اسم الكاتب : اية منصور
مصادر: النفايات ومصفى ومحطة كهرباء منطقة “الدورة” وراء ارتفاع نسبة حرق مشتقات النفط والتسرب الغازي .
ملخص
وفقاً لتقرير مؤشر جودة الهواء، تعد 39 منطقة من بين 50 في العراق من الأكثر تلوثاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقدر البنك الدولي عام 2018 أن 47 في المئة من الغابات الطبيعية بالبلاد تعرضت للدمار، وأن 2.4 مليون هكتار من الأراضي أصبحت غير قابلة للاستخدام نتيجة الحروب والألغام، مما أسهم في زيادة الانبعاثات حتى الآن.
“في البدء تخترق أنفك روائح حريق، وتتبدد ملامح البنايات البعيدة لتصبح ضبابية بسبب الدخان الذي يغطي سماء مدينة بغداد، بعدها بساعة تقريباً يختفي الدخان ويمتلأ الجو برائحة كبريت قوية، إضافة إلى الاختناق الذي تشعر به تدمع العين وتصيبك نوبات كحة متواصلة، وفي اليوم الثاني يستمر السعال لساعات”.
على رغم أن تبارك أحمد، (30 سنة) تسكن في وسط مدينة بغداد، وليس بقرب منزلها أي مصفى أو مصنع يصدر تلك الانبعاثات للجو، لكنها وجيرانها إضافة إلى جميع سكان العاصمة، يشكون وبصورة مستمرة من انتشار كبير لرائحة الكبريت في الجو.
في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) سجلت مستشفيات العاصمة حالات اختناق شديدة نتيجة انبعاث رائحة الكبريت والبارود ولم يعلن عن عددها مقابل صمت من قبل وزارة البيئة، التي وعلى رغم محاولات المواطنين المتكررة لمعرفة الأسباب لم تصدر حتى الآن أي توضيح.
تتساءل تبارك بسخرية، “هل تشهد البلاد عواصف كبريتية مشابهة لتلك الترابية؟”
توضح، “ليست هذه المرة الأولى التي يستنشق فيها سكان بغداد روائح غاز الكبريت والبارود، قبل أكثر من 10 أعوام ظن بعض سكان شمال العاصمة أن مدينتهم تعرضت لهجوم بغازات سامة، وتبين لاحقاً أن مصدر الروائح كان تسرباً لغاز الكلور عقب تفجير استهدف محطة مياه الطارمية شمال بغداد. أما الآن، فيبدو وكأن الهواء قد تغير تماماً، واختفت رائحته لتحل محلها رائحة الكبريت”.
ما الذي يحدث؟
يكشف معاون مدير عام دائرة المخلفات الصلبة والبيئة في أمانة بغداد كريم جياد، “أن هذه الروائح ناتجة من أكاسيد الكبريت وتأتي من عدة مصادر، وأن النسبة الأكبر من الغازات التي تنبعث وتسبب هذه الروائح، وبخاصة في ساعات الصباح الباكر، تعود إلى احتراق المشتقات النفطية”.
يضيف، أن “مصفى ومحطة كهرباء الدورة الحرارية اللتين تقعان غرب العاصمة من أكبر مصادر أكاسيد الكبريت، حيث تنتج هذه الأكاسيد من حرق المشتقات النفطية، وعندما لا تكون هناك سيطرة كافية على الإنتاج يحدث احتراق غير مكتمل في عملية تكرير النفط، مما يؤدي إلى أخطاء بيئية أحياناً تؤدي إلى انبعاث هذه الغازات التي تشبه في رائحتها البيض الفاسد”.
يؤكد كريم، أن حرق النفايات أو تركها لفترة طويلة يؤدي إلى تحلل غاز كبريتيد الهيدروجين، وهو غاز يحوي عنصر الكبريت ويصدر روائح كريهة. “نحن في أمانة بغداد ليس لدينا محارق رسمية للنفايات، إذ تنقل إلى مواقع الطمر الصحي ولكن يقوم بعض النباشة بحرق النفايات لاستخراج المعادن منها، ونسبة تلوث الجو بسبب هذه الحرائق لا يُقارن بالأمور الأخرى”.
ويشير إلى أن “السبب الرئيس الآخر هو العمليات الصناعية أو المصانع غير المرخصة، مثل معامل تعدين بعض المعادن أو صهرها بطريقة غير مطابقة للمواصفات البيئية”.
تنشط هذه الظاهرة في الفترات الصباحية، بسبب التباين بين درجة حرارة سطح الأرض ودرجة حرارة الجو. إضافة إلى ذلك، ظهرت في الأوان الأخيرة غازات أخرى لها تأثير كبير، تتمثل في تلك المسببة للاحتباس الحراري وساعدت في زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو، مما أدى إلى ارتفاع نسبة وجود هذه الانبعاثات الخانقة، وبعضها يسبب تراكيز كبيرة قد تؤدي إلى بعض أنواع السرطانات.
وعلى رغم أن سُميتها ليست عالية وتكاد تكون منخفضة، فإن تركيزها بهذه الكميات الواضحة للعيان وبخاصة في أوقات معينة، يجعل تأثيرها ملحوظاً وفتاكاً في المدى القريب.
أصابع الاتهام تشير إلى “وزارة البيئة”
يقول أحد العاملين في الشرطة البيئية، رفض ذكر اسمه، إن “وزارة البيئة تتحمل مسؤولية بقاء الكثير من المصانع غير المرخصة، وتوهم المواطنين بإيجاد الحلول التي تكاد تكون انقرضت في الدول الأخرى”.
يوضح أن “الوزارة أسست متحسسات هوائية منصوبة بأجزاء من بغداد، تمنح نسب تراكم غاز الكبريت أو ثاني أكسيد الكربون أو غاز الميثان وتعطي إشارات للوزارة، فتقدم بدورها الأخيرة، مجرد بيانات تحذيرية للمواطنين”.
بحسب قانون (27) لحماية وتحسين البيئة عام 2009، تملك وزارة البيئة، تخويلاً لسير الإجراءات القانونية، التي تبدأ بإنذار وتنتهي بالإغلاق، ثم لا يحدث شيء.
يجزم العامل في الشرطة البيئية، أن “هناك عدداً من الشكاوى حول عشرات المصانع التي أثبتت فعلياً أنها غير مرخصة وتسهم في زيادة الانبعاثات السامة بالهواء، وعلى رغم أن الوزارة خصصت 90 مليار دينار (67.5 مليون دولار) لاحتواء تأثيرات التغيرات المناخية ومعالجة التلوث، واستغلال الغاز المصاحب لتقليل انبعاثات الكربون، والتوجه نحو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري واستبداله بالطاقة النظيفة، لكن كل شيء يضيع مقابل الرشاوي، وتتوقف الشكاوى عند المرحلة الأولى من العقوبات وهي الإنذار، الذي يجب أن يكون بعده غرامة مالية في حال عدم الاستجابة، ثم إغلاق المصنع أو المعمل”.
يضيف، “وظيفتنا هي محاولة تقليل الضرر المنبعث من هذه الأماكن، في أحيان كثيرة نتجه نحو معمل، حيث كل شيء فيه يفتقر لشروط السلامة، نختنق داخله ويضيق نفسنا ونعتقد أننا قادمون لفرض ضوابط صارمة تجعل مالكه غير قادر على إعادة افتتاحه، ونتفاجأ بأن ملفه قد أغلق، ويمكنه استمرار العمل، هذه المرة بسند قوي يمكنه من خرق كل القوانين بصورة رسمية”.
وفي مسح أجرته شركة “آي كيو آر” السويسرية لتصنيع أجهزة تنقية الهواء. احتل العراق المرتبة الثانية من بين أكثر دول العالم تلوثاً. وأوضح المسح أن “بلاد الرافدين التي يسكنها 43.5 مليون شخص تدهورت فيها جودة الهواء بنسبة 80.1 ميكروغرام من جزيئات (بي إم 2.5) لكل متر مكعب، بعدما كانت 49.7 ميكروغرام لكل متر مكعب عام 2021”.
العيش في “المحرقة”
“يبدو وكأننا نعيش في محرقة أو مكب نفايات كبير إنها ليست بلاداً، شيء يعيش فيه الناس بالفطرة وبعشوائية، ليس هناك وجود لسماء زرقاء أو صافية، الغبار يكسو غلاف المدينة الجوي، وروائح الدخان، والنفايات، والبارود أصبحت كلها جزءاً من حياتنا”. هكذا توضح مها نادر (28 سنة) التي تعيش في منطقة الدورة (غرب بغداد)، قرب المصفى الذي يحمل اسم الحي.
تضيف، “إنها وتحديداً عند نشرها الغسيل في سطح المنزل تلاحظ صباحاً وجود بعض الذرات السوداء على الملابس. عند انتشار الرائحة بصورة كبيرة تنعدم الرؤية في المنطقة وتصبح بيضاء، لا نستطيع الخروج ولا الرؤية، والسخام يملأ جيوب أنوفنا. نرتدي الكمامات ولكن الأمر صار بصورة شبه يومية، نتمنى أن نعلم ما يحدث، هل هناك نية بقتلنا؟” تتساءل مها.
وهي أعراض متشابهة أكدها لنا أكثر من 66 شخص، تواصلت معهم “اندبندنت عربية”، وإحدى هذه الحالات أصيبت بربو مزمن بسبب استمرار استنشاق الانبعاثات الدخانية.
للرياح دور
للظروف الجوية دور في تركيز ثاني أكسيد الكبريت وبخاصة عنصرا الرطوبة والرياح، ويمكن ملاحظة ذلك في مدينة بغداد، إذ يزداد انتشار رائحة الكبريت خلال الأيام التي تسودها الرياح الجنوبية الشرقية الرطبة خفيفة السرعة التي تنتابها بعض حالات السكون.
يوضح الراصد الجوي رياض القريشي، أن “وجود هذه الأكاسيد بصورة مركزة في الهواء يزيد من فاعلية التكاثف وتحول الرطوبة من الحالة الغازية إلى السائلة وتجمعها حول ما يسمى (نويات التكاثف) وهي الأساس في ظاهر الأمطار الحمضية، ولهذه الظاهرة مضار بيئية كبيرة من ضمنها التأثير في البنى التحتية كالتماثيل في الساحات العامة والمباني”.
يضيف، “كمثال، فإن قبة الإمامين الكاظمين تتأثر بصورة دورية خلال فصل الشتاء ويتغير لون القبب الذهبية، فتكون بحاجة إلى تنظيف دوري وعمليات جلي أكثر من بقية المراقد في بقية المحافظات نتيجة لزيادة مصادر هذا الغاز في العاصمة”.
يتابع، “إضافة إلى ذلك، فإن أجهزة الرصد الجوي مخصصة لرصد عناصر محددة وبسيطة للغاية مثل الحرارة والرطوبة والرياح والضغط. لكن أجهزة القياس الخاصة للمركبات الكبريتية، تسجل قراءات متغيرة تبعاً لنسب وجود هذه المركبات”. يشير إلى أنه “داخل العراق تفتقر الكثير من المحطات لهذه الأجهزة أو قد تكون مندثرة وخارج الخدمة”.
يوضح القريشي أن “نسبة وجود غاز ثاني أكسيد الكبريت ستعتبر مقلقة إذا زادت عن 3 جزء بالمليون فعند تجاوز هذه النسب يتحول ثاني أكسيد الكبريت عند تفاعله مع بخار الماء ونتيجة تأكسده إلى حامض الكبريتيك السام جداً من طريق انتشار رائحة تشبه الرائحة المنبعثة أثناء اشتعال عود الثقاب، تماماً كالتي تنتشر في أجواء مدينة بغداد”.
يؤكد القريشي، أن “العوامل الجوية تؤدي إلى تراكم المركبات الكبريتية في مناطق معينة بالإضافة لكثرة المصافي بالإضافة إلى ازدياد الرياح والرطوبة فيها، على سبيل المثال فإن حي الدورة يقع قرب النهر، الذي يزيد من نسب الرطوبة والرياح أكثر من غيرها”.
يضيف أنه “يمكن رصد انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت من طريق أجهزة (RS) للاستشعار عن بعد وتحليلها وفق بيانات وجداول من طريق (Gis) نظم المعلومات الجغرافية، وهو ما تعتمده غالبية الموديلات الرياضية الخاصة بالمواقع العالمية للطقس كالموديل الأوروبي والأميركي والكندي، كما أن العراق أمامه الكثير من الوقت ليصل إلى تلك المرحلة، على رغم حاجته الملحة في الوقت الحالي أكثر من غيره”.
الأعراض الدائمة
تذكر الباحثة في مجال التغيرات المناخية بان فليح حسن، أنه “يتم حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط قرب الحقول النفطية، في ما يعرف بـ”الاحتراق المكشوف” (flaring). هذه العملية تطلق غازات الكبريت، التي تشكل خطراً على صحة الإنسان عند التعرض لمستويات مرتفعة، مما يسبب تهيج الجهاز التنفسي وتقرحات في الأغشية المخاطية للأنف والحلق والحنجرة”.
تضيف، “يزداد تأثيره في مرضى القلب والرئة مثل المصابين بقصور القلب. أما استنشاق غاز كبريتيد الهيدروجين بتركيزات مرتفعة قد يؤدي إلى تسمم حاد مصحوب بأعراض كالصداع والغثيان والدوار، وقد يصل الأمر إلى فقدان الوعي، كما يمكن أن يسبب تهيج العينين وسعالاً مزمناً”. أرقام صادمة
وفقاً لتقرير مؤشر جودة الهواء، تعد 39 منطقة من بين 50 في العراق من الأكثر تلوثاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقدّر البنك الدولي عام 2018 أن 47 في المئة من الغابات الطبيعية بالبلاد تعرضت للدمار، وأن 2.4 مليون هكتار من الأراضي أصبحت غير قابلة للاستخدام نتيجة الحروب والألغام، مما أسهم في زيادة الانبعاثات حتى الآن.
كما تكشف الدراسات عن وجود 76 بؤرة تلوث، منها 51 ملوثة بالنفط و23 بمواد كيماوية خطرة، مما يؤثر في 1.7 مليون شخص ويتسبب في خسائر سنوية تقدر بـ1.5 مليار دولار.
هل من حلول؟
تقر الباحثة، أنه “بوجود عدد من التجارب الدولية الناجحة التي يمكن تطبيقها في بغداد والمحافظات لتقليل انبعاثات غازات الكبريت والغازات الضارة الأخرى. هذه التجارب تعتمد على تقنيات متقدمة وسياسات بيئية فعّالة تتبناها دول عدة للحد من التلوث الهوائي”.
منها كما توضح “استخدام الوقود النظيف وخفض نسبة الكبريت فيه، حيث إن عدداً من الدول الأوروبية والولايات المتحدة تبنت سياسات لتقليل نسبة الكبريت، بما يُعرف بالوقود المنخفض الكبريت”.
تتابع، “يمكن التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري الملوث، واستخدام أنظمة (التنقية من الكبريت) التي تقوم بتنقية الغازات الناتجة من احتراق الوقود في المصانع ومحطات الطاقة، والتحكم بالانبعاثات الصناعية، تلك التقنيات تعمل على الحد من حرق الغاز المصاحب في الحقول النفطية، مما يقلل من انبعاثات غازات الكبريت بصورة كبيرة”.
لكن حسبما ترى و”الأهم، هو المراقبة البيئية والتفتيش الدوري”. فمن وجهة نظر الباحثة، أن واحداً من أسباب استمرار التلوث وعدم السيطرة على تلك الانبعاثات، هو انعدام المراقبة بالكامل بما تشمله من مراقبة المصانع بكل ما تحويه، الهواء وجودته إضافة إلى استمرار توعية المواطنين”.