نوفمبر 12, 2024
345472480_1251856872384751_4771563256084157209_n

اسم الكاتب : ثامر عباس

(( كل موضوع في التاريخ يستدعي ويتطلب إشكالية – فردنان برودويل ))

بداية ماذا نعني بمصطلح (الاسطوغرافيا) الذي يشكل محور هذه المقالة وجوهر مضمونها ؟ . وقبل أن نشرع بالإجابة حريّ بنا الإقرار بأننا لا نبغي المزايدة على ذوي الاختصاص (المؤرخين) ، ولا نرغب في أن نبدو كمن يدس أنفه في حقل ليس من شانه ، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لاختيار سبل الإيجاز والاختصار فنجيب بالقول ؛ انه (علم دراسة التاريخ) . أو بمعنى آخر انه (دراسة طرق البحث والاستقصاء في شؤون الماضي ) كما يقول المفكر والمؤرخ عبد الله العروي . ونظرا”لقلة تداول هذا المصطلح في أدبيات السرد التاريخي والاجتماعي العراقي الصادر في معظمه عن بنية عقلية تمتاز بالطابع التقليدي في النظر الى قضايا الواقع ، والتي من جملة خصائصها النفور من التعاطي مع كل مصطلح أو مفهوم يدعو الى التجديد في طرق البحث التاريخي ، ويحضّ على التحديث في أساليب التنقيب الحضاري ، خشية التعرض للمسلمات والزحزحة لليقينيات القارة بين تلافيف الوعي الجمعي .
وإزاء هذا الإصرار على الرفض والتشدد في الممانعة لعل سؤال يطرح نفسه ؛ هل حقا”لدينا (استطوغرافيا عراقية) – كما لدى بقية المجتمعات – يمكنها ، ابتداء ، الشروع بإعادة قراءة التاريخ العراقي قراءة (نقدية) و(موضوعية) خارجة عن مألوف السرديات التقليدية المتكاثرة والمتناسلة ، تنأى بنفسها – قدر الإمكان – عن أهواء التحزبات والفئويات والعصبيات التي لازمت (صناعة) تاريخنا المحشو بالمبالغات والتلفيقات منذ قرون ، بحيث لن يكون لها معيار آخر سوى (الشك) في كل ما كتب عن مواريث ماضينا الملتبسة ، و(التساؤل) عن كل ما قيل بشأن ما ألفناه من سرديات أسطورية ومرويات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب ، ولكنها برغم ذلك لا زالت تتحكم بنوابض وعينا ومفاتيح سلوكنا كما لو أننا كيانات مخدّرة وآلات مسيّرة ، لا تدرك ما يجري عليها ويدور حولها ؟! .
ومن هذا المنطلق ، فان الادعاء بامتلاكنا مثل هكذا (استطوغرافيا) عراقية استطاعت أن تفرض وجودها الواقعي وتؤكد حضورها الرمزي ، لا يعدو أن يكون سوى ادعاء مبالغ فيه لا أساس له من الصحة بضوء واقع تاريخي لا زال محل خلاف واختلاف . وإذا ما تحرينا الدقة ، فان كل ما توفرنا عليه لحد الآن لا يتعدى حدود (العنعنات) السردية و(الإحالات) النصيّة التي امتلأت بها متون الكتب التراثية والمصنفات التاريخية بغثها وسمينها ، دون أن يتمكن أصحابها من إضافة شيء ذا قيمة نوعية الى رصيد العلم والمعرفة يمكن البناء عليه والانطلاق منه ، كما لمسنا ذلك في تجارب من سبقونا في هذا المضمار . هذا من ناحية ، أما من ناحية ثانية ، فانه من باب الإنصاف القول ؛ انه بقدر ما برع السرد التاريخي العراقي في تدوين حياة الملوك الطغاة والسلاطين البغاة والأمراء الغزاة ، والتركيز على دسائسهم الداخلية وصراعاتهم الخارجية للتمكن من حيازة مقاليد السلطة والتلاعب بمقدرات الدولة ، بقدر ما أهمل الالتفات الى حياة الشعوب المقصية ، والجماعات المهمشة ، والفئات المنبوذة التي كانت تقارع الظلم الاجتماعي ، وتغالب البؤس الاقتصادي ، وتناوئ القهر السياسي .
ولعل هذا الأمر هو ما ساهم بطمس غنى وثراء ما يسمى بالتاريخ (الشفوي) للشعوب المغلوبة من جهة ، وإبراز قوة وسلطان نظيره المدعو بالتاريخ (المكتوب) للأسر الغالبة من جهة أخرى . حيث تم في هذا السرد الاختزالي والأحادي الجانب ، (تغليب) الأحداث والوقائع المرتبطة بالبنى (الفوقية) المعبرة عن الأنشطة والفعاليات التي كان يحلو لنخب السلطة ممارستها ، على حساب (تغييب) الأحداث والوقائع المتعلقة بالبنى (التحتية) المعبرة عن هموم الطبقات الفقيرة ومعاناة الفئات المسحوقة ، بحيث أفضى هذا المسلك الانتقائي الى طغيان الطابع الأيديولوجي المرفوع الى مصاف (الأسطرة) و(الأمثلة) ، على بقية ما يناظره من أنواع السرد الأخرى ؛ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي . أي بمعنى الاحتفاء بكل ما له علاقة بالإيديولوجيات التمجيدية للسلطات بخصوص التسويق (لانجازاتها) الوطنية ، والطوباويات التبجيلية للحكام بخصوص التزويق (لسلوكياتهم) الأبوية ، هذا دون أن تنال الاجتماعيات والعقليات والسيكولوجيات حقها المشروع في الإشارة أو الإشادة ، بما يتناسب ودورها في سيرورة التاريخ وصيرورة الحضارة . من منطلق ان صناعة الأول وابتداع الثانية هما انجاز حصري تختص به علية القوم من طبقات الخاصة (ملوك وسلاطين وزعماء وأمراء) ، دون أن يكون (لأراذل) القوم من طبقات العامة (المهمشين والمقصيين والمستبعدين) دور في ذلك الانجاز الحصري . بمختصر العبارة أن صناعة التاريخ تبدأ من (الأعلى – القمة) وليس من (الأسفل – القاعدة) .
والحال انه لكي تستحيل (الاستطوغرافيا) العراقية الى حقيقة واقعة تستحق إسباغها بالشرعية المعرفية ، عبر تخلصها من طابعها (المؤمثل) وتخليها عن خطابها (المؤدلج) ، والنظر من ثم الى الفعل التاريخي – الحضاري لا بالمنظور (التجزيئي) و(الاختزالي) الذي دأبت عليه الكتابة التاريخية لحد الآن ، وإنما بالمنظور (التركيبي) و(التفاعلي) لمناشط الإنسان وهو يمارس حياته وينسج علاقاته في إطار بيئته الايكولوجية ، وحاضنته السوسيولوجية ، وخلفيته الانثروبولوجية ، وطبيعته السيكولوجية . فانه يتحتم عليها (الاستطوغرافيا) القيام بخطوتين متزامنتين ومتعارضتين في نفس الآن ؛ الخطوة الأولى وتتمثل بالإقلاع نهائيا”عن وظائف (التضليل) و(التجهيل) لعقول الأفراد والجماعات ، من خلال العبث بأحداث التاريخ ومخزون الذاكرة ، عبر عمليات الاختلاق في الحالة الأولى والتلفيق في الحالة الثانية . أما الخطوة الثانية فتشتمل على كسر قيود الممانعة الذاتية (التحريم) الديني – القيمي ، وتخطي حواجز الممنوعات الموضوعية (التجريم) السياسي – الاجتماعي ، والتي من شأنها حمل المؤرخين والباحثين على تغيير وجهة أبحاثهم ودراساتهم صوب تيارات الأعماق الفاعلة والمؤثرة ، بالاعتماد على مناهج التحليل والتأويل (الحفرية) و(النقدية) التي تستهدف التنقيب في رواسب المتخيل والنبش في طمى اللاوعي ! . بحيث تظهر أمامنا (الأحداث) التاريخية و(الوقائع) السياسية معراة من كل أردية (التلفيق) و(التزويق) ، التي طالما أخفت الجرائم وطمطمت المظالم المرتكبة بحق البلاد والعباد ؛ تارة باسم الدين / المقدس ، وتارة باسم الوطن / الرمز ، وتارة باسم المجتمع / الكيان ، وتارة باسم الدولة / السيادة ، وتارة باسم الزعيم / البطل ! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *