ضياء المهندس
بينما يفترض أن يتّجه العراق لترسيخ سيادته الاقتصادية واستعادة قراره الوطني، تُطلّ أنقرة بطرح “اتفاقٍ نفطيٍّ جديد” تُسوِّقه كخطة إنقاذ، فيما يخفي طبقاتٍ من الضغط الجيوسياسيّ شبيهةٍ بتكتيكات “حرب المياه”. فالنفط وخطوط أنابيبه، والمياه وسدودها، باتا أداتَيْ نفوذ متداخلتين على طاولة بغداد–انقرة.
الملف النفطي: اتفاقٌ يترنّح وأنبوبٌ مُعطّل
قدرة الأنبوب: تطالب تركيا باستعمالٍ “كامل” لخط كركوك–جيهان وتُروِّج لقدرته التي “تقترب من 1.5 مليون برميل/يوم”. لكن الخط متوقّف فعليًا منذ آذار/مارس 2023 عقب حكم تحكيم دولي ضد أنقرة بشأن صادرات نفط كردستان من دون موافقة بغداد.
التحكيم الدولي:
قضت هيئة تحكيم تابعة لـICC في باريس عام 2023 بدفع تعويضات للعراق تُقدَّر بنحو 1.5 مليار دولار وتعليق التحميل من خط العراق–تركيا، ما شكّل سابقة قانونية لصالح سيادة بغداد على التصدير.
مصير اتفاق 1973:
نشرت أنقرة في تموز/يوليو 2025 قرارًا يُنهي اتفاقية خط النفط الموقّعة عام 1973 اعتبارًا من 27 تموز/يوليو 2026، فاتحةً الباب لإطار تفاوضي جديد تربطه بشرط الاستغلال الكامل للخط. هذا يجعل “العرض النفطي” أداة ابتزاز تفاوضي لا أكثر.
الخلاصة النفطيّة:
ربط إعادة تشغيل الخط بالإذعان لشروطٍ قصوى—بعد إغلاقٍ دام أكثر من عامين—يحوّل مشروع “الإنقاذ” إلى فخٍّ سيادي: تُريد تركيا إيرادات عبور عالية وضمانات قانونية تُخفّف تبعات التحكيم، مقابل منفذ تصدير حيوي للعراق.
حرب المياه: سلاح الضغط الأقدم
انخفاض الجريان: تشير تقديرات ودراسات حديثة إلى أنّ تدفقات دجلة والفرات انخفضت على مدى العقود الماضية بنسب كبيرة، وتُسجِّل وزارة الموارد العراقية في 2025 مستويات احتياطي هي الأدنى منذ 80 عامًا مع وصول الإيرادات إلى نحو 27% مما كانت عليه قبل عام.
نقص الحصص: تفيد تصريحات رسمية بأنّ العراق يتسلّم أقلّ من 40% من حصته التاريخية من دجلة والفرات في 2025، وسط مواسم مطرية فقيرة وتوسّع في مشاريع السدود بالدول المتشاطئة.
ضغطٌ متصاعد في الجنوب: تُسجِّل الأهوار انخفاضًا حادًا وتدهورًا في التنوع الأحيائي، مع موجات نفوق للجاموس وازدياد الملوحة في شط العرب، بينما رصدت تقارير 2025 استمرار الهبوط إلى مستويات “هي الأدنى منذ عقود”.
الخلاصة المائيّة:
استمرار إدارة المياه بمنطق الإطلاقات الموسميّة وبدون اتفاق تقاسم مُلزِم يجعل العراق تحت رحمة سياسات الإغلاق والفتح من المنبع، تمامًا كما يجري في ملف الأنبوب النفطي.
أبعاد السيادة: تقاطع النفط بالماء
1. مشترك ضغطٍ مزدوج: اشتراطات فتح الأنبوب مقابل استغلال “كامل”، دون ضمانٍ مائيٍّ مكتوب، يعني قبول “صفقةٍ ناقصة” تعمِّق الارتهان بدل تخفيفه.
2. تفاوضٌ غير متناظر: تركيا تدخل بطلبات نفطية كبيرة وبأوراق مياه قويّة (سدود الـGAP وتخزيناتها)، فيما يدخل العراق بفائض حاجة للتصدير وللمياه معًا.
3. الاقتصاد السياسي: أي إعادة تشغيل للأنبوب تُحرّك اقتصاد كردستان والعراق، لكنها تُضعف الموقف التفاوضي إذا لم تُربَط صارمًا بآلية إطلاقات مائية ملزمة وزمنية.
أرقامٌ أساسية مختصرة
1.5 مليون برميل/يوم: السعة النظرية لخط كركوك–جيهان التي تُلوّح بها أنقرة.
1.5 مليار دولار: تعويضات حكم التحكيم الدولي لصالح العراق (2023).
27%: تدفقات دجلة/الفرات مقارنة بالعام الماضي (تموز/يوليو 2025).
<40%: ما يتلقّاه العراق من حصص النهرين وفق تصريحات رسمية في 2025.
توصيات عملية: كيف يحوّل العراق “الفخ” إلى فرصة؟
أولًا: ربط المسارين في “صفقةٍ واحدة”
اتفاق نفطي–مائي متزامن: يشترط العراق في أي اتفاق أنبوب جديد بروتوكول إطلاقات مائية مُلزم ومُراقَب (يومي/أسبوعي) مع آلية عقوبات تلقائية عند الإخلال، وربط رسوم العبور أو كميّات الضخ بمؤشرات الامتثال المائي.
شفافية بيانات: منصة رقمية مشتركة لقراءات التصريف المائي ومستويات الخزّان والإطلاقات من السدود، تُحدّث كل ساعة وتُتاح للمراقبة الدولية (UNECE/UNESCO) لتقليل النزاع حول الأرقام.
ثانيًا: تثبيت الإطار القانوني
تحصين مكتسب التحكيم: إدراج نتائج حكم ICC لسنة 2023 ضمن أي مذكرة جديدة بحيث لا يُعاد تفريغ السيادة التصديرية، مع تسوية مرحلية للديون/التعويضات عبر جدول زمني لا يمسّ حق بغداد.
اتفاق تقاسم مياه مُحدّد القيم: الانتقال من “مذكرات تفاهم” مرنة إلى جداول حصص كمية موسمية (متر مكعّب/ثانية) تُراجَع سنويًا وفق الهيدرولوجيا ومؤشرات الجفاف، مع آلية تحكيم فني سريع.
ثالثًا: تنويع مخارج التصدير لتقليل الابتزاز
تعجيل المسارات البديلة:
البصرة/ميناء الفاو الكبير: رفع القدرة التحميلية وخطوط الأنابيب الداخلية نحو الجنوب لامتصاص جزء أكبر من نفط الشمال عند الطوارئ.
ربط داخلي شمال–جنوب: استكمال البنية التي تتيح تحويل الخام شمالًا/جنوبًا حسب المصلحة، لتقليل هشاشة “عنق الزجاجة”.
رابعًا: إدارة الطلب المائي داخليًا
كفاءة الشبكات والري: تحديث شبكات الريّ والقنوات التي تعمل بكفاءة تقارب 60% فقط، عبر التحول للتنقيط والريّ بالرشّ وتبطين الجداول، مع عدادات ذكية على “مآخذ” المشاريع الزراعية.
تبديل التركيب المحصولي: تقليل المساحات العالية الاستهلاك للماء في مواسم الجفاف، وتشجيع محاصيل ملحية/جافة بدعمٍ سعريٍّ مباشر.
تحلية/خلط في البصرة: توسيع وحدات التحلية الصغيرة وربطها بشبكة خلطٍ تُخفّض الملوحة في ذروة المدّ الملحي، مع معالجة الرجيع الملحي لمنع إعادة تلويث شط العرب.
خامسًا: تمويل مشروط بالإصلاح
حزمة تمويل خضراء: التفاوض على قروض ميسّرة مضمونة النتائج مع بنوك تنمية (WB, EBRD) لبرامج “ماء مقابل إصلاح”: صرفٌ تدريجي مقابل مؤشرات قابلة للقياس (خفض الفاقد، عدّادات مُركّبة، هكتارات مُحوّلة لطرق ريّ حديثة).
تأمين المخاطر: عقود تحوّط نفطية تقترن ببنود قوّة قاهرة واضحة في حال تعطّل الأنبوب، لتثبيت الإيرادات العامة وميزانيات المحافظات المتأثرة.
سادسًا: دبلوماسية إقليمية متعددة المسارات
ثلاثي (العراق–تركيا–إيران): ملف الأنهار المتشاركة لا يُحلّ ثنائيًا فقط؛ آلية ثلاثية فنية–قانونية تُعالج تحويلات روافد دجلة من إيران، وتوزيعات الفرات من تركيا في سلةٍ واحدة.
ضمانات أوروبية: دعوة الاتحاد الأوروبي ليكون “ضامنَ تنفيذٍ” لاتفاق المياه–النفط عبر تمويل محطات قياسٍ مستقلة وتدريب فرق الصيانة المشتركة.
خريطة طريق لـ180 يومًا
1. الأسبوع 1–4: فريق تفاوض موحّد بصلاحيات كاملة، مسودة “حزمة متزامنة” (أنبوب+ماء) تتضمن أرقام الإطلاقات، مسارات مراقبة، وعقوبات تلقائية.
2. الأسبوع 5–8: إقرار حكومي لمصفوفة مشاريع كفاءة الماء (100 مشروع سريع: تبطين، عدادات، تحويل 200 ألف دونم لريّ حديث).
3. الشهر 3–4: توقيع مذكرة مبادئ مع تركيا تتضمن أول جدول إطلاقات وربط رسوم العبور بمؤشر الالتزام، وإعلان منصة البيانات المشتركة.
4. الشهر 5–6: تفعيل مسار بديل للتصدير (زيادة طاقة التحميل الجنوبية)، وبدء برنامج تحلية صغير–متوسط في البصرة، مع صندوق تعويض للمزارعين مقابل التحول المحصولي.
خاتمة:
العراق لا يحتاج “صفقة إسعاف” تُعيد إنتاج الارتهان، بل اتفاقًا مُتوازنًا يُقايض النفط بالماء ضمن سلة واحدة، ويرتكز على القانون والشفافية وتنوّع البدائل. عندها فقط يتحوّل “مكر الأنبوب” و”حرب السدود” إلى معادلة مصالح لا فخِّ سيادة—وتُستعاد اليد العليا لبغداد في إدارة ثرواتها المزدوجة: النفط والماء.
البروفيسور د.ضياء واجد المهندس
رئيس مجلس الخبراء العراقي