
الكاتب : الدكتور ابو عبد الدليمي
—————————————
التخلف المقدس في العراق واستغلال عواطف البسطاء… كارثة اجتماعية
في العراق، لا يُعدّ التخلف مجرد ظاهرة ثقافية أو اقتصادية، بل هو بنية فكرية عميقة تغذت لعقود على الخوف والطائفية والجهل، حتى تحوّل إلى “تخلف مقدس” يصعب الاقتراب منه دون أن يُتهم الإنسان بالكفر أو الخيانة أو العمالة. إنه تخلف لا يعيش في فراغ، بل يتموضع داخل خطاب ديني مسيّس، وخرافات تُغذّيها منابر تستغل عواطف البسطاء، وتُجهز على ما تبقّى من وعي جمعي.
التخلف المقدس والسياسة: تحالف الفساد والطائفية
سياسيًا، تحوّل هذا التخلف المقدس إلى أداة فعالة بيد الأحزاب الطائفية والمليشيات المسلحة التي تسيطر على القرار السياسي والاقتصادي في العراق. فالرموز الدينية تُستخدم لتبرير الفشل الحكومي، وتمييع المحاسبة، وقمع الاحتجاجات، بل وشرعنة القتل أحيانًا. وعندما يطالب الشباب بالكرامة والعدالة، يُتهمون بـ”التآمر على الدين والمذهب”، كما حدث في انتفاضة تشرين، حين صوّر الإعلام المرتبط بالأحزاب الحاكمة المتظاهرين على أنهم “بعثيون” أو “عملاء سفارات”، بينما هم أبناء الفقر والبطالة والخذلان.
ومن الأمثلة الصارخة، تَحَوُّل قادة الميليشيات إلى “أولياء أمر” في نظر أتباعهم، رغم تورط بعضهم في جرائم فساد، وتهريب، وانتهاك لحقوق الإنسان. ويُمنع مجرد السؤال عن مصادر تمويلهم أو علاقاتهم الخارجية، لأن “التشكيك بهم تشكيك بالمقدس”. كذلك نرى كيف يتم الترويج لمقولة أن “إيران هي العمق العقائدي والسياسي”، وكأن العراق دولة هامشية بلا هوية، فتُمسخ السيادة ويُختطف القرار الوطني تحت شعارات “الولاء لآل البيت” أو “المشروع الإلهي”، وهي شعارات ظاهرها التقوى وباطنها الاستبداد والتبعية.
أمثلة من الواقع: طقوس بلا معنى، ومجتمعات بلا تنمية
في كل عام، تُصرف مليارات الدنانير على مواكب وشعائر دينية، بينما المدارس متهالكة، والمستشفيات تفتقر إلى أبسط المستلزمات، والشباب يغرق في المخدرات والبطالة. تُرفع رايات “يا حسين” في الشوارع، لكن لا يُرفع صوت واحد ضد سارق أموال الأيتام والأرامل. تُبنى الحسينيات بالرخام الفاخر، بينما يسكن النازحون في خيام ممزقة. هذا النفاق الاجتماعي هو جوهر التخلف المقدس: شكليات تُغطي على انهيار القيم، واستعراض ديني يُخفي سرقة وطن.
وفي المناطق الغربية والشمالية، نُسخت نسخة أخرى من التخلف المقدس، وإن اختلف الشكل. فهنالك أيضًا من يفرض وصايته باسم الدين، ويمنع النقد باسم “الحفاظ على الهوية السنية”، بينما يتاجر بمآسي الناس ويشارك في صفقات سياسية مع ذات الطبقة الفاسدة. هكذا يُنتج التخلف نسخًا متعددة تخدم نفس المأساة: تكريس الجهل، وتجهيل الشعب، وضمان بقاء الفاسدين في السلطة.
ان استغلال الدين والمقدسات لتخدير الشعوب وتمكين الفاسدين هو أخطر أشكال التخلف، لأنه يُغلّف القبح بثوب القداسة. والحل يبدأ من تجريد هؤلاء من قدسيتهم الزائفة، وإعادة بناء وعي وطني يقوم على العقل، والمحاسبة، والعدالة، لا على الولاء الأعمى والخوف من “الغضب الإلهي”. العراق بحاجة إلى ثورة وعي، لا إلى شعارات جوفاء. إلى رجال دولة، لا إلى تُجّار دموع. إلى دين يُحرر، لا يُستعبد.
د. ابو عبد الدليمي