نوفمبر 21, 2024
345472480_1251856872384751_4771563256084157209_n

اسم الكاتب : ثامر عباس


ليس من الصواب ولا من المنصف محاكمة الشخصية العراقية من منظور كونها حالة (غريبة) عن طبيعة المجتمعات البشرية المعروفة ، أو من منطلق اعتبارها نمط (شاذ) في عالم الثقافات الإنسانية المألوفة ، فقط لمجرد كونها تعيش حالة من (الاحتباس) و(التشرنق) داخل ثقافات (فرعية) نسقية ، استعصت بناها التحتية أمام تيارات التحديث الجارفة وموجات التجديد العاصفة التي أوجدتها البراديغمات الغربية الحديثة والمعاصرة من مثل ؛ الحداثة وما بعد الحداثة ، والبنيوية وما بعد البنيوية ، والوظيفية وما بعد الوظيفية ، ناهيك عن اجتراحات العولمة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية ، فضلا”عن ميادين الجغرافيا والتاريخ والدين . هذا بالإضافة الى ما حققته المنهجيات (الجينالوجية) و(الاركيولوجية) من فتوحات مزعزعة على صعيد البحث في الأصوليات السوسيولوجية والتنقيب في الخلفيات الانثروبولوجية والنبش في المطمورات السيكولوجية .
وكما سبق وأن أجمعت معظم الدراسات والأبحاث في المجالات الاجتماعية والإنسانية ، على حقيقة أنه من المتعذر العثور على جماعة بشرية – قديمة أو حديثة – تمكنت من التسامي فوق حتميات الواقع والتعالي على اشتراطات التاريخ ، بحيث استطاعت التخلص نهائيا”من مواريثها التاريخية والإفلات من أنساقها الثقافية ، حتى ولوا بلغت الذرى في مدارج التقدم الاجتماعي والتطور المعرفي والرقي الحضاري . بيد أن وجود ظاهرة ما في مجتمع ما شيء ، وطغيان تلك الظاهرة واستحواذها الكلي على ذهنيات وتصورات ذلك المجتمع وتحكمها بعلاقاته والتلاعب بخياراته شيء آخر تماما”. إذ ان الأمر يخرج – في نطاق هذه الحالة – عن مألوف السياقات ومعروف الممارسات في مضمار التجربة الإنسانية ، ليستحيل من ثم الى ما يشبه (المرض) السياكوباثي الذي يحتاج الى معالجات جذرية وحلول استثنائية ، لن يكون بمقدور المجتمع المعني استعادة حالته السوية دون اللجوء إليها والاستعانة بها .
وإذا كان المجتمع العراقي يشارك بقية المجتمعات البشرية الأخرى في مثل هذه الظواهر الإنسانية ، إلاّ أنه – وللأسف الشديد – لم يفتأ يشكل (استثناءا”) محيرا”لكل القواعد والضوابط المتواضع عليها في هذا الشأن ، مثلما ويحتل مركز الصدارة في الخروج عن كل ما سنته البشرية من قوانين وأنظمة وتشريعات ، لجهة التخفيف من وطأة تلك المواريث التاريخية والحد من آثار الأنساق الثقافية التي لا تبرح تشد جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية الى الوراء ، وتحول دونها والخروج من قواقع الماضي وشرانق التاريخ ، بغية التحرر من قيوده المزمنة والتخلص من آثامه المتوطنة ، أو على الأقل إجراء الموازنة بين أصوليات ماضيها (المؤمثل) وبين ضرورات حاضرها (المؤمل) ومتطلبات مستقبلها (المؤجل) ، وبالتالي جعلها أكثر سلاسة في القبول للتغيير وأقل عنادا”في الخضوع للتطوير .
ولعل من تبعات هذه الحالة المأزقية واستشرائها كلما تأزمت أوضاع المجتمع العراقي وبات يواجه تحديات الكيان والمصير ، أن كثرت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية وتنوعت المداخل التحليلية والمنهجية ، حيث يبادر أصحابها من الكتاب والباحثين والأكاديميين – من العراقيين والعرب – للكشف عن الأسباب المضمرة وإماطة اللثام عن الدوافع العميقة ، التي يعتبرونها ليس فقط كونها المسؤول عن تفاقم تلك الحالة السلبية وتعاظم تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فحسب ، وإنما يفترضون وسمها للشخصية العراقية بخصائص فريدة وسمات نادرة لا تشاطرها فيها شخصية حضارية أخرى أيضا”، ربما شكلت النزعة النكروفيلية (التدميرية) واحدة من أبرز تلك الخصائص والسمات ! .
وفي هذا الإطار فقد لفتت انتباهنا دراسة انثروبولوجية أنجزها أحد الأكاديميين العراقيين (جواد كاظم التميمي) ، الذي عالج من خلالها هذه الموضوعة الإشكالية من منظور اللسانيات الانثروبولوجية ، حيث توصل – بناء على استقراء جملة من النصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والإسلامية والملكية والجمهورية ، الى حصيلة مفادها ان ما تعانيه الشخصية العراقية من ارتباك ثقافي وتعسّر حضاري ونزوع تدميري ، ما هو إلاّ نتاج خلفيات أسطورية وسرديات تاريخية واعتقادات دينية وأصوليات ثقافية وصراعات سياسية واستبطانات لغوية ، شكلت ولا تزال قاعدة بنيوية صلدة ليس من السهل تفكيكها أو اختراقها من جهة ، مثلما ساهمت بتكوين راسب عقلي – نفسي ليس بالإمكان زحزحته أو إزالته من جهة أخرى . للحدّ الذي أورثها ثلاثة أنماط ثقافية وان بدت مختلفة الأدوار والوسائل إلاّ أنها متشابهة الوظائف والغايات ، لا تعدو أن تكون (أقنعة سيميائية) تخفي أو تحجب طبيعة التشظي الذي ابتليت به تلك الشخصية على صعيد بنيتها اللسانية – الثقافية – النفسية .
وهكذا ، فقد لاحظ الأستاذ المذكور أن النمط الثقافي (الأول) ويتمثل بالتمظهر (الذئبي) الذي يعبر عن الشخصية التي تمتلك من مقومات القوة الفيزيائية المجردة ، ما يجعلها قادرة على فرض سلطنها وبسط هيبتها على من يحيطون بها سواء في مجال العائلة أو المدرسة أو الدائرة أو الحكومة ، لا بل حتى القبيلة والعشيرة والطائفة . وإما النمط الثقافي (الثاني) فيتمثل بالتمظهر (الثعلبي) الذي يجيد سلوك التملق ويحسن التلون إزاء عناصر النمط الأول (الذئبي) من جهة ، في حين لا يتورع ، من جهة أخرى – عندما تتاح له الفرصة وتتوفر له الإمكانية – من انتهاج سلوك التعالي وممارسة التسلط على مكاريد النمط الثقافي الثالث الذين ينتمون الى ما يسميه الباحث بالنمط (الجرذي) ، الذي تغلب على عناصره مظاهر (المسكنة) و(المظلومية) و(الانكسار) .
والجدير بالملاحظة ان الباحث المذكور يلفت انتباهنا الى مراعاة حقيقة أن هذه المستويات الثلاثة (( من التمظهر السلبي للشخصية العراقية ، (الذئبية ، والثعلبية ، والجرذية) ، يتحدد ظهور أي منه – وبلحظة واحدة – بالظروف الفيزيائية للمكان ، أي بحسب الربح والخسارة الماديين . ويعود سبب وقوع بعض الباحثين العراقيين اللسانيين ، والانثربولوجيين والاجتماعيين في فخ الهتاف المدائحي للشخصية العراقية (الطيبة) ، و(الشعب العراقي الطيب) الذي يتحدون بطيبته العالم ، الى الإخفاق الذريع في قراءة المستويين (الثعلبي) ، و(الجرذي) من الثقافة العراقية ، فالمستوى الأول (الثعلبي) يحسن – بحكم صفته الثعلبية – لعبة الخديعة الاجتماعية . والمستوى الثاني (الجرذي) يبث خطابه الى العالم ، على شكل مسكنة ، يحسن العراقيون أداءها بصورة مثيرة للشفقة )) .
وفي ضوء ما تقدم ، فان ما يمكن استخلاصه واستنتاجه من هذا النص التحليلي لانثروبولوجيا الشخصية العراقية ، هو أن تلك المستويات من التبلور والتمظهر لا تتموضع في السلوك الشخصي أو العلاقات الاجتماعية كممارسات منفصلة عن بعضها أو كونها غير مترابطة ، بحيث تبدو كما لو أنها خاضعة لمبدأ (التتابع) المرحلي أو (التمرحل) التاريخي ، وإنما هي أنماط (متعايشة) ونماذج (متضايفة) باستمرار وعلى الدوام داخل بنية الشخصية ذاتها . بيد أن ظهور أحدها مرهون بعامل (توازن القوى) بين قدرات الذات على صعيد الفعل والتأثير ، وبين اشتراطات المجتمع على صعيد المنع والإعاقة ، من حيث الظروف السياسية والإمكانات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والسياقات التاريخية . فحيثما كانت الشخصية قادرة على ممارسة الفعل والتأثير في الوسط الاجتماعي ، كلما كان سلوكها أميل الى النمط (الذئبي) الوحشي ، أما إذا كانت عاجزة عن مقارعة من يتفوق عليها في المرتبة والمكانة والوظيفة ، كلما أظهرت ميلها باتجاه النمط (الثعلبي) المراوغ ، هذا في حين ليس بوسع الشخصية التي يكتوي صاحبها بلظى الجوع والمرض والجهل ، سوى الميل صوب النمط (الجرذي) البائس ! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *