لمن يريد ان يفهم وباختصار شديد كيف تطورت الصين

كمال فتاح حيدر

في عام 1976، كانت الصين تقف على حافة الانهيار. انتهت حقبة “الثورة الثقافية” بوفاة ماو تسي تونغ، تاركة وراءها دولة منهكة، اقتصادها بدائي يعتمد على الزراعة الجماعية غير المنتجة، وجامعات مغلقة، وعزلة شبه تامة عن العالم. في ذلك الوقت، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين أقل من نظيره في إيطاليا، وكان متوسط دخل الفرد لا يكاد يذكر.

لكن نهضة الصين بدأت بقرار سياسي بارد وجريء في ديسمبر 1978. خلال الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية، أمسك الزعيم القصير والبراغماتي “دينج شياو بينج” بدفة القيادة. طرح دينج جانباً الشعارات الأيديولوجية البراقة، متبنياً مقولته الشهيرة التي لخصت المنهج الجديد: “لا يهم إن كان القط أسود أو أبيض، طالما أنه يصطاد الفئران”.

كانت هذه العبارة إيذاناً ببدء عصر “الإصلاح والانفتاح”، وتجسيدا للبراغماتية الاقتصادية. أي التركيز على النتائج العملية (التنمية والإنتاجية) بدلاً من الالتزام الأيديولوجي الصارم بالشيوعية التقليدية. حيث شجعت على تبني سياسات رأسمالية جزئيًا إذا أدت إلى نمو. . .

بدأت القصة من القاع، وتحديداً من الريف. سمحت الحكومة للفلاحين، لأول مرة منذ عقود، ببيع فائض محاصيلهم في السوق المفتوحة بعد تسليم حصة الدولة. كانت نتيجة هذا الحافز البسيط مذهلة. فقد تضاعف الإنتاج الزراعي، وتوفر رأس المال الأولي في أيدي الناس، وظهرت فائض عمالة جاهز للانتقال إلى الخطوة التالية: التصنيع.

في الثمانينيات، قامت الصين بتجربة فريدة. لم تفتح أبوابها بالكامل دفعة واحدة خوفاً من الصدمة، لكنها حددت أربع “مناطق اقتصادية خاصة” (SEZs) على الساحل الجنوبي، أشهرها “شينزن”. كانت شينزن قرية صيد متواضعة، حولتها الحكومة إلى مختبر للرأسمالية تحت عباءة الحزب الشيوعي. قدمت إعفاءات ضريبية وبنية تحتية رخيصة، فتدفقت الشركات الغربية واليابانية بحثاً عن العمالة الزهيدة. هنا، تعلمت الصين الدرس الأول: “النسخ قبل الابتكار”. قبلت الصين بأن تكون “مصنع العالم” للمنتجات البلاستيكية والنسيجية الرخيصة، لكنها في المقابل كانت تمتص المعرفة الإدارية والتقنية من الغرب.

جاءت التسعينيات لتشهد ترسيخ البنية التحتية الصلبة. بنت الدولة شبكة طرق وموانئ ومحطات طاقة بوتيرة جنونية لربط مقاطعاتها الشاسعة. لكن المنعطف الأخطر كان في عام 2001، حين انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية (WTO). كان هذا الحدث بمثابة إزالة السدود. تدفقت البضائع الصينية إلى كل بيت في العالم، وتراكمت الاحتياطيات النقدية الأجنبية في بكين لتصبح الأضخم عالمياً.

لكن القيادة الصينية أدركت فخاً تاريخياً وقعت فيه دول عديدة: “فخ الدخل المتوسط”. أدركوا أن الاعتماد على العمالة الرخيصة لن يدوم، وأن الغرب لن يظل متفرجاً. فبدأت في العقد الثاني من الألفية (2010 وما بعدها) استراتيجية جديدة صامتة وشرسة: التحول من “صُنع في الصين” إلى “صُمم في الصين”.

وجهت الدولة استثمارات هائلة، ليست في العقارات فحسب، بل في التعليم والبحث العلمي (R&D). أرسلت مئات الآلاف من الطلاب إلى أرقى جامعات أمريكا وأوروبا، ثم أغرتهم بالعودة عبر رواتب ضخمة ومختبرات متطورة (برنامج الألف موهبة). بالتوازي، أجبرت الصين الشركات الغربية الراغبة في دخول سوقها الضخم على “نقل التكنولوجيا” للشريك المحلي.

بدأت الثمار تظهر بوضوح لا يقبل الشك. لم تعد الشركات الصينية مجرد مقلدين. شركة “هواوي” تفوقت في تقنيات الجيل الخامس (5G) بفضل إنفاق الملايير على الأبحاث. وفي مجال السكك الحديدية، طورت الصين أكبر شبكة قطارات فائقة السرعة في العالم في زمن قياسي، معتمدة على تقنيات استوردتها ثم طورتها لتناسب جغرافيتها. وفي قطاع الطاقة، استحوذت الشركات الصينية (مثل CATL وBYD) على سلاسل التوريد العالمية للبطاريات والسيارات الكهربائية، مستغلة الدعم الحكومي السخي والتخطيط طويل الأمد الذي يمتد لعقود، وليس لدورات انتخابية قصيرة.

اليوم، تقف الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية،  بفضل مزيج معقد من: مركزية القرار السياسي، ليونة في السياسات الاقتصادية، استغلال ذكي للعولمة، وتضحيات هائلة قدمها جيلان من العمال الصينيين الذين قبلوا بأجور زهيدة لسنوات لبناء قاعدة انطلقت منها البلاد نحو الفضاء والتطور التكنولوجي. إنها قصة صعود مدروس، خطوة بخطوة، من حقول الأرز الموحلة إلى مختبرات السيليكون المعقمة. .