B72314F2-F50E-4FC2-993C-8B6D98EFB5EE

رياض الفرطوسي

نحن لا نقف على عتبة المستقبل، بل هو الذي يقتحم أبوابنا دون استئذان، يرسم ملامحه بمداد الذكاء الاصطناعي، يقلب معادلات القوة، ويعيد ترتيب اللاعبين على رقعة العالم. لم يعد السؤال: هل نحتاج إلى هذه التقنية؟ بل: هل نحن مستعدون لإدارتها قبل أن تديرنا؟

تخيل مدينة لا تحتاج إلى سائقين، حيث تراقب الكاميرات الطرقات كعيون لا تنام، وترصد الرادارات حركة السيارات كعقول يقظة لا تكل. ليست مجرد أجهزة، بل عقول إلكترونية قادرة على اتخاذ قرارات في جزء من الثانية، تقرأ البيئة من زوايا لم يكن العقل البشري ليحلم بها. نحن لا نستبدل السائق، بل نمنح الآلة ذكاءً يفوقه، ذكاءً يتعلم ويتطور ويعيد تعريف القيادة كفكرة، لندخل بذلك مرحلة “التعلم العميق”، حيث الآلة لا تطيع الأوامر فحسب، بل تفكر وتتوقع وتبدع.

ولكن، ما وراء هذا التحول؟ إنه ليس مجرد قفزة تقنية، بل انقلاب شامل في موازين القوى العالمية. من يمتلك هذه التقنية، يمتلك المستقبل. الجامعات التي لا تتسابق لتدريس الذكاء الاصطناعي ستتحول إلى متاحف تعليمية، وشعوب لا تستوعب قيمة هذه الثورة ستجد نفسها عالقة في دور المستورد الأبدي.

لم تسلم الصحافة من هذه العاصفة، فقد وُلدت مجلات بلا صحفيين، وصار الإعلام لعبة في يد الخوارزميات. حتى المؤتمرات السياسية لم تعد كما كانت، فهل كان لقاء زيلينسكي وترامب اجتماعاً حقيقياً أم سيناريو رقمياً كتبته عقول إلكترونية؟ في عصر كهذا، قد لا يكون السياسي بحاجة إلى الوقوف أمام الكاميرات، بل يكفي تغذية الخوارزميات بالمعلومات، لتصنع خطاباً أشبه بالواقع، لكنه أكثر إتقاناً. وكما قال المؤرخ والمفكر يوفال نوح هراري: “الذكاء الاصطناعي، على عكس التقنيات السابقة، هو وكيل قادر على العمل المستقل، وخلق أفكار جديدة، واتخاذ قرارات”، مما يجعله أكثر من مجرد أداة.

وفي الحروب؟ المعارك لن تُخاض بعد الآن بالجنود، بل بالطائرات المسيرة والروبوتات المسلحة، حيث لا دماء تُراق على الأرض، لكن المدن تُمحى بضغطة زر. إسرائيل أدارت حرب غزة بهذه التقنية، والعالم يتهيأ لمرحلة يصبح فيها القتال مجرد مسألة حسابية دقيقة، تُدار بعيداً عن جبهات القتال التقليدية. وكما حذر هنري كيسنجر، فإن “الأنظمة الذكية يمكن أن تغير طبيعة الحرب كما فعلت في ألعاب الشطرنج، حيث تتخذ قرارات لم يكن البشر ليفكروا فيها، ولكنها ذات عواقب فعالة ومدمرة”.

ولكن هذه التكنولوجيا ليست مجرد دماغ إلكتروني يفكر، بل هي كائن جشع يستهلك أكثر مما يتصور البعض. هل تعلم أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل إلا بفضل المياه؟ نعم، الخوادم التي تُشغل هذه العقول تحتاج إلى كميات هائلة من المياه العذبة للتبريد، مياه لا تأتي من البحر، بل من أعذب المصادر، لأن أي زيادة في درجة الحرارة قد تُسقط هذه المنظومة بالكامل. ولهذا تتشابك خيوط اللعبة السياسية، فمن يسيطر على الموارد، يسيطر على المستقبل، ولعل هذه واحدة من أسباب صراع القوى العظمى على أوكرانيا، تلك الأرض الغنية بالمعادن النادرة التي تُغذي هذه الأجهزة. كما أشار إيلون ماسك، فإن “هناك احتمالًا بنسبة 20% للفناء” بسبب الذكاء الاصطناعي، مما يعني وجود خطر حقيقي يستدعي الحذر.

إذن، السؤال ليس هل الذكاء الاصطناعي نعمة أم نقمة؟ بل، هل نحن لاعبون في هذه اللعبة أم مجرد بيادق على رقعة لا نملك حق تحريكها؟ نحن أمام صناعة ثقيلة، معقدة، مُكلفة حد الجنون. فهل ندرك حجم التحدي، أم أننا ننتظر أن يقرر العالم مصيرنا بينما نقف عند الهامش، نراقب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *