اسم الكاتب : علي المؤمن
محاولات تذويب الهوية الشيعية الوطنية في العراق وإبقائها مختطفةً، بحجة الهوية الوطنية الجامعة الترقيعية؛ لاتنسجم مع أي معيار سماوي وأرضي عادل، لأن مقتضى العدالة هو أن تكون هوية الوطن هي نفسها هوية الأغلبية السكانية، وهو ما تجده في بلاد العالم المتحضرة، من اليابان الطاوية والهند الهندوكية وباكستان السنية وإيران الشيعية وروسيا السلافية الارثذوكسية وعمان العربية الإباضية، وحتى بريطانيا الانجلوسكسونية الانجليكانية وايطاليا الرومية الكاثوليكية، وصولاً الى أمريكا البروتستانية، دون أن يرفع أي شخص عقيرته بالصراخ على الوطن والوطنية، لأنهم بشر واقعيون، يفهمون أن هذه الهوية المذهبية القومية هي الناظم الوطني الجامع الموحِّد، وعمود خيمة الوطن، وبخلافها ستسقط الخيمة، أو يعيش الشعب الفوضى والظلم، كما ظل العراق يعيشه، منذ أن اختطف الطائفيون هويته، الى حين سقوط حاكمهم الأخير صدام.
وهناك كثير من المتشدقين بشعارات الوطنية والعبور على حقائق المذهبية والقومية؛ لايعرفون معنى هوية الوطن وهوية الدولة والهوية الوطنية والهوية الاجتماعية الدينية، ولايعرفون معنى الناظم الوطني الجامع الموحِّد، ولايلتفتون الى استحقاقات الأكثرية السكانية. ولذلك؛ فإن فهمهم للأمور هو فهم سياسي أو طائفي معلب مؤدلج أو مرتبط بالحدث السياسي وقضايا الحكم والفساد والفشل.
إنّ الوطنية تعني استناد الدولة الى ناظم مذهبي قومي، ينشأ من هوية الأكثرية ككل دول العالم المتحضرة، وهذا يقضي على كل الصراعات والفوضى؛ فقد تجاوزت الدول المتحضرة الخلافات المذهبية والطائفية والدينية، لأنها تحترم الناظم المذهبي القومي. في بريطانيا ــ مثلاً ــ أذعنت كل القوميات والمذاهب، منذ قرون، بأن الدولة هي انجلوسكسونية قومياً، وانجليكانية بروتستانية مذهباً، وليس هناك من يعترض ويتصارع وبتصادم ويختلف، لأن الانجلوسكسون الانجليكان يشكلون 55% من سكان بريطانيا؛ فترى رمز الدولة (الملك) هو رئيس الكنيسة الانجليكانية، ويتم تنصيبه في الكنيسة من قبل كبير الأساقفة الانجليكان. ولابد أيضاً أن يكون رمز الدولة ورمزياتها الأُخرى وتقاليد الدولة وأعرافها الإنجليكانية، دون أن يعترض كاثوليكي أو ارثذوكسي أو أي مواطن من غير القوميات الانجلوسكسونية.
هذا العبور على استحقاقات الأكثرية السكانية المذهبية، يتعارض مع عدالة الوطن وقسط الدولة بعد 2003، ويشير الى شذوذ العراق عن العالم المتحضر، بسبب شعور بعض المسؤولين الشيعة بعقدة الدونية والانسحاق أمام الموروث الطائفي القذر؛ فالمشكلة أن من يساهم في تذويب الهوية الشيعية للعراق، هو بعض المسؤولين الشيعة المنشغلين بالطموحات الشخصية والصفقات السياسية المشبوهة، أو السياسي والمثقف الشيعي المنسحق المهزوم، الذي يحب أن يقال عنه: وطني ليبرالي غير طائفي!!، والحال؛ إن المسؤول الشيعي؛ إنما حصل على كرسيه الفاني، ليس بصفته الوطنية العامة، بل بوصفه شيعي، أي أن طائفته هي التي وضعته في هذا المنصب؛ فلماذا ينسحق ويجبن أمام الموروث الطائفي للدولة العراقية، ويرتعب من انتمائه الشيعي، ويتنكر لمن وضعه في منصبه؛ بمجرد وصوله إليه.
وعندما نقول أن هوية العراق شيعية عربية؛ فلانعني أنها هوية طائفية عنصرية، كما كانت قبل العام ٢٠٠٣، ولانعني أنها تسوغ العدوان على أبناء القوميات والأديان والطوائف الأُخر، وتقصيهم وتهمشهم وتصادر حقوقهم وحرياتهم، ولانعني بها حظر التعددية الفكرية والدينية والمذهبية والقومية، بل نعني بها الناظم الوطني الجامع الموحِّد، الذي يستند الى هوية الأكثرية السكانية، بهدف تحقيق الاستقرار السياسي والمجتمعي، وغلق كل أبواب الصدامات والصراعات الطائفية والقومية، وضمان حقوق جميع المواطنين، دون تمييز. وهذا ما تقود اليه الديمقراطية بكل تفاصيلها؛ فالديمقراطية لاترفض التعددية، لكنها تنحاز الى قرار الأغلبية، وتضمن حقوق الأقلية، سواء كانت هذه الأغلبية سياسية أو قومية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية. ومن الطبيعي أن تكون لهذه الأغلبية هوية وخصائص وعناصر وقيم عليا مشكلة لها، الأمر الذي يجعلها حاضرة بشكل تلقائي في الدستور، والتشريعات، ورمزيات الدولة، وسياسات الحكومة.
إن تعدد الهويات الحاكمة الغالبة في البلد الواحد، سواء كانت دينية أو مذهبية أو قومية، يشبه تعدد الإرادات في الجبهة الواحدة، وتعدد الحكومات في البلد الواحد، وتعدد المواقف الفكرية والسياسية في الحزب الواحد، وتعدد المدراء في الدائرة الواحد، وتعدد الآباء في البيت الواحد؛ فالتعددية هنا لاتجوز، وستكون مدمرة، كما يحصل الآن في العراق. وبالتالي؛ لابد أن يكون لكل بلد متحضر هوية غالبة، تستند الى هوية أكثرية السكان، بعيداً عن الشعارات الفضفاضة والتنظيرات الطوباوية، وإلّا سيبقى العراق يعيش دوامة الصراعات الطائفية والقومية الى يوم القيامة، وتكفي تجربة 1350 عاماً من قمع السلطات الطائفية العنصرية، و20 عاماً من حكم الإرادات المتعارضة وفوضى المواقف وصراع الهويات.
ولاتتعارض التعددية الدينية والمذهبية والقومية والفكرية والثقافية، مع وجود الناظم الوطني الجامع الموحد، بل وجود هذا الناظم يضمن لوحده حقوق وحريات جميع المتعددين. المساواة والعدالة والمواطنة التي تضمن حقوق وحرية الشيعي والسني والعربي والكردي والتركماني والمسيحي والمسلم، تتم من خلال الناظم الوطني الجامع الموحد. هناك ناظم قومي ومذهبي موحد لكل بلد، وهذا ما عليه كل دول العالم المتحضرة. وبالتالي؛ فإن هوية العراق الشيعي العربي لاتقصي أية هوية فرعية عراقية، قومية أو مذهبية، بل تحفظها وتضمن حقوقها وحرياتها، وتقضي على الفوضى والصراعات المزمنة التي يعيشها العراق.
إن شيعة العراق يشكلون اليوم 65% من عدد سكان البلد، والعرب يشكلون 75% من عدد السكان، بينما يشكل السنة العرب 16% فقط من سكان العراق، والمحصِّلة أن 57% من سكان العراق هم شيعة عرب؛ فمن البديهي أن تكون هوية العراق شيعية عربية. في حين أنّ الموروث السني العربي لايزال هو الحاكم في الدولة العراقية منذ 1350 سنة وحتى اللحظة، وهو شرخ عميق في الهوية الحقيقية العراقية، وطعن في انتماء الوطن.
هذه الاحصاءات لاعلاقة لها باحتلال ما بعد العام 2003 ومشاريعه ومؤامراته، كما قد يزعم بعض المنزعجين، بل أنّ هذه الاحصاءات تم احتسابها بمنهجية علمية، وهي مقاربة للواقع، وقد عملنا عليها بدقة خلال الأعوام ١٩٨٦- ١٩٨٩، وفق تقديرات سكان كل مدينة وناحية وقرية عراقية، ونشرتها في كتابي «سنوات الجمر» في العام ١٩٩٣، ثم كررناها بعد سقوط النظام البعثي الطائفي العنصري، بناء على إحصاءات وزارتي التخطيط والتجارة، ونشرت الاحصاءات المدققة في كتابي «صدمة التاريخ».
وينبغي أن لايتحسس السنة العرب من الحقائق الديمغرافية في العراق، كما أن الكاثوليكي غير متحسس من كون بريطانيا انجليكانية انكلوسكسونية، ولايتحسس البروتستانتي من أن ايطاليا كاثوليكية رومية؛ فقدر السني في العراق أنه يعيش في بلد يبلغ شيعته 65% من عدد السكان، كما هو قدر الشيعي الكويتي الذي يعيش في بلد يبلغ سنّته 60% ، أو قدر المسلم الهندي الذي يعيش في بلد يبلغ الهندوس فيه 70%، ولذلك؛ فإن التخوف من كون شيعة العراق 65%، والسنة العرب 16%؛ هو تخوف لاداعي له، لأن جميع أبناء مكونات الشعب العراقي، باتوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وليس كما كان الحال قبل ٢٠٠٣، حين كانت الأكثرية الشيعية مهمشة مقموعة مظلومة. ثم أن كون العراق شيعي عربي هو ليس اختراع أو اكتشاف جديد، بل هو الأمر الواقع الذي ينبغي أن يحترمه الجميع، وهذه الهوية الوطنية هي التي ستحفظ لجميع العراقيين، من كل الأديان والمذاهب والقوميات، حقوقهم وحرياتهم، ولكي يردموا مسارب الفوضى والصراعات المزمنة التي يعيشها العراق.
كما ينبغي أن ينسى أهلنا السنة أن حكم السلطات السنية العربية للعراق طيلة ١٣٥٠ كان حكماً شرعياً، وأن الحكم يجب أن يبقى سنيا؛ فتجاوز هذا الموروث القمعي الدموي البشع، وعدم التحسس من وجود أكثرية مذهبية قومية ينبغي أن ينصفها الوطن؛ سيجعلهم يفخرون بأنهم تعيشون في عراق هويته شيعية عربية، لأن هذا الناظم الوطني الجامع سيقضي على فوضى الصراعات والصدامات الطائفية والقومية، وسيحقق للجميع أهدافهم وحقوقهم وحرياتهم. في حين ظلت السلطة القاهرة التي تنتمي الى الأقلية السنية حتى ٢٠٠٣؛ سلطة طائفية دموية إقصائية، لاتعبر عن هوية العراق إطلاقاً. وحين حصل التغيير بعد ٢٠٠٣، كان ينبغي أن تتكامل فصوله عبر الهوية الوطنية الجامعة التي تستند الى الهوية المذهبية القومية للأكثرية السكانية، وهو ما يحقق الاستقرار المجتمعي لجميع الدول المتحضرة في العالم.
ومن الضروري؛ أن تبادر نخب المكونات العراقية الى دراسة هذا الموضوع، والتأمل العميق في جدواه ومآلاته، دون أحكام مسبقة، ودون المزايدة على شعارات الوطن والوطنية؛ فمن يحب الوطن، عليه أن يفكر في استقراره وأمنه وإعماره ونمائه، وليس في مصالحه الشخصية والفئوية. وسأكتب تفصيلاً عن معايير ومآلات هوية العراق الشيعي العربي، وما يجب أن يكون عليه، وعن كيفية حفظ حقوق الأقليات القومية والطائفية، ومعايير وطنيتهم، بما لايحسسهم بأية مسافة مع هوية الوطن، وليس كما كانت تفعل السلطة العراقية السنية ضد الأغلبية الشيعية قبل 2003.
ورغم أن حديثنا كان وسيبقى لصيقاً بمبادئ العدالة الإسلامية، والعدالة الأرضية الديمقراطية، ولاعلاقة له بأي منحى طائفي أو ميل عنصري، ولكن من أراد أن يتقوّل علينا فليتقوّل؛ ليقل طائفيين أو ما شابه، يكفي شيعة العراق ما عانوه طوال 1350 عاماً من عقوبات انتمائهم لمذهب آل البيت.