الكاتب : هادي حسن عليوي
اليوم أتذكركً أبي في أول مرة تأخذني معكً.. كان يوم جمعة.. وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان العام 1944.. وعمري كان أربع سنوات.. وقلتً ليَ : بعد أيام يأتي العيد.. وسأأخذك اليوم إلى أحسن حلاق في العراق.. سيحلق شعري مثل بقية الأطفال الموديل الجديد (زيان مجيدي).. فرحتٌ أنا كثيراً.. كنا في تلك الأيام نسمي حلاقة شباب اليوم (الماريز) باسم زيان (مجيدي) أو (طاسه) أو (عرقجين).. وبعض أبناء المدن العراقية الأخرى يمسونها: زيان (حدرية)..
أبي : أتذكر جيداً محل الحلاقة اسمه (حلاقة الجابي) القريب من محلكً.. لم أشعر أبداً بالحلاقة.. سوى إن الحلاق يقول ليً: (بالعافية) أي: (نعيماً) مال هذه الأيام.. وأتذكر جيداً عندما ذهبتً أنت إلى المصور جيران الحلاق وجاء وأخذ ليً معكً صورة.. احتفظتُ بها 18 سنة.. وعندما اعتقلتُ أنا وسجنتٌ سياسياً في الثاني من تموز العام 1962 حتى آذار 1964 ظلت الصورة مع صور العائلة.. حاولتٌ الحصول عليها لأنشرها مع هذه المقالة.. لكنني أخفقتُ..
أبي : كانت طفولتنا أياماً جميلة.. رعاية أبوية بحب وحنان.. لا مثيل لها في هذه الأيام.. كنا في تلك الأيام أنا وأخي (حجي فليح) نخرج من المدرسة لنأتي إلى محلكً.. وحال وصولنا نسلم عليكً.. فترد علينا بسلامك الجميل : (أهلاً بأصدقائي الأعزاء).. وتصافحنا.. مصافحة الرجال الكبار.. وهي طريقة تربوية رفيعة.. ثم نتغذى معكً.. ونبقى حتى العصر.. لنعود إلى البيت.. كان الوقت يمر بسرعة.. لكن لم ننسى متابعتكً لنا بكل ود وحب..
دائماً تقول لنا : أصدقائي الأعزاء: ما هو عملكم ؟ نرد عليكً.. كما علمتنا (نحن طلاب.. وعملنا الدراسة.. والاجتهاد.. والنجاح بتفوق).. فتحضننا وتقبلنا.. والابتسامة لا تفارق وجهكً..
أبي: يا أعز الآباء..علمتني أنت مع أمي الحنون : الذوق.. والأناقة.. وآداب الطعام.. وآداب الحديث.. ولا أصاحب النمام والمنافق والكذاب.. وعندما أشاهد فقيراً أتذكر الآية الكريمة: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناَ ويتيماً وأسيراً).. ولا أنصر أخي ظالماً.. ولا أنصر أي ظالمٍ مهما كان.. بل أنصر الحق.. أبي : تبقى كلماتك تنير طريقنا.. رحمكً الله..
والدي الفاضل : لم ترفع في يوم من الأيام صوتكً علينا.. ولم تضرب أحدنا.. ولم تزعلنا يوماً.. كأمي الحنون كنتً أنت كذلك.. وأقول لكً : (نحن أيضاً.. ربينا أبناءنا.. كما ربيتنا.. بحب.. وحنان.. ومودة)..على الرغم يا أبي إن ظروفنا كانت أصعب من ظروفكم.. أما ظروف أبنائنا فكانت في غاية الصعوبة والتعقيد.. وهم يواجهون الحروب والقتل والدمار والتخريب.. والبطالة والتجهيل والتخلف.. والأجرم منها (تزوير الدين)..
نعم يا أبي : التجهيل والتخلف.. الذي رحبً به من لا ضمير له.. الذين جاؤوا مع المحتلين الجدد الأمريكان.. ودول الجوار.. لا تصدق يأبي (أنت وجيلكً) : ما يحدث ببلدنا اليوم ؟؟..
أبي العزيز: حتى مفاهيم: (الوطنية.. والخيانة.. والعمالة.. والاحتلال).. تغيرت فالوطنية تشرذمت.. وأصبحت العشيرة والطائفة والمنطقة.. ولم تعد كلمة خيانة في القاموس.. ولا في التداول.. أما العمالة فأًصبحت (صديق).. والاحتلال.. (تحرير)..
أبي : أتذكر عندما أخذتني معك الى المركز الانتخابي لانتخابات مجلس النواب في صيف العام 1954.. وأنا بعمر 14 سنة لأشاهد كيف تنتخبون.. وكيف فازت قائمتكم الوطنية في تلك الانتخابات.. على الرغم من تزييف الحكومة الكبير لتك الانتخابات.. ولم تتحمل الحكومة فوز عدد من المعارضة الحقيقية.. فحلت المجلس في اليوم التالي.. وأعادت إجراء الانتخابات بتزييف لم تشهده السنيين السابقة واللاحقة..
أبي اليوم لا نحتاج لتزييف الانتخابات.. بل زيفوا أخلاق الإنسان عندنا.. أبي اليوم تجد من يهتف ويصرخ للتغيير والإصلاح ومحاربة الفساد.. هم أنفسهم الفاسدون.. وهم السراق.. وهم الطائفيون.. وهم المحاصصون.. والأنكى من ذلك أبي بعض الفاسدين يشاركون في قيادة تظاهرات الإصلاح والتغيير!!
أبي : المحاصصة يعني إنهم يوزعون المناصب الحكومية عليهم حسب كتلهم.. من الرئيس حتى الفراش.. لا تستغرب أبي.. فكل وزارة عندنا الآن ملكاً لوزيرها.. يلعب بها ما يشاء بلا حساب.. هذا هو الموجود اليوم!! أن رضينا أم أبينا.. تريد أن تصدق أو لا تريد..
والدي العزيز : لنعود قليلاً إلى ذكرياتنا.. فعندما أكملتُ أنا دراستي المتوسطة.. كنتُ أعمل معكً.. كبقية أخوتي.. لكنكً كنتً دقيقاً معنا في متابعتكً دراستنا.. وهكذا كنا جميع أبنائكً العشرة: (الأولاد والبنات) طلاباً مجتهدين وأكملنا دراساتنا بنجاح.. وبعضنا بتفوق عال..
أتذكر يا أبي عندما جئتكم فرحاً وأنا المتفوق الرابع على كليتي.. فرحتم كثيراً.. وأقمنا حفلة تخرجٍ خاصة ليً..غنينا وطربنا فيها جميعاً.. وبعد أيام قلت ليً وبحضور والدتي: (ابني هادي: إن شهادة البكالوريوس لم تعد نهاية المطاف.. مع تطور الحياة).. ففتحتً أنت وأمي عينيً لإكمال دراستي العليا..
وأتذكر عندما قبلتً (أنا) في الدراسة للماجستير.. قلتً ليً: (الآن بدأت الدراسة الجدية.. والتفكير العلمي).. مؤكداً عليً بالقول: (يجب أن تكون خطواتي واثقة.. ومعززة بالعلم والوثائق.. والرأي السديد)..
أتذكر كلماتكً أبى عندما كنتً تكررها دائماً: (أن المواهبً يصقلها الفقر.. وتخنقها الرفاهية).. لم أستوعبها.. بل حقيقةً شككتُ في صحتها.. فسألتكً أبي لم افهمها.. أو لم استوعب فقرتها الثانية.. فقلتً ليً: الرفاهية تجعل الكثير.. الكثير ينشغل في اللهو.. والراحة.. ويحصر تفكيرهم ومواهبهم في زيادة ديمومة رفاهيتهم وزيادة أموالهم.. فهم يخنقون مواهبهم.. فالمواهب يصقلها الفقر…. حقاً أبهرتني يا أبي عندما أعدتً صيغة الفقرة الثانية في ضوء محادثتك لي.. وقلتً إذن: (وتخنقها رفاهية الغباء والحرام).. فكانت تلك الحادثة درساً عظيماً في حياتي.. فعندما أخطأ.. أصحح خطأي بشجاعة ؟ دون خشية أحد ينتقدني.. وعندما أكون في منصب لا يصيبني الغرور.. وعندما أرزق بما شاء الله.. لا تشغلني رفاهية الحياة.. عن العلم والثقافة والتطور..
أبي .. وتمر السنين.. حياةٌ جميلة.. بحلوها ومرها.. دراسة وعمل وهدوء.. وتكبر معنا الأيام.. وتكبر معنا المهمات.. ونبدأ نخوض غمار الحياة.. بشوق وهمه عالية.. وتتسع أمنياتنا.. وأهدافنا.. ونكد بشرفٍ لتحقيق أمنياتنا..
أبي : أتذكر نصائحك وآراءك السديدة.. التي تبهرنا بها.. فنعيد ترتيب أفكارنا وخطواتنا.. وفعلاً أثبتت الأيام إن الآباء هم الأجدر.. وآلافهم.. والأكثر خبرة..
أبي : وفي الثلاثين من تشرين الثاني العام 1975 ودعتنا.. وأنتً مطمئنٌ تماماً علينا.. فقد كبرنا جميعاً.. وسرنا في الطريق الصحيح.. وبعضنا في مواقع متقدمة.. ولن ننسى كلماتكً التي تكررها دائماً: (كونوا خيراً لكل محتاج.. وحذاري.. حذاري من الحرام مهما كان.. وليكن ضميركم الحكم بين ما تفكرون.. وبين ما تفعلون).. نعم أبي كنا وما زلنا على العهد باقون.. ولم ندخل الحرام في جيوبنا أو بيوتنا.. وعلمنا أبناءنا على نفس الخطى والطريق المستقيم.. أطمئنكً يا أبي إنهم سائرون على نفس الطريق..
أبي التقيتكً حال عودتي من ايطاليا في الثلاثين من آذار العام 1981 في مقبرة وادي السلام.. بمدينة النجف الاشرف.. وجددتُ بيتكً بالموزاييك الايطالي.. وقرأنا الفاتحة.. ولم أنسى كلماتكً ووصاياكً.. فوزعت على المحتاجين والفقراء مما زرقنا الله.. ثم أكملتُ زيارتي بزيارة والدتي.. وأنت أعرف مني كم هي حنونة.. وجددت بيتها تماماً.. كبيتكً تماماً.. وبنفس المواصفات..
أبي كما علمتنا: إن الظلمُ إذا دامً دمر.. فقد دمرً الأشرار مقبرة النجف.. وجرفوا الكثير من قبور العراقيين وساووها مع الأرض في آذار العام 1991 بعد أن قتلوا الكثير من الشباب تحت ذريعة القضاء على الانتفاضة الشعبانية.. لكن الله يحبني فجئتُ بعد شهرين.. ووجدتُ قبركً وقبر أمي الحنون سالمينِ من ظلم الظالمين.. فشكرت الله على نعمته.. وجددتُ قبريكما أحسن تجديد..
أبي : في السابع من نيسان من العام الماضي (2016) زرتُ أنا النجف.. زيارة عمل لإجراء اختبارات الكفاءة المهنية لصحفيي هذه المدينة.. وفي صباح اليوم التالي جئتُ الى مقبرة وادي السلام وزرتكً أنتً.. وزرتُ أمي.. وقمتُ بالواجب الملقى عليً كإبن..
لكن الذي ألمني يا أبي كثرة الفقراء والأيتام والأرامل والأموات في آنٍ واحد.. تألمتُ كثيراً على شعبي ينزف بحراً من دماء من دون أن يتوقف النزيف.. فمن ظلمِ فاجرٍ الى ظلمٍ أفدح.. ولم يعد دعاءنا يفيد..
أبي: أدعو لنا ليفرجً الله عن العراقيين.. ويزيلً الغمة الهوجاء عن بلدنا.. ويخلصنا من القوم الظالمين.. فلم يعد لنا سوى دعاء الأموات.. لعل الله يستجيب لنا..
أبي .. وبعد: بماذا نذكركً.. بالحب.. بالتضحية.. بصدقكً.. بكرمكً الذي فاق التصور.. بذوقكً الراقي.. أم بأخلاقكً الرفيعة.. أم بمساعدتكً كل المحتاجين.. أم بحبكً للوطن والدفاع عنه.. بنزاهتكً.. بماذا ؟.. بكل الفضائل التي ذكرتها.. ومكارم الأخلاق.. بمساعدة الكل عن طيب خاطر..
ـ وبعد : يا أبي : فإني أرفع كفي الى الله وأدعو: يا ربي تمنحني رضا أبي في دنيايً..
ـ فأنت يا أبي قدوتي الأولى .. ونبراسي الذي أنار دربي ..
ـ أنت يا أبي من علمني أن أصمد أمام أمواج البحر الثائرة ..
ـ أنت يا أبي من أعطاني بلا حدود.. فرفعتُ رأسي عالياً افتخاراً بكً ..
ـ إليكً أبي أبعثُ باقات حبي واحترامي.. وعباراتٌ نابعةُ من قلبي ..
ـ فالكلمات كل الكلمات.. لن تستطيع التعبير عن مشاعري نحوك.. أبي ..
ـ وأنا الكاتبُ الذي يكتب أفضل الكلمات بدقائق.. وترتهبُ الكلمات بين يدي ..
ـ ويسيل حبر القلم بدون توقف.. فمشاعري أكبر من أن أسطرها على ورقِ ..
والسلام عليكً ورحمة الله وبركاته .. يا أبي …