نوفمبر 22, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

يذكر الكاتب السويدي جونار ميردال في كتابه (الدراما الاسيوية) المنشور عام 1968 (ان التاريخ لايقدم لنا مثلا واحدا عن بلد يسوده تخلف كببر استطاع ان يقدم ديمقراطية سياسية ثابتة وفعالة) . ورغم تلك الحقيقية الماثلة للعيان التي ايدتها التجارب على ارض الواقع في دول العالم الثالث , الا ان السرديات الغربية مازالت تؤكد بانه لايوجد حتى الان اي نظام يشكل بديلا عن الطغيان والديكتاتورية والاستبداد غير الديمقراطية والليبرالية . وبالطبع خضع المفكرين والمنظرين العرب – او في العالم الثالث – الى تلك السردية بحكم المركزية الغربية التي تحدد المفاهيم وتخترع المصطلحات والتوجهات , وكنت من ضمن اولئك الافراد الذين روجوا لهذا المفهوم بدراسات سابقة واهمها (الليبرالية دين العصر)(التي عدها البعض افضل دراسة عن الليبرالية باللغة العربية) و (الطريق الوحيد للتنوير والحداثة) في موقع الحوار المتمدن . وخاصة في مجال الرد على اطروحة الرئيس الايراني محمد خاتمي الذي اكد وجود الطريق الاخر غير النظام الغربي للتنمية . وذكرت بان (الليبرالية والديمقراطية ليست خيار , وانما قدر يجب الخضوع له والاستسلام له) , واعترفت ايضا بصعوبة تطبيقها وضرورة الصبر عليها وتحمل اهوالها ومصاعبها ونتائجها , واستندت في ذلك على التجارب الاوربية في التاريخ الحديث ,وكيف انها تحملت قرون طويلة من الحروب الخارجية والداخلية والفتن والانهيارات حتى وصلت الى الديمقراطية الحقيقية والاستقرار والازدهار , واستشهدت بعبارة علي الوردي الذي اكد (ان الديمقراطية عادات وليس محفوظات) وانها تنضج بالممارسة . الا انه وفي السنتين الاخيرتين وماحصل في العراق من تلاشي مفهوم الدولة كليا في الجنوب بعد التظاهرات الاخيرة عام 2020 وسيطرة العشائر واختراق الاحزاب للدولة بشكل كبير وانتشار الفساد والاحتراب والصراع السياسي والحزبي وغيرها , فطرحت على نفسي هذا السؤال : لماذا لايكون هناك طريقا ثالثا للحكم بين الطغيان والديمقراطية ؟؟ طريق يحفظ النظام العام من التسيب والفوضى واختراق الدولة من الاحزاب من جهة , ويحفظ الحرية التعددية السياسية والثقافية والتداول السلمي للسلطة من جهة اخرى ؟؟ وان يكون هذا النظام من بنات افكار المنظرين والمفكرين من العالم الثالث حصرا , وليس من الكتاب الغرب لان المركزية الغربية الفكرية والثقافية حسمت امرها بانه (لايوجد طريق ثالث للحكم غير الديكتاتورية الا الديمقراطية) . (بمعنى ان هناك طريقين فقط لاثالث لهما) .
في الواقع ان هذه الاشكالية سبق وان طرحت عند انتشار الفوضى والتسيب في الدول الاوربية والاسلامية بعد تطبيق الديمقراطية , والبحث عن البديل . فقد طرح فولتير ومونتسكيو نظام (المستبد المستنير) , فيما طرح السيد جمال الدين الافغاني وتلميذه الشيخ محمد عبدة (المستبد العادل) . وقد تعرضت هذه النظريات الى انتقادات حادة حول استحالة جمع النقيضين (الاستبداد) و (العدالة) . كما ان التجارب اثبتت ان تحقيق هذه الاطروحة او نجاحها على ارض الواقع يكون نادرا . بمعنى ان هناك تجارب ناجحة نسبيا في تحقيق هذا النمط من الحكم , وهو (المستبد المستنير العادل) , الا انه نادرا وشاذا ومرتبط باشخاص محددين او واعين سرعان مايرتكس النظام الى (المستبد الظالم) بعد وفاتهم , كما في مثال عبد الكريم قاسم (ان صح التطبيق) وما اعبقه من قيام انظمة استبدادية وديكتاتورية . كما ان الديكتاتورية تشكل قفزة بالمجهول ومغامرة غير مضمونة العواقب والنتائج ,فانت لاتستطيع ان تفرض رايك على الديكتاتور في ان يكون عادل او مستنير, لانه قد يطرح اراء وسلوكيات جيدة في البداية , ولكن ما ان يتسلم السلطة حتى تظهر حقيقته الاجرامية . كما ان عبارة المستبد العادل ممتنعة عقلا , اذ كيف يكون هناك ديكتاتور وعادل ؟؟ لان من اهم سمات الديكتاتور هو الظلم الذي يجب ان يمارسه من اجل ترسيخ سلطته وتنفيذ اجرامه وسطوته , لانه بالعدل والمساواة والتسامح والحرية لا يستطيع ان يكون ديكتاتور…
فيما ان ماندعو اليه ليس نظام مرتبط بفرد (حاكم اوحد وعادل) , وانما هو نظام مؤسساتي دائم يجمع – كما قلنا – الحزم والعصبة والسيطرة على الحكم وفرض سلطة القانون من جهة وبين التعددية السياسية والثقافية والتداول السلمي للسلطة من جهة اخرى . بمعنى نظام لايجنح نحو الاستبداد والانتهاك والصرامة من جانب , ولا الى التسيب والفوضى والدولة الرخوة او الفاشلة من جانب اخر …. وكما قال المنظر الليبرالي جون سيتوارت مل (ان الاستبداد هو اسلوب شرعي للحكومة في التعامل مع البرابرة , شرط ان تكون في النهاية تحسينهم) .
وما اقترحه بهذا الصدد بعد دراسات كثيرة وتأملات عديدة للواقع لسياسي في العالم الثالث هو نظام حكم (الترويكا) الرئاسية الجماعية الانتقالي الذي يجمع الفردانية والتعددية . اي يجب ان يكون هناك (مجلس رئاسي) اعلى , يقف على راسه رئيس الجمهورية ونواب (للشؤون الادارية والشؤون الاقتصادية والشؤون العسكرية والشؤون الامنية والشؤون التربوية والشؤون التنموية) يمثلون المكونات الاجتماعية والجهات السياسية الفاعلة في البلاد . له صلاحيات تنفيذية وتشريعية مؤقته قد تستمر عشر سنوات , يعمل خلالها على ترسيخ مفهوم الدولة واقرار دستورها وتنظيم قوتها وامنها واقتصادها . ثم يعاد بعدها بهذا بالنظام السياسي , فاذا وجد ان الشعب مؤهلا للديمقراطية في حكم نفسه بنفسه , فانه سيوكل السلطة للشعب من خلال الانتخابات البرلمانية او الرئاسية وغيرها, وان كان غير مؤهل فانه يمدد النظام الحاكم عشر سنوات اخرى …. وهكذا حتى يصل المجتمع الى مرحلة النضج والوعي السياسي والحضاري وبلورة دولة القانون وقيام المؤسسات الامنية والدستورية والقضائية الرصينة والحقيقية .
وقد يطرح احدهم اشكالية ان حكم (الترويكا) الجماعية هو شبيه بمجلس الحكم الانتقالي في العراق الذي اسسه الامريكان عام 2003 وحل عام 2004 القائم على المحاصصة بين المكونات العراقية . في الواقع ان تاسيس المجالس السياسية الانتقالية التي تضم المكونات الاجتماعية والقوى السياسية الفاعلة ليس منقصة بحد ذاته , بل هو نظام واقعي يعتمد سياسة التوافق في المجتمعات المأزومة والمضطربة التي تعاني من الاشكالات المذهبية والاثنية والدينية والقومية وغيرها, وتبديد مخاوفها وتحقيق هويتها وكينونتها وطموحها ,ولكن الاشكال بالتطبيق وعدم الانتقال نحو افق الدولة المواطنة وسيادة القانون , واحتكار السلطة ومقدرات الدولة من قبل تلك المكونات والقوى السياسية لصالحها , وتحولها الى كانتونات واقطاعيات خاصة لها . ولكن يبقى هناك اختلافا بين مجلس الحكم الانتقالي في العراق وبين حكم (الترويكا) الانتقالي الذي اقترحه بالنقاط الاتية :
1 – ان مجلس الحكم الانتقالي ليس له صلاحيات تنفيذية او تشريعية , وانما كان تابعا لسلطة التحالف والاحتلال الامريكي . فيما ان مجلس حكم (الترويكا) له صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة .
2 – عدم وجود رئيس لمجلس الحكم الانتقالي , واقتصار ذلك على رؤساء متغيرون ومؤقتون شهريا , فيما حكم ان (الترويكا) يكون هناك رئيسا ذو صلاحيات حقيقية بالقرار بالتشاور مع الاعضاء الاخرين .
3 – التوسع الكبير في اعداد اعضاء مجلس الحكم وهو (25) عضوا , الامر الذي جعله مترهلا وغير منسجما , فيما ان حكم ا(لترويكا) يجب ان لايتجاوز العشرة من الاعضاء الفاعلين.
4 – صلاحية الاعضاء في مجلس حكم (الترويكا) محددة ضمن المؤسسات الحقيقية والمهمة في الدولة والمجتمع مثل نائب الرئيس للشؤون الاقتصادية والامنية والعسكرية والادارية والقضائية والدستورية والتنموية والتربوية والقانونية , فيما ان ذلك غير متوفر بمجلس الحكم حيث الاعضاء كانوا عموميين .
وطبعا يوجد في هذا النظام المقترح اختلالات كبيرة وتساؤلات , الا انه مجرد فكرة طرحت حول الاشكالات المستعصية التي انتابت الدول التي تحولت من الانظمة الديكتاتورية الى الانظمة الديمقراطية دون المرور بالمرحلة الانتقالية , وما اعقبها من فوضى وانقسام واحتراب وتسيب وصلت في احدى مراحله الى الحرب الاهلية والعنف المادي والرمزي بين المكونات الاجتماعية والسياسية , لذا فاني ادعو الى تبني هذه الرؤية في الحكم اكاديميا وفكريا وسياسيا في الجامعات العربية والعراقية – وحتى الغربية – واعتمادها كصيغة للحكم في المرحلة الانتقالية الخطيرة والدقيقة في تاريخ الدول , التي اما ترتكس فيها اما نحو العودة للدكتاتورية والاستبداد , او الحرب الاهلية والاحتراب بين المكونات الاجتماعية والسياسية , او السقوط في مستنقع الفوضى والتسيب والفساد . واعتمادها كطريق ثالث بين الديمقراطية والديكتاتورية . كما ان هذه الصيغة بالحكم لايمنع من قيام المنظرين والمفكرين والمختصين في مجال العلوم السياسية من تطويرها وانضاجها , واخضاعها لمزيد من الدراسة والتحقيق , ومن توسيع مدياتها وسلطتها في الدولة والمجتمع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *