اسم الكاتب : علي المؤمن
إشكاليات وفرضيات
العرض الذي أقدمه هنا؛ هو خلاصة نتائج كتابي: «السومري المستعرب: مسارات تكوين الأُمة العراقية»، والذي لا يزال تحت المراجعة المتكررة، كلما توافرت مصادر جديدة. وهو السبب الذي يمنعني من دفعه الى الطباعة. ولذلك؛ رغبت في تقديم هذه الخلاصة، وهي موجهة للباحثين والمتخصصين، للحصول على ملاحظاتهم المنهجية والمعرفية والتحليلية، لأن هدفي هو تقديم حصيلة معرفية منهجية دقيقة نسبياً للقارئ، خدمة للعلم ولهدف إعادة بناء الأُمة العراقية ودولتها ودورها المحلي والإقليمي.
وأتفهم مسبقاً ما سيرد على هذه الخلاصة، ثم على الكتاب، من اعتراضات ونقود، وربما اتهامات وتعريض، وهو أمر طبيعي، حيال أفكار قد يكون كثير منها صادماً، ولا ينسجم مع الموروث المعرفي والقومي والديني، ولا مع ما تعلمه بعضنا في المدارس والجامعات، أو تربي عليه في البيت والمجتمع وصفوف التنظيم والجماعة، ولا مع ما قرأه في الكتب والمجلات والصحف.
ورغم أني بذلت جهداً مرهقاً خلال سنوات طويلة لإنجاز هذا المشروع، واعتمدت مئات الكتب والدراسات باللغات العربية والفارسية والانجليزية، وأخرى مترجمة من الروسية والفرنسية والألمانية والتركية، إلّا أنني لا أزعم أن ما توصلت إليه هو الحقيقة، بل هو غاية ما تمكنت من التوصل إليه، وهو خاضع بالجملة الى التصويب والتعديل، سواء مني في المستقبل أو من غيري من المتخصصين، لأن الدراسات التاريخية والانثروبولوجية والحفرية، تظل دائماً خاضعة لمبادئ الترجيح والاحتمال والتحليل، لأنه يعتمد بالأساس على معلومات متنوعة في وثاقتها؛ فمنها متواترة وأخرى موضوعة وثالثة متعارضة أو ملتبسة. وبالتالي؛ يكون دور الباحث جمعها وتمحيصها وغربلتها وضربها ببعض وتحليل دوافع كتابها وتدقيق نصوصها ومفرداتها ومصادرها، فضلاً عن اعتماده على مهارته وموهبته في التحليل والكشف والعرض.
وتهدف دراسة مسارات تكوين الأُمة العراقية الى بناء مدخل واقعي لإعادة تشكيل الأمة العراقية، وفق الحقائق التي يفرزها منهج البحث العملي، وما ينطوي عليها من فضح أوهام وتخرصات الدعاية الطائفية التي تشكك بعراقية وعروبة أهل الوسط والجنوب، وتصفهم بالعجم والفرس والهنود والغجر، لمجرد أنهم شيعة آل البيت. وليس الهدف من عرض الحقائق التي يتضمنها المقال، القول بأفضلية السومريين أو العرب على الفرس والهنود والأتراك؛ فلافضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى.
وأخص الباحثين وأصحاب الاختصاص بالدراسة؛ لكيلا يتحول موضوعه عن مساره العلمي الى مساجلات عاطفية ايديولوجية أو اتهامات يستقيها بعض الناس من المناهج الشوفينية العنصرية المحرفة للحقائق والتاريخ، ولا سيما مناهج الكتابة التاريخية التي أسس لها في العراق، العثماني التركي ساطع الحصري (مدير المعارف في العهد الملكي)، وسارت عليها المناهج المدرسية والمؤلفات والدراسات في عهد حزب البعث.
حقائق إنثروبولوجية وإركولوجية عن أُصول الأُمة العراقية
لقد أثبتُّ في كتابي «السومري المستعرب» أن الأمة العراقية المتمازجة عرقياً وقومياً، من جنوبها الى شمالها؛ هي أعظم وأرقى أُمة عرفها تاريخ كوكب الأرض. ويعد السومريون أصل هذه الأُمة ومحورها، وهم أصل العراق الجنوبي، وهم من عرق عراقي ينسبه بعض المؤرخين وعلماء الآثار والجينالوجيين الغربيين الى الشعوب السامية، برغم وجود أقوام سبقت السومريين في استيطان العراق والظهور فيه، منذ من عشرة آلاف سنة تقريباً قبل الميلاد، لكنها لم تترك آثار يعتد بها، لكي يمكن الكشف عن تاريخها وحياتها، حالها حال كل الشعوب القديمة التي استعمرت الأرض، وربما انقرض أغلبها، نتيجة عوامل عديدة، في حين أن السومريين الذين ظهروا في العراق في حدود الألف السادس والخامس قبل الميلاد؛ فقد تركوا آثاراً واضحة المعالم نسبية؛ حتى تحولوا الى أحد أهم الشعوب القديمة التي اعتنى بها المؤرخون والآثاريون والانثروبولجيون، وصدرت حولهم مئات الكتب وآلاف الدراسات بمختلف لغات العالم.
ويمكن القول أن أنساب السومريين اختلطت مع أنساب الشعوب العراقية الأصلية الأخرى، كالآراميين والأقوام التي تنتسب إليهم، مثل النبط، والبابليين والأقوام التي تنتسب إليهم كالعموريين والكلدان، وكذلك الشعوب الآشورية، والفرس والعيلاميين والكاشيين، ثم بالقبائل العربية النازحة من اليمن (أبناء قحطان) من الجزيرة العربية (أبناء عدنان).
وبالنظر لكثافة الهجرة العربية بعد الفتح الإسلامي للعراق، وتحول العرب الى قومية حاكمة؛ فإن السومريين العراقيون أصبحوا جزءاً من عرب القبائل النازحة، بدءً بكندة وكلاب وتميم وبكر وخزاعة وانتهاء بمذحج وطي ووائل وشيبان وربيعة وغيرهم. والحال ان هذه القبائل ليست عراقية بالأصل وانما جزيرية ويمنية. وهو أيضا ينطبق على جميع الأسر الهاشمية التي جاءت الى العراق مع الفتح الإسلامي منذ (1400) سنة فقط. في حين ان وجود القوميات السامية العراقية الأخرى؛ كالسومريين والبابليين والكلدان والآشوريين؛ هو بالغ القدم في العراق؛ بل هي القوميات المؤسسة للعراق، ولها لغاتها الخاصة وخصائصها القومية المستقلة.
أين ذهب السومريون والبابليون؟ وأين أحفادهم؟
الفرضية الإشكالية التي ينبغي مقاربتها على نحو الدقة والتفصيل والمنهجية تتعلق بأُصول سكان الجنوب والوسط، في الماضي والحاضر؛ فإذا كان جميع سكان الجنوب والوسط ينتسبون حاليا الى القبائل العربية النازحة؛ فأين من تبقى من السومريين إذن؟! هذه الإشكالية تفرض ـ ابتداء ـ على من يهتم بشأن أصول العراقيين القدماء أن يبحث في أنساب السومريين الحاليين و قبائلهم الباقية حتى الآن. كما هو الحال مع الشعبين الكلداني والآشوري العراقيين الساميين اللذين لايزالان محتفظين بأنسابهما ولغتيهما وخصوصياتهما القومية؛ ولم ينسبا نفسيهما الى القبائل النازحة. ومثلهما الشعب الأمازيغي (البربري) في شمال افريقيا؛ الذي بقي محتفظا بأنسابه وقبائله وخصوصياته؛ رغم اختلاطه بالقبائل العربية القادمة مع الفتح الاسلامي ورغم ذوبان الأمازيغ في الاسلام.
والحقيقة أن الشعوب التي وجدت في العراق (حدود العراق الجغرافية الحالية) منذ القدم؛ لم تكن شعوبا عربية؛ بالمعنى العلمي؛ بل هي شعوب سامية (كالكلدان والآشوريين والسومريين) وعيلامية (كاللر وأحفادهم الفيليين واللك والكلهور) وآرية (كالكرد والفرس) وطورانية (كالترك). وكانت هناك تجمعات عربية يمنية وجزيرية نزحت الى العراق في فترات متفاوتة سبقت الفتح الإسلامي بمئات السنين. ولكن النزوح الأهم والأكبر هو نزوح قبيلة (المناذرة) العربية اليمنية الى العراق، ونزولها في منطقة الحيرة التي تحولت الى عاصمة للعراق الأوسط. أي ان العرب هم آخر الشعوب السامية التي سكنت العراق، فيما لو أذعنا بأن قحطان هو أبُ العرب العاربة وعدنان هو أبُ العرب المستعربة، وفق الموروث التاريخي العربي. أي ان الشعوب السامية التي وجدت في العراق قبل العرب ليس منها من ينتسب الى قحطان وعدنان.
والدليل إن النبي إبراهيم كان آرامياً نبطياً ويتكلم السريانية، ولم يكن عربياً ولايهودياً؛ بل أنه أبو العرب من أبناء عدنان، واليهود من أبناء يعقوب، وغيرهما من الشعوب المنسوبة إليه، ولم يكن أباً لعرب قحطان اليمنيين، الذي سبق وجودهم زمان النبي إبراهيم. ووفق الموروث التاريخي فإن اسحق ابن ابراهيم من زوجته سارة هو جد الشعب اليهودي، من خلال حفيد ابنه النبي يعقوب (واسمه الأصلي إسرائيل)، الذي هو أبُ بني إسرائيل؛ أي أن القرآن عندما يخاطب بني إسرائيل؛ فإنه يخاطب بني يعقوب (اليهود).
أما إسماعيل الإبن الثاني لإبراهيم من زوجته هاجر؛ فهو مستعرَب بواسطة قبيلة جرهم العربية اليمنية النازحة الى مكة، والتي عاش إسماعيل معها وفي كنفها وأصبح واحداً منها وتزوج من إمراة جرهمية؛ التي هي أم العدنانيين، وعدنان هو حفيد ابن إسماعيل، أي أنّ العدنانيين الحجازيين المستعربين هم عرب قحطانيون يمنيون من ناحية الأم. وبناء عليه؛ فقد كان ظهور العرب في مكة (الحجاز) وظهور اليهود في سيناء، متزامناً تقريباً من الناحية التاريخية، ومتأخراً كثيراً عن ظهور عرب اليمن.
ومن هنا؛ فإن وجود عرب اليمن وكذلك الشعوب السومرية والآشورية والكلدانية والآرامية في العراق سابق لولادة إبراهيم؛ وبالتالي سابق بكثير لظهور عرب مكة (الحجاز)، الذين يعود أصلهم الى العراق أساساً، تبعاً لأبيهم العراقي الآرامي إبراهيم. والدليل أن إبراهيم عندما بُعث لبابل الكلدانية ثم لأوروك السومرية؛ فانهما كانتا حضارتين عريقتين كبيرتين في مساحتهما الجغرافية وتضمان شعبين كبيرين في عددهما وقديمين جدا في ظهورهما في وسط العراق وجنوبه. وبالتالي؛ فان السومريين شعب عراقي حضاري عظيم لم ينقرض؛ ويسبق وجوده نزوح القبائل الجزيرية واليمنية الى العراق بآلاف السنين.
العرب: حواضن القوميات العراقية
بحضور العرب الى العراق بهجرة المناذرة الى الفرات الأوسط وهجرة التغالبة الى شمال العراق، ثم هجرات ما بعد الفتح الإسلامي؛ اكتملت حلقات تكوّن الأمة العراقية؛ بأجناسها وقومياتها الأصيلة: السومرية والكلدانية والآشورية والعربية واليهودية (ساميين) والكردية والفارسية (آريين) والتركية (طورانيين). وهذا العراق المتعدد القوميات هو العراق الأصيل؛ وبدون هذا التعدد المتعايش لايكون العراق عراقاً.
ولكن يشاء التطور التاريخي أن يتحول العراق الى بلد عربي، ويكون الشعب العربي هو الغالب عدداً وعدة ونوعاً؛ لتصل نسبة العرب فيه تدريجياً الى أكثر من 70% من نفوس العراق. ولكن مما لا شك فيه أن من بين هذه النسبة مستعربين كثر؛ ولاسيما من القوميات الكلدانية والسومرية واللرية (القومية التي ينتسب إليها الفيليون) والفارسية والكردية والتركية. وبمرور الزمن وبمنطق التعايش وبقدرة العرب المعروفة على استيعاب الآخرين؛ أصبح هؤلاء المستعربون جزءا لايتجزء من هذه القبائل العربية ومن القومية العربية، لكي تتبلور هوية العراق القومية، وتكون هذه الهوية العربية هي ركيزة الإستقرار الوطني الأولى؛ لأن كل بلد أصيل لابد له من أكثرية سكانية؛ قومية أو مذهبية؛ تكون بمثابة الشقيق الأكبر والحاضن للقوميات الشقيقة المتعايشة في العراق.
والملاحظ أن مئات المفردات التي يستعملها أهلنا في جنوب العراق في لهجتهم المحلية المحكية، هي سومرية وفيلية؛ بل حتى قواعد صياغة الجملات والاختصارات تعود الى السومرية أو الفيلية، وهما لغتا الجنوب الأصليتين. والفيليون هم من القومية اللرية من الأصول العيلامية، وهم أهل حضارة جنوب شرق دجلة، وهم ليسوا كرداً؛ فالكرد هم ميديون آريون نازحون من آسيا الوسطى الى هضبة إيران، ثم هاجروا الى شمال العراق قبل عشرة قرون تقريباً، في حين أن الفيليين عراقيون أصلاء تعود جذورهم الى آلاف السنين في العراق، حالهم حال السومريين.
كما أن أكثر من نصف أبناء العشائر العربية في مناطق الأهوار المختلفة من الجبايش الى الحمار، وكذلك عشائر شمال البصرة والعمارة والناصرية والسماوة هم سومريون مستعربون. كما أن كثيراً من أبناء عشائر واسط وديالى وشرق العمارة هم فيليون ولك وكلهر وفرس وكرد مستعربون، أي أن أغلب أبناء الجنوب العراقي هم عراقيون أصلاء تمتد جذورهم في العراق الى آلاف السنين، وليسوا عرباً مستوطنين ونازحين بعد الفتح الإسلامي.
وإذا رجعنا الى تاريخ هجرة أجداد العشائر الحالية في الجنوب العراقي، والقادمة من نجد والحجاز وبادية الأردن والشام؛ فانه ربما لا يتجاوز (300 ـــ 1000) عام، وهذا لا يسمح لها أن تتكاثر بالملايين. والحال أن العراقيين الأصلاء السومريين (أكثرية سكان الجنوب)، استعربوا نتيجة خضوعهم لسلطة هؤلاء المستوطنين وحملوا أسماء عشائرهم بالتدريج.
واختار أهل الجنوب العراقي الانتماء الى مدرسة آل البيت والذوبان فيها والدفاع عنها، لتتحول الأكثرية المذهبية في العراق الى أكثرية مسلمة شيعية؛ لتكون هذه الهوية هي ركيزة الإستقرار الوطني الثانية؛ بالمنطق نفسه الذي يحكم الركيزة الأولى (القومية)؛ بعيدا عن أي تمييز في أي جانب. واللافت أن يتسبب التطور التاريخي في تركيز معادلة (شيعة عرب) في وسط العراق وجنوبه؛ اي في مساحة الحواضر العراقية العالمية التاريخية الكبرى؛ وتحديدا بابل وسومر وأكد، والتي تُختصر في حضارة وادي الرافدين أو بين النهرين، والتي قدمت للبشرية الكثير جدا من العلوم والفنون والنظريات والأساطير والقوانين والحكمة والفلسفة.
والمفارقة؛ أن تصل جرأة الثقافة الشوفينية الطائفية للدولة العراقية، منذ العهد الملكي وحتى نظام البعث؛ لتصف سكان هذه حواضر جنوب العراق وأهواره بالهنود والفرس والغجر، والسبب لأنهم شيعة. والحال؛ أن المنطقة الممتدة من الوركاء في محافظة السماوة وحتى الفاو في أقصى جنوب محافظة البصرة؛ والتي تضم أهوار الجبايش والشيب وكرمة علي والعمارة والحمّار وام النعاج والعظيم والفهود والترابة والمالح والسعدية، والمدن والمناطق المحيطة والمجاورة؛ وهي التي كانت يوماً عواصم لأُولى الممالك والدول في العالم، كأوروك وأور وكيش وأريدو ونيبور ولاكاش وغيرها.
وسكان هذه المناطق هم أصل العراق وهم مؤسسو العراق وبناة حضاراته منذ ستة آلاف عام؛ ولولاهم لما كان هناك بلد أسمه العراق؛ لأن اسم العراق إسم سومري مشتق من أوروك التي تقع في محافظة الناصرية حاليا؛ إحدى عواصم الحضارة السومرية. فالعراق الأصلي ـ إذن ـ هو أوروك وهو سومر في جنوب العراق، ثم الإمبراطورية الأكدية، التي انطلقت من كيش في محافظة البصرة الحالية، ووحدت ممالك سومر ثم بابل ثم آشور، وأشادت العاصمة السومرية الجديدة (أكد) في الفرات الأوسط. وفي عهدها تشكل العراق طوليا بصورته القريبة من شكله الحالي، أي بين النهرين والوادي الخصيب، الذي يمتد من الفاو وحتى شمال الموصل. ولكن بعد (4,500) سنة على تشكيل العراق على يد السومريين؛ يأتي المنهج الشوفيني الطائفي ليصف مؤسسي العراق بأنهم هنوداً وفرساً وغجراً، ويقصد بهم شيعة جنوب العراق، والذين يشكلون نصف سكان العراق تقريباً.
(الشروگ) مؤسسوا العراق وأحفاد السومريين
(الشروگ)؛ تسمية سومرية أصيلة، مشتقة من اسم (شروگين)، إمبراطور الدولة الأكدية السومرية، والذي يعرف في المدونات التاريخية المعربة باسم (سرجون) الأكدي. والتحليل التاريخي يقودنا الى أن شروگين (سرجون) قاد أفراد جيشه المنتمين الى اسمه، أي الشروگ أو الشروگيين، ليزحف باتجاه ممالك وادي الرافدين ليوحدها من الفاو وحتى شمال الموصل. وبذلك؛ يكون الشروكيون هم مؤسسي العراق طوليا بشكله القريب من شكله الحالي.
وتكتمل حلقات الكراهية والتمييز الشوفيني الذي أسسه العثماني ساطع الحصري، الذي تلفع زورا بعباءة الايديولوجية القومية العربية، ثم ليتلقف هذه الحلقات ميشيل عفلق وحزبه؛ بسن القوانين التي يكون فيها العراقي الأصيل هو غير العراقي الأصيل، أي ليكون العراقي الأصيل هو العثماني، وليس الشروگي السومري والعربي، وخاصة أن السومري المعاصر لابد أن تحمل هويته حرفي (شين)؛ أي شيعي وشروگي. وهاتان الشينان تشكلان لعنة ترافق هذا العراقي الأصيل كظله؛ فتحولانه الى مواطن من الدرجة الثالثة، على اعتبار أن الشيعي العربي الأصيل غير الشروگي؛ هو مواطن من الدرجة الثانية. وهذا ما سار عليه عرف ما يسمى بالدولة العراقية لما قبل عام 2003.
ورغم انهيار الدولة العنصرية الطائفية؛ إلّا أن اسطوانة الكراهية للشروگي والاشمئزاز منه لا تزال تسمع بتركيز في مجالس وأحاديث الجماعات الطائفية والشوفينية، حتى تلك المشاركة بقوة في العملية السياسية، على خلفية صعود كثير من (الشروگ) الى مناصب عليا في الدولة؛ رؤساء وزراء ووزراء ونواب ومدراء عامين وقادة عسكريين. أما الاشمئزاز؛ فمرده إن هذا الطائفي الشوفيني يرى نفسه بأنه هو العراق وهو الدولة العراقية وهو السيد والقائد والمالك وصاحب الدار منذ مئات السنين؛ فكيف يسمح لنفسه أن يتحول (الشروگي) الذي ظل لمئات السنين مواطناً من الدرجة الثالثة وأجيرا وحطبا لحروبه ومادة لفتنه وبغضائه وسخريته؛ يتحول الى ند وجليس وشريك له في الحكومة وفي مجلس النواب وفي الوزارات والقيادات العسكرية. وبالتالي؛ إذا كان المراد من اجتثاث البعث هو اجتثاث الأفراد؛ فلا قيمة كبيرة لذلك؛ لطالما بقي هذا الفكر العنصري الطائفي محفوراً في عقول وقلوب كثير من السياسيين الحاليين ممن لم يكونوا أعضاء في حزب البعث، أو كانوا أعضاء صغار فيه.
لقد قرأت كثيراً من الكتب والدراسات عن حضارة السومريين، ولا سيما الكتب والدراسات التي كتبها باحثون متخصصون لم يتأثروا بالمنهج الشوفيني؛ ولكني لم أتعرف الى الآن على كتاب أو دراسة علمية تشير الى بقايا السومريين الحاليين وقبائلهم وأنسابهم؛ وهي قضية مهمة تثير الفضول العلمي؛ أكثر من كونها قضية عاطفية وقومية وسياسية. وهذه المهمة من المفترض أن يقوم بها ابتداء الباحثون المتخصصون بالشأن السومري، ثم من يدعون الى تسمية إقليم جنوب العراق المقترح بـ (إقليم سومر)، وأخيرا من ينسب نفسه الى السومريين. ولأبناء الجنوب العراقي؛ الحق بأن يفخروا بجذورهم الضاربة في أرض العراق منذ آلاف السنين؛ فهم بناة مدنية البشرية وحضارتها، ومعمارو الأرض وصانعي مجد حضارة وادي الرافدين.
المكونات العرقية والقومية للأُمة العراقية
كل واحدة من الفقرات التي أعرضها هنا، هي بالأساس فصل أو جزء من فصل، وأترك ذكر المصادر الى أصل الكتاب، كما هو سياق عرض الخلاصات والنتائج في البحوث المنهجية.
1- السومريون عرق مستقل جينالوجيّاً، ليس سامياً ولا آرياً، وهم أصل تكوين العراق ونشوئه، قبل هجرات الكاشيين والميديين والفرس والعرب، وهم بذلك يشبهون العيلاميين في استقلالهم العرقي، والذين يعدون أصل إيران، قبل هجرات الآريين من الفرس والميديين والفرثيين. وكان يُقدّر عدد السومريين بحوالي مليون ونصف المليون نسمة خلال حكم الإمبراطور السومري شيروگين (سرجون الأكدي)، وهم بالأصل سكان جنوب العراق، أي سكان محافظات المثنى والناصرية والبصرة والعمارة، وبعد تأسيسهم الإمبراطورية الأكدية (بين النهرين)، استوطنوا أيضاً مناطق الفرات الأوسط وشمال العراق، وتحديداً محافظات القادسية والجنوب العراقي، او ما يضم حالياً محافظات القادسية و وواسط وديالى.
2- الذي أسس العراق بشكله الطولي، الذي مثّل حضارة (بين النهرين) من الفاو وحتى زاخو، هم السومريون بقيادة شيروگين (سرجون الاكدي)، في العام 2340 قبل الميلاد، وعٌرف آنذاك بالإمبراطورية الأكدية، نسبة الى عاصمتها أكد في الفرات الأوسط. وكانت أراضي شرق دجلة وغرب الفرات، أما خالية من السكان، أو فيها شعوب أُخرى، لا تنتمي الى شعوب بين النهرين ولا تخضع لسلطتهم.
3- كانت الشعوب التي تزامن وجودها في أراضي العراق الحالي مع تأسيس العراق الطولي قبل (4400) سنة تقريباً، بقيادة شيروگين (سرجون الاكدي)، أو هاجرت بعده بالتدريج الى ما قبل الفتح العربي الإسلامي، واستوطنت شرق دجلة تحديداً، من جنوبه الى شماله؛ هي: الشعوب العيلامية (أجداد اللر الفيليين والبختيارية واللكية وغيرهم) في جنوب شرق العراق، الكاشية في شرق العراق، الميدية الآرية (الكردية) في شمال شرق العراق، الفارسية الآرية في شرق العراق، وهي شعوب أصيلة في هذه الأراضي والمناطق. أما الشعوب السومرية والبابلية والكلدانية والآشورية؛ فكانت ضمن منطقة بين النهرين، وخاضعة لسلطة ملك أو رئيس أو إمبراطور من الشعوب نفسها، رغم وجود غزوات واحتلالات متبادلة بين الدول والإمبراطوريات العيلامية السومرية والآشورية والفارسية والكاشية لعواصم ومدن بعضها الآخر. وقد اختلطت الشعوب السومرية والبابلية والكلدانية والآشورية ببعضها، ضمن الإمبراطورية الأكدية، ثم اختلطت معها شعوب شرق دجلة وشمال غرب الفرات، وباتت هي القوميات المؤسسة للعراق في خارطته الحالية، نتيجة الهجرات والغزوات والاحتلالات التي كانت تمتد أحياناً الى (500) سنة.
4- إذا نظرنا الى القوميات الحالية الحية في غرب آسيا؛ فسنرى أن الفرس هم أحفاد الفرس الآريين القدماء، والكرد والأذربيجانيين والجيلكيين أحفاد الميديين الآريين، والبلوش والبشتون أحفاد الفرثيين الآريين، والفيليين واللك والبختيارية أبناء القومية اللرية وأحفاد العيلاميين، واليهود أحفاد بني إسرائيل الساميين القدماء، والكلدان احفاد الكلدان الساميين القدماء، والآشوريين أحفاد الآشوريين القدماء؛ فسنرى أن كل العرقيات والقوميات استمر وجودها الحي، وهو أمر طبيعي، وحينها سيفرض السؤال نفسه: أين ذهب أحفاد البابليين والسومريين؟!. فإذا كان عدد نفوس البابليين والسومريين لوحدهم يقدر بمليون ونصف المليون نسمة خلال حياة الامبراطورية الكلدانية، أي قبل ثلاثة آلاف سنة؛ فإن أحفادهم الآن ينبغي أن لا يقلّوا عن (50) مليون نسمة حداً أدنى؛ فكيف تبخّر هؤلاء؟، في الوقت الذي لم يذكر التاريخ أن حوادث طبيعية قضت على أولئك المليون ونصف المليون نسمة، ولا مجازر جماعية أنهت وجودهم. ولذلك؛ أعتقد بأنهم استعربوا جميعاً بعد دخول العرب المسلمين الفاتحين الى العراق قبل (1400) عام تقريباً.
5- الفيليون واللك والبختيارية والكلهورية والممسنية والبويرية هم قبائل شقيقة تنتمي الى القومية اللرية، التي تنتمي الى العرقية العيلامية، ويتشكلون من (34) قبيلة. والعيلاميون من أقدم الشعوب التي أقامت أول حضارة في جنوب غرب إيران قبل 4 آلاف قبل الميلاد، وعاصمتها شوش في محافظة خوزستان الإيرانية حالياً. وهم ليسوا آريين ولا ساميين، بل عرقية مستقلة عمرها أكثر من عشرة آلاف سنة، ويعود وجوده في ايران الى العصر الحجري. إلّا أن دولتهم تأسست بعد ذلك بحوالي أربعة آلاف سنة. وكانت الحضارة العيلامية مجاورة للحضارة السومرية ومتعاونة معها، وتتبادلان التأثير. وكانت أراضي الحضارة العيلامية تمتد الى غرب دجلة داخل أراضي العراق الحالي (حالياً: خوزستان ولرستان وإيلام في ايران و أجزاء من ديالى و واسط والعمارة والبصرة في العراق). أي أن هذه المناطق هي مناطق لرية أصيلة، وقد سكنها أجداد الفيليين قبل ستة آلاف سنة، أي قبل هجرات الكاشيين والآريين الفرس والميديين (أجداد الكرد)، وقبل هجرات العرب الأولى (المناذرة والتغالبة اليمينون) الى العراق بأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، بل قبل ظهور العرب في الجزيرة العربية. وبذلك يكون السومريون وأجداد الفيليين، أول شعبين يستوطنان العراق. وقد تعاونا معاً في حقب كثيرة لصد الغزوات الآشورية، ودخول اراضيها. وهذا يعيد تأكيدنا على أن الفيليين ليسوا كرداً، وليسوا من القبائل المتنقلة الرحل ولا من سكان الجبال، بل سبق وجودهم في العراق هجرة الآريين الى إيران، ومنهم الميديين، أجداد الكرد، بآلاف السنين.
6- الفرس؛ شعباً ومجتمعاً، امتدت مناطق سكناهم، منذ (3000) سنة تقريباً، واستوطنت أراضيها التي كانت خالية من السكان، والتي تقع حالياً ضمن أراضي العراق، وتحديداً محافظتي واسط وديالى، كما ذكرنا في الفقرة السابقة، وكانوا مجاورين للشعوب العيلامية ( أجداد الفيليين) والميدية (أجداد الكرد) والفارسية والكاشية في شرق دجلة، من جنوبه الى شماله. ولذلك؛ فالفرس الذين كانوا مستوطنين في الأراضي التي تقع ضمن العراق الحالي، كأي شعب آخر، لم يكونوا محتلين لهذه المناطق، بل هي مناطق سكناهم وهجرتهم، ولم يسلبوها من شعب آخر، لأنها كانت خالية ولا تخضع لأية سلطة، كما ذكرنا. أما الدولة الفارسية الأخمينية التي احتلت بابل، فإن الاحتلال كان يقتصر على أراضي الدولة البابلية وصولاً الى صحراء الأنبار، التي تحولت آنذاك الى اكبر ثكنة عسكرية فارسية، ومنها انطلقت الغزوات الفارسية نحو الشام وشمال أفريقيا وأوروبا. أما باقي الأراضي التي تضم عاصمة الإمبراطورية الفارسية طيسفون (100 كم عن العاصمة بابل)، وصولاً الى الحدود الإيرانية العراقية الشرقية الحالية؛ فهي أراضي يسكنها الفرس أساساً. وبالتالي؛ فالسؤال الذي يُطرح حيال أحفاد البابليين والسومريين، يطرح أيضاً حيال أحفاد فرس في العراق الحالي، وهم أيضاً خضعوا لعمليات التعريب والاستعراب؛ لأنهم أسلموا وبقوا في أراضيهم، ولم يهاجروا الى أراضي إيران الحالية.
7- الكرد هم فرع من القومية الميدية الآرية (الهندو اوربية)، والآريون هم قبائل بدأت بالنزوح من آسيا الوسطى الى هضبة إيران، منذ (3,000) سنة قبل الميلاد، وتفرعوا في إيران الى ثلاث قوميات: الفرس والميديين والفرثيين؛ فاستوطن الميديون شمال وغرب إيران، وأسسوا ــ فيما بعد ــ الإمبراطورية الميدية وعاصمتها هگمتانه (همدان الحالية في إيران)، فيما استوطن الفرس وسط وجنوب إيران، وأسسوا الإمبراطورية الفارسية، وعاصمتها پرسپوليس (شيراز الحالية في إيران)، واستوطن الفرثيون شرق إيران. ونزحت بعض القبائل الميدية في الفترة نفسها تقريباً، وهي التي عرفت بالكُرد، باتجاه شمال غرب إيران، واستوطنت أراضيها، والتي تقع حالياً ضمن أراضي العراق، وتحديداً محافظة السليمانية، أي أن الميديين الكرد، هم سكان الجبال غالباً، على عكس القبائل الميدية الأخرى التي سكنت السهول الإيرانية وجاوروا بحر الخزر (قزوين) وبحيرة أُرومية، ومنهم الآذريين (الآذربيجانيين).
8- بدأ وجود اليهود في العراق منذ السبي البابلي الأول والثاني في الأعوام 587- 582 قبل الميلاد، على يد نبوخذ نصر الثاني؛ فمنهم من بقي في العراق حتى بعد الفتح الإسلامي، ومنهم من عاد الى أرض كنعان وسيناء ومصر خلال الأحتلالين الفارسي والمقدوني لبابل. أما الذي بقي في العراق بعد الفتح؛ فمنهم من أسلم واستعرب، ومنهم من بقي على دينه؛ فحافظ على قوميته اليهودية أيضاً، حاله حال بعض الكلدان والآشوريين المسيحيين. ومن العراق، هاجر بعضهم الى إيران والأناضول والقوقاز، وصولاً الى روسيا، خلال آلاف السنين.
9- وصل العرب الى العراق بعد تأسيس العراق وتكوين الأُمة العراقية، عبر هجرتين كبيرتين، إحداهما هجرة قبيلة المناذرة اليمنية في حدود 30 قبل الميلاد، أي قبل حوالي (2.100) سنة، وهو أول وجود للعرب في العراق؛ إذ استوطنوا الحيرة وأسسوا مملكتهم في الفرات الأوسط وصولاً الى غرب العراق الحالي في سنة 268 م، والثانية هجرة قبيلة تغلب اليمنية ، واستوطنوا شمال العراق، وتحديداً الموصل الحالية وضواحيها وسهل نينوى، وهو ما كان يسمى ديار ربيعة. وقد اتخذ المناذرة والتغالبة المسيحية ديناً فيما بعد، كأبناء عمومتهم الغساسنة في الشام. والتغالبة هم أجداد الحمدانيين (مؤسسو الدولة الحمدانية في شمال العراق وبلاد الشام). ثم جاءت الهجرات العربية الكثيفة الحجازية والنجدية واليمنية بعد الفتح العربي الإسلامي للعراق، والذي كان حينها بلداً حضارياً عريقاً، بل أعرق حضارة في العالم. والمفارقة أن عرب العراق الأصليين حاربوا عرب الجزيرة الفاتحين بشراسة، فقد كان التغالبة نصارى وجزءاً من الدولة الرومانية، وكان المناذرة نصارى أيضاً وجزءاً من الدولة الفارسية.
10- كانت بداية التعريب والاستعراب في العراق مع تأسيس مملكة المناذرة العربية المسيحية التابعة للامبراطورية الفارسية في العراق، في العام 268 م، وكان هذا التعريب الذي يستهدف السكان الأصليين، وخاصة السومريين؛ مقتصراً على بعض مناطق الفرات الأوسط، وخاصة أجزاء من محافظات المثنى والقادسية والنجف الأشرف الحالية، ولم يمتد باتجاه أي من مناطق الفرات الأوسط والجنوب والشمال العراقية، بل انحرف ممتداً باتجاه غرب العراق. كما كان جزء من أراضي محافظة نينوى الذي تقطنه قبيلة تغلب، وهو ما عُرف بديار ربيعة، يتحدث باللغة العربية، وكذلك جزء من صحراء جنوب العراق، وتحديداً غرب محافظتي البصرة وذي قار، الذي تسكنه بعض القبائل العربية، مثل قبيلة شيبان، أي أن 80 بالمائة من العراق الحالي لم يكن عربياً ولا يتحدث بالعربية عند دخول الفاتحين العرب المسلمين الى العراق (بخارطته الحالية)، ولم تكن تسميته موحدة، بل يحمل عدة تسميات، وفق القوميات والعرقيات والدول الموجودة، آنذاك، وكان منها اسم العراق، وهو معرّب التسمية السومرية (أوروك) أو التسمية الآرامية (أراكيا)، بينما كانت تسمى عند اليونانيين (ميزوبوتاميا)، وهي ترجمة للمصطلح الآرامي (بين نهرين أو بيت نهرين)، أي أن هذه التسمية التي كانت تعد شاملة؛ فهي كانت تقتصر على مناطق بين دجلة والفرات، ولا تشمل شرق دجلة وغرب الفرات. وبالتالي؛ فإن العراق بصيغة الحالية كان نتاج ما بعد الفتح العربي الإسلامي، واستمر إنتاجه مئات السنين، حتى أخذ شكله الحالي كنتاج لمعاهدة سايكس ــ بيكو بين بريطانيا وفرنسا في العام 1916، والتي نصّت على تشكيل دولة تحمل اسم العراق تتكون من ثلاث ولايات عثمانية، هي البصرة وبغداد والموصل، ولم تكن الدولة العثمانية حين قسّمت هذه الولايات تأخذ بنظر الاعتبار الوحدة الجغرافية أو التاريخية أو القومية أو العرقية أو السياسية، بل قسّمتها على أساس إداري ـ فني.
وكانت أراضي العراق الحالي، قبل الفتح العربي الإسلامي في الفترة من 12 ــ 14 ه (632 ــ 634 م)، خاضعة لحكم الإمبراطورية الساسانية الفارسية لأكثر من (400) سنة، كما كان يتقاسمها آنذاك عدد من المكونات القومية والعرقية، وهو تقاسم سكاني مجتمعي، وليس احتلالاً، وعلى النحو التالي:
- مناطق جنوب العراق، كمحافظتي البصرة وذي قار وجزء من محافظة العمارة الحالية، كانت سومرية وتتحدث باللغات السومرية والآمورية والأكدية، وقليل منها بالنبطية
- أراضي جنوب شرق العراق، ومنها أجزاء من محافظتي العمارة وواسط الحاليتين؛ كانت عيلامية (عرقية أجداد الفيليين)، وتتحدث باللغة العيلامية
- مناطق مملكة المناذرة، وتضم أجزاء من محافظات المثنى والقادسية والنجف الأشرف الحالية، وهي عربية ويتكلم سكانها اللغة العربية
- مناطق الفرات الأوسط وما يجاورها، وتحديداً محافظات كربلاء وبابل ومحافظة بغداد وغرب محافظة واسط وجنوب محافظة صلاح الدين الحالية؛ فكانت بابلية، وتتحدث بلغات الشعوب البابلية، كالأكدية والكلدانية والآمورية وغيرها
- أراضي شرق العراق، وصولاً الى الحدود العراقية الإيرانية الحالية، أي شرق محافظة بغداد ومحافظة ديالي الحاليتين؛ كانت فارسية وتتحدث باللغة الفارسية
- أراضي شمال شرق العراق، وتحديداً محافظة السليمانية وجزء من محافظة أربيل الحاليتين؛ كانت كردية ويتحدث أهلها باللغة الكردية
- أراضي شمال العراق، وخاصة مناطق محافظات كركوك ونينوى ودهوك وشمال محافظة صلاح الدين وأغلب محافظة أربيل؛ آشورية وتتحدث باللغتين الآرامية والأكدية وغيرهما.
- كانت مناطق غرب العراق، وخاصة شرق محافظة نينوى ومحافظة الانبار الحاليتين، أغلبها صحراء وبادية غير مسكونة، عدا عن بعض الثكنات العسكرية الفارسية وبعض التجمعات القبلية لقوميات متعددة، كالآموريين والآراميين.
11- الذين فتحوا العراق من عرب الجزيرة ثم هاجروا إليها، لم يكن يزيد عددهم عن مائة ألف في أفضل التقادير، بينما كان عدد السومريين والبابليين والعيلاميين والفرس يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة. وقد اختفى وجودهم فيما بعد؛ فإذا قلنا أنهم ذابوا؛ فكيف تذوب هذه الملايين في المائة ألف عربي جزيري؟. وحل شيفرة الذوبان هذا يكمن في طريقة التذويب، والمتمثلة بالتعريب التلقائي أو القسري؛ فقد كان كل واحد من العرب الفاتحين الغالبين، يقتطع أراضي عراقية شاسعة، بما فيها من مزارع وحيوانات وممتلكات وبشر مسالمين، ويتحول الرجال الى عاملين وحرس لديه، وينخرط الباقون في جيش الفتح العربي. أما النساء فيتحولن الى زوجات وإماء أو عاملات، وترسل أعداد منهن الى مدن الجزيرة. وبمرور الزمن أخذ العامل والفلاح والجندي العراقي (السومري والبابلي والعيلامي والفارسي والكلداني) يحمل اسم قبيلة عشيرة الفاتح العربي الجزيري، أي يصبح جزءاً من قبيلته وعشيرته وأسرته. وبمرور السنين، بات العراقيون السومريون والبابليون، وأغلب العيلاميين والفرس والكلدان داخل حدود العراق الحالية، يتحدثون العربية فقط، وبذلك انقرضت اللغة السومرية وخطها وحروفها، وكذا البابلية، وكذا الأكدية التي كانت لغة الإمبراطورية العراقية، بعد أن تعرّب أكثر العراقيين. أما لماذا انقرض البابليون والسومريون دون غيرهم من شعوب الأمة العراقية، وذابوا تماماً بعرب الجزيرة الفاتحين، فلذلك سبب أساس، لأنهم كانوا في وسط العراق وجنوبه، وليست لهم امتدادات قومية بعيدة جغرافياً، على العكس من العيلاميين والكرد والفرس والكلدان والآشوريين، إذ احتفظ كثير من هؤلاء بلغتهم الأصلية وبانتمائهم القومي، لأن العيلاميين (أجداد الفيليين) يمتدون من العمارة والبصرة وواسط وديالى الى عمق خوزستان ولرستان وإيلام، ويمتد الفرس الى أعماق إيران وصولاً الى شرقها، ويمتد الكرد الى أعماق ايران أيضاً، وصولاً الى همدان عاصمة أجداهم الميديين. أما الكلدان والآشوريين؛ فإن من احتفظ منهم بدينه المسيحي؛ فإنه بقي محافظاً على لغته وقوميته، أما من أسلم منهم؛ فقد استعرب لغة وقومية.
12- تتكون الأمة العراقية في حدود العراق الحالية، من عرقيات وقوميات وشعوب متنوعة، بعضها قوميات مؤسسة للعراق الأصلي (جنوب العراق) قبل ستة آلاف سنة، وبعضها مؤسسة للعراق الوسيط (الجنوب والفرات الأوسط) قبل خمسة آلاف سنة، وبعضها قوميات مؤسسة للعراق الإمبراطوري وحضارة وادي الرافدين (العراق الطولي بين دجلة والفرات من شماله الى جنوبه) قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وقسم منها مؤسس للعراق الإسلامي ذي الولايتين، قبل (1,400) سنة، وبعضها مؤسس للعراق العثماني ذي الثلاث ولايات، وهذه المكونات القومية على النحو التالي:
- السومريون، وهم أصل العراق، وأول من استوطنه قبل (7,000) سنة تقريباً، وموطنهم الأصلي جنوب العراق، ثم استوطنوا الفرات الأوسط وشمال العراق، وخرج منهم الأكديون في الفرات الأوسط، الذين هم خليط من الشعوب السومرية والبابلية والكلدانية والأمورية. وكانت دولهم في جنوب العراق أول المدن ــ الدول في العالم، ثم تحولت الى امبراطورية قبل (5,000) سنة، تمتد على كل أراضي ما بين النهرين.
- البابليون، وهم شعب خليط من عدة قوميات، يعود تأسيسهم الى الآمورييين المهاجرين من بادية سوريا قبل (5.000) سنة تقريباً، وأسسوا مدينة بابل، وكانت منطقة خاضعة للسومريين، ثم سيطر الكلدانيون على بابل، ثم الحيثيون ثم الكاشيون ثم الفرس، ولذلك؛ فإن البابليين هم خليط من الآموريين والكلدانيين والكاشيين والفرس، وموطنهم الأصلي الفرات الأوسط، ثم امتدوا في أراضي بين النهرين حتى الشمال.
- الكلدان، وهم شعب ينتمي الى حضارة بين النهرين، وموطنه الفرات الأوسط، وكانوا حكام بابل وأباطرتها بعد الآموريين، وذلك قبل (4500) سنة.
- الآشوريون، وهم خليط قومي يعود الى الشعب الأكدي (الخليط بالأساس) المهاجر من الفرات الأوسط. وقد تكوّن الشعب الآشوري من السومريين والحيثيين والحوريين والكلدان والآراميين، وموطنهم شمال العراق، وتأسست امبراطوريتهم في شمال العراق، وتحديداً في جنوب محافظة نينوى الحالية، قبل حوالي (4500 سنة).
- العيلاميون، وهم عرقية أصلها من جنوب غرب إيران، وتنتمي إليهم القومية اللرية التي تضم القبائل الفيلية واللكية والبختيارية والكلهورية وغيرها، وقد استحوذت تسمية الفيليين في العراق على كل المنتمين الى القومية اللرية، والتي استوطن قسم من قبائلها في جنوب شرق العراق (شرق دجلة) قبل (4000) سنة تقريباً.
- الفرس، وهم قومية إيرانية، نزحت بعض قبائلهم الى شرق العراق قبل (3,000) سنة تقريباً، وظلت طيسفون (شرق بغداد) عاصمةً لإمبراطوريتهم حتى الفتح العربي الإسلامي.
- اليهود، وهم ديانة وقومية، استوطن بعضهم في بابل، بعد أن سباهم الإمبراطور البابلي، وجلبهم من أرض كنعان (فلسطين الحالية) قبل (2,600) سنة، ثم انتشروا في مناطق الفرات الأوسط.
- العرب، وهم من الشعوب السامية، ويتشكلون من عرب اليمن وعرب الجزيرة العربية، وأول من هاجر منهم الى العراق، المناذرة في الفرات الأوسط قبل (2,100) سنة، ثم التغالبة في شمال العراق.
- الكرد، وهم من الشعوب الميدية الآرية، واستمرت هجراتهم من إيران الى شمال العراق، حيث موطنهم الحالي، لأكثر من (3,000).
- التركمان، وهم من الشعوب التركية الأوغوزية التي تعود أصولها الى منطقة تركستان غرب الصين، ولعلهم آخر الشعوب التي استوطنت شمال العراق مع الهجرات التركية، ولاسيما السلجوقية والعثمانية، وأهمها هجرات ما بعد العام 1055 م و ما بعد العام 1534 م.
وهناك مكونات أُخرى، كالصابئة والشبك والإيزديين، لكنهم ليسوا قوميات؛ فالصابئة هم أتباع ديانة، وفيهم من أصول سومرية وعيلامية وكلدانية وعربية وغيرها، وهكذا بالنسبة للإيزديين؛ فهم ديانة وليسوا قومية؛ إذ فيهم عرب وكرد، أما الشبك؛ فهم خليط مندمج من الفرس والآذريين والكرد والتركمان، برغم استقلالية لغتهم، والتي هي أيضاً خليط لغوي من القوميات الأربع المندمجة المذكورة.