بين فخّين… حلمٌ يقطر دماً

رياض سعد

استيقظ فزعاً، كأن أحدهم انتزع روحه من بين أضلعه انتزاعاً… ؛  ظلّ لبرهة يحدّق في سقف الغرفة بعينين متسعتين، فيما ظلّ المشهد الذي رأه يتوهّج في ذاكرته بحدّة ساطورٍ على ضوء الفجر: الناس، الجيران، الأصدقاء، الأقارب… ؛  جميعهم مصطفّون أمام داره كأنهم حجاجٌ إلى مذبحٍ عظيم… ؛  لم يكن الهول في وجوههم فقط، بل كان في نظراتهم التي شُدّت نحو الميزاب ؛ حيث كانت الدماء تتساقط كنزيف الغيم في يوم ماطر… ؛  وما إن رأى ذلك السيل الأحمر في حلمه حتى فرّ منه مذعوراً، يلهث كما لو كان يهرب من نفسه.

نهض ذلك الصباح على غير عادته… ؛  تجاهل الفطور الذي اعتاد أن يكون غداءً مؤجَّلاً، واكتفى بفنجان قهوة أمسك به طويلاً، حتى بدا كأنه يتشبّث به كي لا يسقط في هوةٍ داخل رأسه… ؛  كان يحتسيها ببطء شديد، ببطء رجلٍ يقيس المسافة بين الخوف واللامعنى ، ويشعر بأن شراً ما يتدلى فوقه بخيطٍ أوهن من صبره… ؛  لم يكن يعرف السبب، لكنه كان يسمع في داخله وقع خطوات قادمة، كأنها نهاية تتقدّم نحوه بثبات.

هناك… في تلك اللحظة، عادت إليه علّته القديمة ، تلك التي التصقت به كمرضٍ مزمن، لا يموت ولا يترك… ؛  رأى شريط بلائه المعروف يمر أمامه: النصائح التي لم تُجدِ، الكلام الذي تبخر كالهواء، الشفاعات التي لم تحرّك ساكناً، الأبواب التي ظلّت مغلقة مهما طرقها… ؛  أحسّ أن البلاء الذي يسكن صدره أكبر من أن يشفى، وأشدّ من أن يُداوى، حتى بدا له الموتُ دواءً يلمع كخيارٍ نهائي لا صوت فوقه.

اقتنع ـ أو توهّم أنه مقتنع ـ بأن النهاية وحدها هي العلاج، وأن الموت قادر على تفكيك العقد التي استعصت على الحل … ؛  ولهذا، نهض فجأة كما لو أنه اتخذ قراراً حاسماً… ؛  أسرع نحو غرفته، فتح درجاً قديماً، أخرج المسدس الذي كان مختبئاً كوحشٍ نائم، وحشّاه بطلقاتٍ باردة كأنها شتاء قاسٍ لا يعرف الرحمة.

نزل كالصاعقة… ؛  اشتعل المكان بصوتٍ معدنيٍّ حاد، صوت يقطع الهواء، يتردد داخل الجدران مثل ضحكةٍ مرعبة… ؛  انطلقت النار، سال الدم، ارتفع الصراخ، وخرج العويل من كل اتجاه… ؛  ركض الناس، تجمهروا كما رآهم في حلمه تماماً… ؛  كأن الرؤية كانت نبوءةً أو لعنةً تحققت.

وفي اللحظة التي رأى فيها الحقيقة تسيل أمامه كسيل جارف، انهار… ؛ و سقطت قواه، وارتجفت شفتاه، ثم انفجرت منه صرخة ضخمة، صرخة تشبه النداء الأول لنفخة إسرافيل في يوم الفزع الأكبر… ؛  صرخ حتى تردّد صوته في داخله أكثر مما تردّد في الخارج... ؛ قال وهو يبكي: “ليتني صبرت قليلاً… فالصبر، مهما تأخّر مفعوله، أهون بكثير من خيار الموت…  ليتني صبرت… فقط قليلاً.”

ثم خيّم صمتٌ ثقيل، صمت يشبه آخر صفحة في حياةٍ لم تجد من يقرأها حتى النهاية.