بواسطة سيلين أويسال, ديفورا مارغولين
وسط تزايد الضغوط لحل التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسحب القوات من تلك البلاد، يتعيّن على الولايات المتحدة وشركائها مواصلة السعي إلى إقامة علاقات جيدة مع بغداد – ولكن هذه المرة في ظل تخفيف تواجدهم في العراق وزيادة التعاون الإقليمي.
بناءً على طلب بغداد، تم إصدار أمر لـ “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (“يونامي”) بوقف عملياتها في كانون الأول/ديسمبر 2025، بعد إصدار قرارٍ سابقٍ يقضي بإنهاء مهمة “فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب تنظيم «الدولة الإسلامية»” (“يونيتاد”). وفي الوقت نفسه، تُخطط بغداد لإغلاق ما تَبَقّى من مخيمات النازحين داخلياً في البلاد، بعد فتحها للمرة الأولى في ذروة الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وعلى نطاقٍ أوسع، تسعى العراق إلى تطبيع نشاطها الدبلوماسي في المنطقة، والذي شمل مؤخراً التوسط في محادثات التقارب بين تركيا والنظام السوري.
وعلى الرغم من الدعم الدولي والتعاون العسكري اللذين ميّزا العلاقات الغربية مع العراق في مرحلة ما بعد صدّام، إلّا أن بغداد بدأت بإعادة تقييم الترتيبات القائمة منذ فترة طويلة. يتعيّن على واشنطن وشركائها أن يحذوا حذو بغداد في الخطوة التي اتخذتها، من خلال التدقيق في الأساس الحالي الذي تقوم عليه العلاقات مع العراق وسط التغيرات التي تشهدها البيئة المحلية والإقليمية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الجوانب التي تعود بأكبر قدرٍ من الفائدة في العلاقة.
الوجود العسكري الأمريكي في ذلك الحين وفي الوقت الحالي
منذ عام 2014، كان الوجود العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق وسوريا يتوقف على الدعوة إلى دعم الحرب ضد تنظيم “داعش”. وبعد نجاح التحالف في إنهاء سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على الأراضي العراقية في عام 2017 والأراضي السورية في عام 2019، ظهرت مناقشات حول تكييف وجوده ليتناسب مع أولويات واشنطن المتطورة وقدرة بغداد الأمنية المتزايدة ووضعها المالي.
وقد أدى اندلاع حرب غزة في العام الماضي إلى إضفاء المزيد من الحدّة والتوتر على هذه القضية، حيث أدى الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى تجدد هجمات الميليشيات العراقية في الوقت الذي يدور فيه جدلٌ مستمر في واشنطن حول شروط الانتشار العسكري الإقليمي ومدته والترخيص القانوني له. وقد أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق”، وهي مجموعة واجهة تستخدمها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، مسؤوليتها عن شن 184 هجوماً على الأقل على القوات والمصالح الأمريكية منذ ظهور المقاومة في 18 تشرين الأول/أكتوبر، من بينها توجيه ضربة بطائرة مسيّرة في 28 كانون الثاني/يناير أدت إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين (للحصول على بيانات شاملة حول هذه الحوادث، يمكن الاطلاع على جدول تَتَبُّع هجمات الميليشيات التابع لـ”معهد واشنطن”). ويُسبب تصاعد العنف إلى وضع بغداد في موقف حرج ومتزعزع، لأنها تسعى إلى الحفاظ على تحالفها مع كلٍ من الولايات المتحدة وإيران.
في كانون الثاني/يناير، صرّح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن التحالف لم يعد ضرورياً لضمان أمن البلاد. وفي ذلك الشهر نفسه، بدأت الولايات المتحدة والعراق محادثات رسمية عبر “اللجنة العسكرية العليا” لتحويل مهمة التحالف إلى “شراكة أمنية ثنائية دائمة”. وهذه الإجراءات ليست مفاجئة – فقد عمد كلا البلدين بانتظام إلى مناقشة تقليص الوجود العسكري الأمريكي أو إنهائه، وكان البرلمان العراقي يصوّت على مشاريع قوانين تهدف إلى طرد القوات الأجنبية منذ وقتٍ مبكرٍ يعود إلى عام 2020.
هل انتهى فعلاً القتال الذي خاضه العراق ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”؟
على الرغم من أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يعد يشكل تهديداً وجودياً للعراق، إلّا أن قوات الأمن في البلاد لا تتمتع سوى بقدرة محدودة على العمل ضد فلول هذه الجماعة الإرهابية إذا لم تحصل القوات على دعم التحالف في تخطيط المهام، وشن الغارات الجوية، وتنفيذ العمليات الاستخباراتية، وغيرها من المهام الرئيسية. وبسبب الخلافات المستمرة بين بغداد و”إقليم كردستان”، بقيت بعض المناطق المتنازع عليها (في المحافظات) مثل كركوك وديالى عرضةً بشكلٍ خاصٍ لخطر تنظيم “الدولة الإسلامية”، إذ تسعى هذه الجماعة إلى الاستفادة من ثغرات الحُكم والانقسامات الطائفية لتأجيج العنف وفرض النفوذ.
وعلى الصعيد الإنساني، انخفض عدد النازحين داخلياً في العراق من 6 ملايين في عام 2014 إلى 1.1 مليون اعتباراً من حزيران/يونيو 2023، لكن هذا الانخفاض الحاد يرجع إلى حدٍ كبيرٍ إلى قرار الحكومة بإغلاق العديد من مخيمات للنازحين داخلياً. وقد تحولت هذه المناطق الآن إلى مستوطنات غير رسمية حيث يظل النازحون داخلياً دون إمكانية الحصول على المساعدات الحكومية، مما يتسبب في إنشاء بؤر ساخنة محتملة لتجنيد الإرهابيين. ولا يزال الإرث الأيديولوجي الخاص بتنظيم “الدولة الإسلامية” قائماً في العراق، وتستمر هذه الجماعة في استغلال الثغرات الأمنية لشن الهجمات وترهيب السكان المحليين.
التحوّل الوعر قد بدأ بالفعل
بدأ التحالف يقلّص بهدوءٍ دوره النشط في قطاع الأمن العراقي منذ عدة سنوات. ففي كانون الأول/ديسمبر 2021، تحوّل هذا التحالف من مهمته القتالية إلى “تقديمه المشورة والمساعدة والتمكين”، على الرغم من أن الولايات المتحدة وفرنسا وبعض الأعضاء الآخرين ما زالوا يشاركون في شن الغارات ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” بالتعاون مع “جهاز مكافحة الإرهاب العراقي” – وهي مهمة حيوية نظراً لأن وجود التنظيم في سوريا المجاورة غالباً ما يهدد بالامتداد عبر الحدود التي يسهل اختراقها.
كما تم تقليص الجهود الإنسانية الدولية. فوفقاً لـ “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، كان التمويل الأجنبي يلبي 95 بالمائة من متطلبات المساعدات العراقية في الفترة بين 2017 و 2020، لكن هذه النسبة انخفضت إلى 67 بالمائة في عام 2022. وفي الوقت نفسه، صوّت “مجلس الأمن” الدولي بالإجماع على إنهاء بعثة “يونامي” في عام 2025 – أي إنهاء مهمة إحدى أطول البعثات وأكبرها في تاريخ المنظمة الدولية – وسيتوقف أيضاً فريق “يونيتاد” عن العمل في شهر أيلول/سبتمبر المقبل.
توصيات في مجال السياسة العامة
على الرغم من أن انتقاد الحكومة العراقية بشأن بعض هذه القضايا هو بالتأكيد أمر مبرر، إلّا أن التعاون الغربي مع بغداد في القضايا العسكرية والإنسانية يُعد رصيداً كبيراً لكلا الطرفين – وهو ما يجب على أعضاء التحالف أن يسعوا للحفاظ عليه عند صياغة ترتيبات الشراكة الجديدة. بإمكان تَفَهُّم رغبة العراق في التأكيد على استقلاله الذاتي، لذا يتعيّن على المسؤولين الأجانب التركيز بشكلٍ أكبر على الترتيبات الأمنية الثنائية ومساعدات التنمية بدلاً من النموذج السابق من المساعدات الإنسانية والعسكرية المتعددة الجنسيات. ويجب على هذه المحادثات أن تأخذ في الاعتبار أيضاً السياق السياسي الحالي في العراق – الذي ينقسم بين الفصائل التي تسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع الغرب، وتلك التي تخدم أجندة الميليشيات المدعومة من إيران عبر رفض الوجود الغربي بالكامل.
وعلى الرغم من هذه التحديات والتناقضات، فمن الممكن التخطيط لهذه المرحلة الجديدة وتنظيمها بطريقة مفيدة لكلا الجانبين، طالما يضعان عدة مبادئ أساسية في الاعتبار:
التأكد من أن مناقشات “اللجنة العسكرية العليا” بين الولايات المتحدة والعراق تُحدد الخطوط العريضة للانتقال المنظم نحو إقامة شراكة أمنية ثنائية، بالتنسيق الوثيق مع شركاء التحالف. من أجل الحفاظ على علاقات العراق العسكرية مع الغرب، يجب أن تعتمد واشنطن على الحلفاء الأقل تعرضاً لتهديد الميليشيات، وعلى أطرٍ متعددة الأطراف غير تلك المتعلقة بالتحالف. فعلى سبيل المثال، لا تزال فرنسا منخرطة بشدة في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبدأت بتطوير علاقة دفاعية ثنائية مع بغداد، وأبدت استعدادها لبيع المزيد من الأسلحة للجيش العراقي، بما فيها الطائرات المقاتلة من طراز “رافال”. بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي طوّرت فيه “بعثة حلف شمال الأطلسي في العراق” شراكة تكميلية مع وزارة الدفاع العراقية، كانت “البعثة الاستشارية للاتحاد الأوروبي في العراق” أقل إقناعاً – ويرجع ذلك جزئياً إلى المشاكل الداخلية، ولكن أيضاً لأن وزارة الداخلية العراقية منخرطة بشكلٍ أكبر مع الشبكات الموالية لإيران.
مواصلة التعاون في جهود إرساء الاستقرار في مرحلة ما بعد تنظيم “الدولة الإسلامية”. لا يشكل النازحون داخلياً في العراق مجموعة متجانسة – فهم يشملون أفراداً نزحوا بسبب الصراع مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، والمجتمعات اليزيدية التي استهدفها التنظيم بشكلٍ مباشرٍ، وحتى العائلات المرتبطة به. وتشكل تلبية احتياجاتهم تحدياً كبيراً نظراً للعوائق القانونية والاجتماعية القائمة. بالإضافة إلى ذلك، أعاد العراق ما يقرب من 10 آلاف من مواطنيه من مخيم “الهول” للمعتقلين في شمال شرق سوريا منذ أيار/مايو 2021، ونقلهم إلى مخيم “جدة 1” المؤقت في محافظة نينوى قبل إعادة دمجهم في المجتمع. ولتجنب قيام “هول عراقي” مناسب للتجنيد والاستغلال من قِبَل تنظيم “الدولة الإسلامية”، يجب على بغداد أن تدرس بعناية آثار توسيع “جدة 1” أو فتح مخيمات مؤقتة جديدة، خاصةً للأفراد العائدين إلى الوطن والمنتسبين إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومن جانبهم، يتعيّن على واشنطن وشركائها التأكد من أن العراق مستعد لإدارة ملف العودة إلى الوطن وإعادة الإدماج مع مراعاة حقوق الإنسان التي تتماشى مع القانون الدولي. ويُعَدّ قرار فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة “يونيتاد” الذي صدر هذا الأسبوع، والذي يقضي بإرسال كميات كبيرة من البيانات المتعلقة بجرائم تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى بغداد، بمثابة خطوة أولى جيدة، ولكنه مجرد جزء واحد من عملية أوسع نطاقاً.
العمل بشكلٍ أوثق مع الشركاء الإقليميين. أدّت قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا دوراً اقتصادياً وسياسياً متزايداً في العراق في الآونة الأخيرة. ففي العام الماضي، أعلنت الرياض عن شراكة بقيمة 3 مليارات دولار في قطاعاتٍ مختلفةٍ للمساعدة على تنويع اقتصاد العراق المعتمد على النفط، بينما وقّعت الدوحة عدة مذكرات تفاهم مع بغداد في مجال الطاقة. كما تشارك قطر وتركيا في تشييد “طريق التنمية”، وهو مشروع للسكك الحديدية والطرق يهدف إلى ربط آسيا بأوروبا. أما نية أنقرة في استئناف العمليات العسكرية ضد “حزب العمال الكردستاني” والجماعات التي تدور في فلكه في العراق وشمال شرق سوريا، فستؤدي إلى تعقيد أي عملية تقارب مع واشنطن، ولكن في النهاية، قد يتعين على الغرب الاختيار بين النفوذ الإيراني والنفوذ التركي في العراق.
مراقبة الساحة السياسية في العراق بدقّة – ولكن مع إبقاء التوقعات واقعية. قد يتمكن الغرب من تأدية دورٍ أكبر للتوسط في نزاعات بغداد مع “إقليم كردستان”، بعد أن تبنى مجلس الأمن الدولي مؤخراً قراراً ألغى الدلالة إلى “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق”، التي كان تفويضها يشمل سابقاً ممارسة هذه الوساطة. علاوةً على ذلك، قد يصبح الأكراد شركاء أقرب إلى واشنطن إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق الإتحادي، بما أن بغداد ستظل منقسمة بين جهات النفوذ الموالية لإيران وتلك الموالية للغرب. ولذلك، سيحتاج شركاء الولايات المتحدة إلى ممارسة مزيج بارع من الضغط الهادف والصبر الاستراتيجي مع العراق، عبر استخدام كلٍ من العقوبات والحوافز عند محاولتهم تسهيل عملية بلوغ الهدف الطويل المدى، والمتمثل في معالجة مسائل الفساد والفيدرالية والميليشيات الخارجة عن القانون وغيرها من التحديات الهيكلية.
باختصار، يجب على الغرب أن يواصل السعي إلى إقامة علاقات جيدة مع العراق – ولكن مع التركيز هذه المرة على تخفيف تواجده في المنطقة وعلى زيادة التعاون الإقليمي.