المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات
كتب رياض الفرطوسي
لا تبدو مرحلة ما بعد الانتخابات في العراق لحظة عابرة في روزنامة السياسة، بل فصلًا تتقاطع فيه التجربة مع التوقع، والواقعية مع الأمل. فالمشهد العام، كما يتشكّل اليوم، لا تحكمه المفاجآت بقدر ما تحكمه الحسابات الهادئة، ولا تقوده الانفعالات بقدر ما تضبطه موازين دقيقة فرضتها نتائج صناديق الاقتراع.
في الظاهر، يبدو الحراك السياسي كثيفاً: اجتماعات متواصلة، مشاورات لا تنقطع، وأسماء تُتداول في الإعلام وعلى ألسنة المراقبين. غير أن هذا الحراك، في جوهره، يعكس سعياً واضحاً لإدارة المرحلة المقبلة بأدوات مختلفة عن تلك التي أنهكت التجربة في مراحل سابقة. ثمّة إدراك متزايد بأن الاستقرار الذي تحقق خلال السنوات الأخيرة ليس مكسباً عابراً، بل ركيزة ينبغي البناء عليها لا المجازفة بها.
اللافت في هذه الدورة أن النقاشات لم تعد تدور فقط حول من يتصدّر المشهد، بل حول كيفية إدارة المشهد نفسه. الحديث يتجه أكثر نحو طبيعة الحكومة القادمة، أولوياتها الاقتصادية، وقدرتها على ترجمة التوازنات السياسية إلى سياسات عامة ملموسة. وهذا التحول، وإن لم يكن كاملًا بعد، إلا أنه يعكس نضجاً تدريجياً في السلوك السياسي.
الشارع العراقي، من جانبه، يراقب هذا المشهد بوعي مختلف. لم يعد ينتظر الوعود الكبيرة ولا الشعارات اللامعة، بل يراهن على خطوات محسوبة، وإدارة هادئة تضع الخدمية والمعيشية في صدارة الاهتمام. هذا الترقب لا يحمل توتراً بقدر ما يحمل اختباراً صامتاً للفاعلين السياسيين: اختبار القدرة على تحويل التفاهمات إلى إنجازات.
أما الإعلام، فقد وجد نفسه هذه المرة أقل اندفاعاً نحو التصعيد، وأكثر ميلاً إلى التحليل. التكهنات موجودة بطبيعة الحال، لكنها لم تطغَ على النقاش الأهم: أي نموذج حكم يحتاجه العراق في هذه المرحلة؟ نموذج يعيد إنتاج الصراعات، أم نموذج يُراكم التوافقات ويستثمرها في الاستقرار والتنمية؟
في المحصلة، يمكن القول إن العراق يقف اليوم أمام فرصة هادئة لا صاخبة. فرصة لا تُقاس بحجم الخطابات، بل بقدرة النظام السياسي على إدارة الاختلاف ضمن أطر دستورية، وعلى اختيار شخصيات قادرة على الجمع لا التفريق، والعمل بصمت أكثر مما تتكلم.
المشهد السياسي بعد الانتخابات لا يحمل وعوداً كبرى، لكنه يحمل ما هو أهم: قابلية حقيقية للانتقال من سياسة ردّ الفعل إلى سياسة التخطيط، ومن إدارة الأزمات إلى منعها. وفي بلد أنهكته التجارب القاسية، قد يكون هذا التحول البطيء هو أكثر أشكال التقدم واقعية وصدقاً.