
ضياء ابو معارج الدراجي
في واحدة من أوضح الإشارات على عمق مأزقها العسكري، دفعت الولايات المتحدة بأقوى ما تملكه من طائرات إلى ساحة المواجهة في اليمن، بعدما فشلت سنوات القصف والحصار والضغط السياسي في تحقيق أي تقدم ميداني أو فرض واقع استراتيجي جديد. قرار واشنطن استخدام القاذفات الشبحية B-2، التي تُعد من أكثر أنظمتها الجوية تطورًا وسرية، يكشف حجم الارتباك الأمريكي والعجز المتراكم عن كسر إرادة خصم لا يملك اعترافًا دوليًا واسعًا، لكنه أثبت أنه قادر على الصمود والمناورة والرد.
نشر 6 قاذفات B-2، من أصل 20 تمتلكها أمريكا، في قاعدة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، يشير إلى أن 30% من هذا السلاح الجوي الاستراتيجي قد تم حشده لضرب اليمن، وهو تصعيد نادر الحدوث في سجل العمليات الأمريكية. فهذا الطراز من القاذفات لا يُستخدم إلا في المهام الكبرى، وقد صُمم لاختراق أعقد أنظمة الدفاع الجوي وحمل صواريخ بعيدة المدى، بعضها نووي، ما يُظهر أن واشنطن بدأت تتعامل مع الساحة اليمنية بوصفها تهديدًا جديًا لا يُحتمل تجاهله أو تركه يستمر.
التحول في أسلوب المواجهة لم يكن على مستوى سلاح الجو فقط، بل توازى مع استخدام صواريخ دقيقة وبعيدة المدى من قبل البحرية الأمريكية، مثل AGM-154 JSOW، AGM-84K SLAM-ER، وصواريخ توماهوك، وهي أدوات تُستخدم عادةً ضد جيوش نظامية قوية، لا جماعات مقاومة محاصرة. ومع ذلك، لم تُحدث هذه الضربات أي اختراق نوعي، وبقيت نفس المواقع تُقصف مرارًا، بينما يواصل اليمن استعراض قدراته في استهداف الملاحة والتحكم بالممرات الدولية في البحر الأحمر.
وما يزيد من أهمية هذا المشهد، هو ما يطرحه من تساؤل استراتيجي خطير: إذا كانت أمريكا لم تستطع كسر اليمن – ذاك البلد الضعيف دوليًا والمحاصر منذ سنوات – رغم استخدام أقوى ما في ترسانتها، فكيف سيكون شكل المواجهة مع قوة إقليمية مثل إيران؟ إيران ليست فقط دولة ذات سيادة كاملة، بل هي تمتلك منظومة دفاعية متطورة، وصواريخ قادرة على الوصول إلى جميع القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، وربما أيضًا تملك برنامجًا نوويًا غير معلن.
بل إن تجربة العراق بحد ذاتها تقف اليوم شاهدًا إضافيًا على الفشل الأمريكي المتكرر. فبعد غزو عسكري شامل عام 2003، وإنفاق تريليونات الدولارات، واحتلال مباشر استمر لسنوات، خرجت أمريكا مهزومة سياسيًا وأمنيًا أمام ضربات المقاومة العراقية، وتحوّل المشروع الأمريكي إلى كابوس، خصوصًا بعد تقديم مبادرة “تحرير العراق من إيران” التي قدمها النائب جو ويلسون، والتي انتهت بإعلان أمريكي صريح بفشل مهمتها في العراق، بل الاعتراف بأن مشروعها الاستراتيجي في بلاد الرافدين قد انهار.
أي فشل جديد قد تتعرض له واشنطن، سواء في اليمن أو في مواجهة محتملة مع إيران، لن يكون مجرد تعثر ميداني، بل هزة كبرى لمشروع الهيمنة الأمريكي في المنطقة برمتها. وما كان يُنظر إليه سابقًا كدول هشة، بات اليوم جبهات قتال تفرض توازن ردع واضح، وتدفع واشنطن إلى استخدام أقصى أدواتها العسكرية لمجرد الحفاظ على ماء الوجه.
إن ما يحدث اليوم من تصعيد أمريكي في اليمن ليس تعبيرًا عن قوة، بل اعتراف ضمني بأن زمن التفرد الأمريكي قد انتهى، وأن مشروع السيطرة الكاملة على الشرق الأوسط بات حلمًا من الماضي، يتآكل كلما تجرأ الضعفاء على الصمود.
ضياء ابو معارج الدراجي