بقلم: الأستاذ م.م. حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف
تُعد حماية المستهلك من أبرز القضايا التي تشغل الفكر القانوني والفقهي في العصر الحديث، إذ باتت العلاقة بين البائع والمشتري، أو بين المنتج والمستهلك، أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فالمستهلك لم يعد مجرد فرد يشتري سلعة أو خدمة، بل أصبح رمزاً اجتماعياً واقتصادياً يعكس توازن السوق ويجسد ثقة المجتمع في الدولة ومؤسساتها. ومن هنا، فإن دراسة حماية المستهلك في ضوء الفقه الإسلامي، ولا سيما الفقه الإمامي، والقانون العراقي تكشف عن عمق العلاقة بين النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وتوضح كيف يمكن أن تتكامل لحماية الإنسان من الغش والاحتكار والاستغلال.
في الفقه الإسلامي عامةً، نجد أن حماية المستهلك ليست فكرة حديثة، بل هي جزء أصيل من منظومة القيم التي أرساها الإسلام منذ قرون. فقد شدّد الفقهاء على ضرورة منع الغش في البيع والشراء، وحرّموا الاحتكار الذي يؤدي إلى رفع الأسعار وإضعاف قدرة الناس على الحصول على حاجاتهم الأساسية. كما أن مبدأ “لا ضرر ولا ضرار” يشكل قاعدة عامة تضمن أن تكون المعاملات قائمة على العدل والإنصاف، بحيث لا يُستغل ضعف المستهلك أو جهله بخصائص السلعة. هذه المبادئ الشرعية لم تكن مجرد نصوص نظرية، بل تحولت إلى قواعد عملية ساهمت في ضبط الأسواق وحماية حقوق الناس عبر التاريخ.
أما في الفقه الإمامي على وجه الخصوص، فقد أولى عناية كبيرة بحقوق المستهلك، مستنداً إلى نصوص قرآنية وأحاديث أهل البيت عليهم السلام. فقد ورد قوله تعالى: “ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين” (هود: 85)، وهو نص يضع قاعدة عامة تمنع الغش والتلاعب بالسلع والأسعار. كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: “من غشّنا فليس منا”، وهو نص صريح يحرّم الغش ويجعله خارجاً عن روح الجماعة المؤمنة. وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله: “لا يحتكر الطعام إلا خاطئ”، وهو شاهد على تحريم الاحتكار الذي يضر بالمستهلكين ويؤدي إلى رفع الأسعار. وإلى جانب ذلك، فإن قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” التي اعتمدها الفقه الإمامي تُستخدم في منع أي معاملة أو ممارسة تجارية تُلحق الضرر بالمستهلك، سواء في الجودة أو السعر أو طريقة التوزيع. هذه الشواهد تجعل حماية المستهلك في الفقه الإمامي واجباً شرعياً وأخلاقياً، لا مجرد تنظيم اقتصادي.
أما في القانون العراقي، فقد تطورت التشريعات لتواكب التحديات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، فصدرت قوانين خاصة بحماية المستهلك تهدف إلى ضمان جودة السلع والخدمات، ومنع الممارسات التجارية غير المشروعة، وتوفير آليات رقابية تحمي المواطن من الاستغلال. هذه القوانين لم تأتِ بمعزل عن التراث الفقهي، بل استندت في كثير من جوانبها إلى المبادئ الشرعية التي تؤكد على العدالة والشفافية في التعاملات. وهكذا، يظهر أن القانون العراقي يسعى إلى ترجمة تلك القيم إلى نصوص ملزمة، تفرض على المنتجين والتجار التزامات محددة، وتمنح المستهلك حقاً في المطالبة بحقه أمام القضاء أو الجهات الرقابية.
إن المقارنة بين الفقه الإمامي والقانون العراقي تكشف أن حماية المستهلك ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل هي قضية أخلاقية واجتماعية في جوهرها. فالمستهلك يمثل الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج والتوزيع، وإذا لم تُحمَ حقوقه، فإن المجتمع بأسره يتعرض للاهتزاز. الفقه الإمامي يقدّم الأساس القيمي الذي يمنح الحماية شرعية أخلاقية ودينية، بينما القانون العراقي يقدّم الآليات العملية التي تجعل تلك الحماية قابلة للتنفيذ في الواقع. ومن خلال هذا التكامل، يمكن بناء منظومة متوازنة تضمن أن تكون الأسواق عادلة، وأن تكون العلاقة بين المنتج والمستهلك قائمة على الثقة والاحترام المتبادل.
إن حماية المستهلك في العراق اليوم ليست مجرد قضية قانونية أو فقهية، بل هي قضية وطنية ترتبط بكرامة المواطن وحقه في العيش الكريم. فحين يشعر المستهلك أن الدولة تحميه من الغش والاحتكار، فإنه يزداد ثقة بمؤسساتها، وحين يرى أن الفقه الإمامي يضع له قواعد أخلاقية تحميه، فإنه يزداد ارتباطاً بقيمه الدينية والاجتماعية. وهكذا، تصبح حماية المستهلك جسراً بين النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وبين الماضي والحاضر، وبين القيم والأفعال، لتؤكد أن حماية المستهلك ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لضمان استقرار المجتمع وصيانة كرامة الإنسان.