بصوتٍ لا يشبه صوته، كأنه صادر عن شخصٍ آخر، شخصٍ لم يعد يعرف كيف يساكن سكون الحياة… ؛  فتح باب السيارة، ونزل متوجهاً نحو المقهى بخطواتٍ يسحبها الشوق، لا قدماه.

في داخل المقهى، جلس في ركنٍ قصيّ، كأنه يخشى أن يراه الزمن وهو يعيد ترتيب ما تبعثر منه… ؛  كان بخار الشاي يتصاعد من الاستكانة الزجاجية كأنّه روحٌ صاعدة من أعماق الذاكرة، ومع كل نفثة بخار، كانت صورةٌ من صور ليلى تنهض من سباتها.

جلس غير مبالٍ بالزحام ولا بضجيج الكراسي المعدنية والخشبية ، منصتاً إلى مزامير العماري التي تحيي ما مات من أحاسيس… ؛  وما إن اختلط صوت المطرب بعبق الشاي المغلي حتى تدفّقت ليلى في ذاكرته… ؛ ذلك الاسم الذي ما زال يلمع كقطرة ندى على ورق القلب.

آهٍ من ليلى…

كانت وجه الفجر حين يطلّ على أرصفة أيامه، وكانت زهرةَ الماء التي لا يلمسها إلا ليزداد عطشاً… ؛  كلما تذكّرها، شعر أن قلبه أرضٌ زرعها المطر، لكنها تفتقد الشمس… ؛  كان جمالها لا يُرى بالعين فقط، بل يُشَمُّ في الهواء، ويُسمَع في الخفقات، ويتسلل إلى الروح كما تتسلل قصيدة لا تُكتب بل تُعاش.

تذكّر طارق كيف كان يقرأ فيها الحياة كما يقرأ العاشق كتاباً لا يفكّ حروفه إلا بلمسةٍ من حنان… ؛  كان يقترب من شفتيها فيرتجف الوعي كلّه، وتتغير قوانين العالم… ؛  كانت شفاهها كبحرٍ لا نهاية له ؛ الغريق يشرب ليعيش، لكنها تجعله يشرب ليزداد شوقاً… ؛  وكان هو يغرق فيها مختاراً، غرقاً لا يشبه الفناء، بل يشبه عودة الجسد إلى أصله الأول…؛ إلى الماء.

كان يقبّلها حتى تتقطع أنفاسهما، وتتصاعد دقات القلب كطبول قبيلة تحتفل بالحبّ، ويرتفع وهج الجسد حتى يصبح العرق مطراً من لهفة، كأن الطبيعة تعيد خلق نفسها فيهما كل مرة… .

وفي حضرة تلك اللحظات، عاد طارق الآن، في هذا المقهى البعيد، يستمع إلى صوت العماري وهو ينسف الغبار عن زمنٍ دفنه النسيان ولم يمت… ؛  كان كل بيتٍ من الأبوذية يفتح نافذة تطلّ على مشهدٍ من الماضي، وكل نغمة تنقل قلبه من حالٍ إلى حال: من الفرح إلى الحنين، من اللقاء إلى الفراق، ومن النار إلى رمادٍ لم يبرد قط.

نعم , تذكّر أيام الوصال، وكيف كانت كل رشفة شاي تشبه رشفته من رحيق شفتيها الوردية… ؛  كان يرى في لمى فمها ورطوبة لسانها الناصع بياضاً نارا ؛ تزيد الجوى احتراقاً، وتبعث في النفس اشتياقاً لا ينتهي… ؛  كانت شفاه ليلى، في ذاكرته، كبحرٍ مالح؛ كلما ارتشف منه الغريق ازداد عطشاً، وكلما شرب  الماء ازداد ظمأً… ؛ وكان طارق لا يفارقها إلا بعد أن تنقطع الأنفاس وتتسارع نبضات القلب، وترتفع حرارة الجسد، ويسيل العرق من المحيّا كالغيث المنهمر على صدر صيفٍ وعِر.

دارت به الأيام كدوران الأسطوانة، وتعاقبت الذكريات في عينيه كشريط سينمائيّ يعرض نفسه بلا توقف، حتى شعر أن جسده صار خفيفاً، وأن روحه تحملها الموسيقى كما تحمل الريح ورقة خريف.

وحين انتهت الأغنية، رفع طارق رأسه ببطء… ؛  غابت الجلسة من حوله، وغابت ضوضاء المقهى… ؛  لم يبقَ إلا هو والهواء… , هو والحنين … , هو واسمٌ لا يزال ينبض في داخله: ليلى … .

نهض، لا يدري أكان يهرب أم يلاحق شيئاً… ؛  ومشى نحو باب المقهى، وكأنّ الريح التي هبّت من الخارج تحمل آثار عطرٍ يعرفه …  ؛ عطر ليلى.

ومضى بخطواتٍ تشبه سؤالاً فلسفياً لا جواب له: هل نسير نحو الذكريات… ؛ أم الذكريات هي التي تسير نحونا؟

ومهما يكن، فقد كان طارق يمضي نحو الريح التي تحمل ما تبقّى من قلبه… ؛ أو ما تبقّى من ليلى.