أبريل 29, 2025
9725dd5c-5f9e-4255-ba81-a97f3050690d

الكاتب : علي بداي
—————————————
“من كتابي القادم حول سقوط الاشتراكية” ..وهو كتاب للتفكير وليس للتبرير

كان تعداد الشعب العراقي في منتصف عام 1959 اقل من 8 مليون، وصل توزيع جريدة الحزب الشيوعي المركزية الى 23 الف نسخة في اليوم. وكان تداول كل الصحف الأخرى لايتجاوز 10% من ذلك الرقم. فضلاً عن ذلك كان عدد أعضاء الحزب والمرشحين المنتظرين الانضمام اليه يتجاوز 20 الف شخص، وفي المنظمات الجماهيرية وهي واجهة الحزب: وصل عدد أعضاء رابطة الدفاع عن حقوق المراة العراقية الى 40 الفاً وكان لدى إتحاد الشبيبة الديموقراطي 84 الف عضو، فيما كانت 2000 جمعية تحت مظلة الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية يبلغ مجموع أعضائها 250 الف عضو، و يمثل الإتحاد العام لنقابات العمال 51 نقابة عمالية تضم 275 الف عضواً” (1)
و ” حتى عام 1961 وصل عدد أعضاء الحزب الشيوعي في الجيش الى 500 ضابط من أصل 1500 و 3000 عسكري من أصل 110 الاف اما الضباط المتبرعون مالياً فكان 1200 ضابطاً والآلاف من الجنود”. (2)
وقُدّر عدد المتظاهرين في تظاهرة الأول من أيار 1959 المؤيدة للشيوعيين في العاصمة وحدها بالمليون من شعب كامل لم يبلغ الثماني ملايين (3)!

ومع كل هذه القدرة البشرية الجبارة ، والتي لايجرؤ على الحلم بها أي حزب شرق أوسطي آخر، وربما اي حزب في العالم، ظهر وكأن قوة هذا الحزب هي نقطة ضعفه في ذات الوقت! فحتى الجماهير المؤمنة به كلياً تعرف أن صعوده الى السلطة سيجر البلاد الى حمام دم. العراق خط أحمر! لا السوفيت يريدون سيطرة الشيوعيين على السلطة في العراق (4) ولا بريطانيا وامريكا ستسمحان، والحلفاء المحليون يخشون التحالف مع حزب بجيش جرار من المؤيدين والأنصار، وعبد الكريم قاسم يرى منح وزارة واحدة لحزب وقف معه وأيده في ثورته، سيشكل تجاوزاً لحد لن يسمح به وتعزيزاً لشعبية الحزب المتعاظمة! (5)
حتى شعار” الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم” الذي اطلقته حناجر أكثر من مليون متظاهر في 1 أيار 1959 والذي كان يرمي الى تمثيل الحزب البسيط في تشكيلة وزارية خلت منه، ترجمه الآخرون ترجمة غريبة ففهمه عبد الكريم قاسم وبريطانيا والسوفيت على حد سواء كإنذار بإعلان وثوب الحزب الوشيك على السلطة! (6)

حان الآن أوان الحيرة الكبرى: لو وثب الحزب على السلطة واستلمها، بموجب مسوغ الشرعية الثورية، وعلى إفتراض أن الآخرين سيرضخون للأمر الواقع، ومع إنعدام وجود ضمانات لتأييد سوفيتي صريح بل وحديث عن بيع العراق ضمن صفقة (7)، ربما كانت البلاد ستدخل في حالة حصار اقتصادي من قبل جيرانها المعادين ( ايران، الاردن، السعودية، الكويت ، تركيا ) وعزلة ستؤديان الى تكريس دكتاتورية جديدة فضلاً عن أن لا مجال للحديث عن ديموقراطية بعد تنفيذ الشرعية الثورية. من الناحية المقابلة، لو كان الحزب أعلن صراحة التخلي عن مبدأ الشرعية الثورية والمطالبة بانتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة يشارك بها الجميع، لعملت بريطانيا وأمريكا المستحيل لمنع ذلك، لأن النتائج معروفة سلفاً وليست لصالحهما ( تحقق التدخل العسكري في تشيلي ايلول 1973 ضد نظام منتخب ديموقراطياً). وعلى العكس تماماً، عندما اسقطت أمريكا وبريطانيا صدام عام 2003 إستمات كل منهما من أجل ما اسموه “انتخابات ديموقراطية ” سريعة لأن النتائج هنا ايضاً معروفة سلفاً بعد أن تهشم المجتمع بسلسلة حروب طويلة وحصار مدمر رعتها أمريكا وبريطانيا وقمع منظم طويل وشرس للقوى اليسارية بكل أشكالها. واضح أن الانتخابات عام 2005 ستأتي بالذين خلقتهم أمريكا وبريطانيا قبل ستين عاماً لصد المد اليساري وإبقاء العراق تابعاً لهما وهي الحركات الدينية والتي لم يكن لها أي تأثير أو نفوذ عام 1959 والتيارات العشائرية المتخلفة. بالنتيجة تم لبريطانيا وامريكا ما إستماتتا من أجل بلوغه طوال سبعين سنة..والثمن هو ملايين القتلى العراقيين وجبال من الخراب الاجتماعي والأقتصادي..
=======================================

(1) إسماعيل، طارق. صعود الحزب الشيوعي وانحداره ص 143 دار سطور بغداد 2019
(2) سعيد ، د. علي كريم، عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم الى حوار الدم. دار الكنوز الأدبية ط 1 1999 ص 175
(3) علي، عبد الستار نور. ثورة 14 تموز من الذاكرة شبكة الناس 13-7-2012 Al-nnas.com
(4) نوري ، بهاء الدین، مذكرات بهاء الدین نوري ، كذلك إسماعيل ، طارق صعود الحزب الشيوعي ص 167

(5) الفكيكي، هاني اوكار الهزيمة رياض الريس لندن 1993

(6) محمود، نجم (إبراهيم علاوي ) ، المقايضة براين – بغداد
(7) لفت إنتباهي أن مذكرات أندريه غروميكو ( نسخة اللغة الهولندية) المؤلفة من 400 صفحة وهو وزير خارجية الاتحاد السوفياتي لأربعين سنة، والعارف بأسرار العالم السياسية خلت من أي ذكر للعراق! ورد الحديث عن مصر، لبنان، سوريا، ليبيا، فلسطين، ايران، قبرص، تركيا أفغانستان ولم يذكر العراق حتى ولا مرة واحدة! حتى ولا بالأسم! حتى ولا ذكر لشخصية عراقية، حتى ولا عرضاً كأن يذكر “حلف بغداد” مثلاً، رغم ان العراق كان حليف الاتحاد السوفياتي ومرتبطاً معه بمعاهدة صداقة لعقود، وشريكاً كبيراً باستيراد الأسلحة ورغم أن العراق شكل في سنين معينة بؤرة توتر دبلوماسي وعسكري وأمني هامة مثل فترة ثورة 14 تموز 1958 والتهديد الأمريكي الذي أعقبها، فترة الحرب العراقية الإيرانية، أحداث غزو الكويت وما تلاها!! هنا يتم مسح العراق من خارطة الاهتمام السوفياتي تماماً. هل تعمد الدبلوماسي السوفياتي ذلك لكي لايجر نفسه لكشف سر ما ؟ هل يمكن ان يكون هذا السر بنداً غير معلن في اتفاقية يالطا عام 1946 مثلاً : أن العراق خط أحمر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *