الكاتب : محمد علي جواد تقي
“مَن نَامَ لم يُنمْ عَنهُ” أمير المؤمنين (عليه السلام)
ليس أحلى من العودة مساءً الى البيت لإراحة الخاطر مما علق به من مشاكل العمل والشارع نهاراً، ليستريح الرجل، او حتى المرأة، بين افراد العائلة، ثم يستمتع بنوم عميق في أمن وهدوء، ثم يستيقظ صباحاً على أصوات العصافير ليبدأ معها يوماً جديداً من العمل والحياة الطبيعية، ولكن! سنّة الحياة تعلمنا أمراً آخراً متناسقاً مع طموحات الانسان بتحقيق السعادة في الحياة، وهي ضرورة اختيار أحد السبيلين اللذين حددتهما رسالات السماء، وأنكرتها أفكار البشر قائلين بإمكانية أن يعيش الانسان في المنطقة الوسطى بين الجنة والنار!
ثم ساد تصوّر بصعوبة تحديد هوية أصحاب الحق، وأصحاب الباطل، فربما المتدين –مثلاً- يكذب، او يخون، أو ربما حاكم ظالم يوزع الاموال عل الفقراء ويشيد المراقد المقدسة، وهكذا الأمثلة لا تُعد على ألسن الناس هذه الأيام، مما يعزز الاعتقاد بحقيقة هذه المنطقة الرمادية الوسطى، بيد أن الخط الفاصل يخرج بقوة عندما يتدخل الموت، وهي المنطقة التي يُطلق عليها البعض “المنطقة الباردة” والمجهولة، عندئذ لن تنفع أية محاولة للالتفاف، او التعديل، او التخفيف، إنما الوقوف أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الحق الذي ربما يتطلب موتاً كريماً وحياة سعيدة، أو الباطل الذي يتطلب بالضرورة موتاً بطيئاً وحياة بلا كرامة.
وما يجري من أحداث في لبنان وفلسطين ظاهره سياسي وباطنه ثقافي، فثمة شعبٌ ينتمي لديانة سماوية يقول إنه يرجو العيش بأمان وسلام في منطقتنا الإسلامية ليتخلص من التشرذم والاضطهاد عبر التاريخ، ويُنقل عن نوري السعيد، أحد رؤساء الحكومة العراقية في العهد الملكي اقتراحه على الحكام العرب التفاوض مع اليهود بإعطائهم جزءاً من ارض فلسطين كونهم –حسب اعتقاده- في حالة ضعف، وسيقبلون بكل شيء للعيش بسلام، بينما العرب والمسلمون في حالة قوة آنذاك، بيد أن تطورات الاحداث عبر الزمن كشفت حقائق التاريخ، وأضاءت شيئاً للحاضر والمستقبل، فاليهود بشكل عام مصابون بعقدة الخوف، وهي ليست منقصة عليهم، فثمة عوامل تاريخية ونفسية لها مدخلية في نشوء هذه الحالة، بسبب مسيرة تاريخية طويلة من الاضطهاد والابادة الجماعية على يد فراعنة مصر تارةً، وعلى يد ملوك بابل، تارةً أخرى، ثم هشاشة الإيمان بالرسالات الإلهية، كل هذا جعلهم مسكونين بالقلق والخوف من الفشل، وربما لن يفرحوا من أعماق قلوبهم لو أعطوا مقاليد حكم الكرة الأرضية وصفق أهلها لهم أجمعين، فهم من الناحية السيكولوجية يعتقدون أن لا أحد يحبهم في هذا العالم، مما يجعلهم يفرضوا انفسهم بأي شكل من الاشكال على الآخرين.
وعليه؛ فهم يحبون –ربما- ان يشركوا أهل العالم بشيء من هذا القلق الوجودي! فيصعب عليهم رؤية الآخرين من حولهم يعيشون بسلام وأمان واستقرار، لاسيما من الناحية النفسية والاجتماعية، فهو يمثل القاعدة لنشوء اقتصاد وسياسة قويين، ثم تفوق، ثم تهديد وجودهم المصطنع، لذا يضعون امامنا طريقين لا ثالث لهما: إما الحياة في ظل وجودهم السياسي والعسكري، أو المواجهة معهم، ولن يقبلوا بمنطقة وسطى، ولا حالة رمادية بأي شكل من الاشكال، ومن أجل ذلك أحدثوا نقلة نوعية في علاقاتهم مع العالم منذ تسعينات القرن الماضي، وتحديداً في الشرق الأوسط، بالتحول الى العلاقات الدبلوماسية العلنية، والتخلّي عن مرحلة التستّر، فقد كانت مرحلة ما بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 الانتقالة التاريخية الكبرى من كيان قام على أسلحة المليشيات بسجّل ارهابي دموي، الى كيان مقبول دولياً –الى حدٍ ما- وحتى اقليمياً، وايضاً؛ من أعدائه الفلسطينيين والسوريين، كما شهد هذا “مؤتمر مدريد للسلام”، بعد حوالي ثمانية اشهر فقط من انتهاء الحرب وتدمير العراق كاملة.
ولا أشك بنوايا العرب ممن جلسوا في تلك القاعة بأنهم أرادوا تحقيق الأمن والاستقرار لبلدانهم وشعوبهم وكفّ الشر من هؤلاء، بغض النظر عن صحة هذا الاعتقاد من عدمه، بيد أن المشكلة في كون هذا الاعتقاد مجرد وهم، لأن المطلوب ليس “اتفاقية سلام”، وإنما توقيع معاهدة لعبودية سياسية كما حصل لمصر التي اتضح دورها الحقيقي اليوم بتنفيذ الأوامر بعدم تقديم قدح ماء واحد للأطفال العطاشى في غزة، ولعل هذا أهون ما يطلبون، فثمة مطالب كبرى في الطريق على كل ما يرغب بالانحناء استلامها عن طيب خاطر لينتظر دوره في التنفيذ، وقد صرّح احد المسؤولين في الكيان الغاصب “نحن لا تعنينا الشعوب وإنما الحكام”، ولتقل الشعوب ما تريد وفق الحدود المرسومة لها، ولكن لا حدود لما يريدونه من الحكام.
ومن أبرز سمات المرحلة، وما تفرزه الاحداث من معطيات، رسالة هذا الكيان لكل من في الشرق الأوسط، بأننا نحن من نرسم لكم طريقكم في الحياة، ونحن من نوفر لكم الأمن والاستقرار، وليس أي طرف آخر.
بعد كل هذا، هل توجد ثمة منطقة رمادية حقيقية نقف عليها، وننام في ظلها آمنين مطمئنين في بيوتنا وبين عوائلنا؟! صدق أمير المؤمنين، عليه السلام، في حديثه المتصدّر لهذا المقال، كما هو عهد ابنه الامام الحسين، عليه السلام، من بعده، وهو في نفس الطريق الرسالي، في جوابه على طلب ابنته سكينة قبل واقعة عاشوراء بتغيير مساره عن كربلاء، بأن “لو تُرك القطا ليلاً لغفا ونام”، كناية عمن سُلب الأمان منه، فالأمن والاستقرار الحقيقي لن يصنعه أحد بالنيابة عنّا ويقدموه لنا على طبق من ذهب، إنما هي مسؤولية أهل هذه البلاد، ممن لهم التراث الثقافي والحضاري العظيم بأن يسهموا في هذا المشروع، كلٌ حسب مقدرته وطاقاته، بدءاً بالكلمة الطيبة والنافذة، او بالمال لتشكيل رأي عام يثبت للعالم قوة الكيان الإسلامي على الأرض، وأنه مايزال حيّاً نابضاً ومؤثراً بشكل إيجابي، ولن يرضخ لما يملي عليه الآخرون.