نوفمبر 22, 2024
201905061158305830

اسم الكاتب : د. غانم المحبوبي

يتفق ألمؤرخون على عدم ألوضوح في أصل سكان ألعراق ماقبل ألتأريخ، ولكن ما هو معروف إن هناك أقلية من ألأعراب مَن سكنَ أرض ألرافدين مع غيرهم ألكثيرين كألسومريين وألبابليين وألآشوريين وألكلدانيين وألمندائيين (ألصابئة) وألهِتيت بألإضافة إلى ألفرس وألرومان. أما من ناحية أللغة فأن أول لغة مكتوبة عرفها ألإنسان هي لغة ألعراقيين ألسومريين وذلك بأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل ألميلاد. كذلك شهد ألعراق ألقديم تزاوج رائع بين لغة ألأعراب ألمستوطنين ولغات ألتحضر ألإنساني عبر ألتأريخ، ألمحلية منها بدءاً بألسومرية وألآرامية وألأجنبية كألفارسية وألإغريقية وألرومانية. إعتاد ألجميع، ألعرب أو غيرهم أن يسمي ألعراق بمهد ألحضارات ألإنسانية وخصوصاً ما قبل ألتأريخ. ولكن كم هم أللذين يعرفون وإن عرفوا يُصَدقون بأن ألعراق هو مهدُ ألعروبة بكلا ألمَعْنَين; ألأنثروبولوجي كأمةٍ مُمَيَزةٍ وألمعنوي كثقافةٍ مجتمعية؟ وكم هم أللذين يعرفون أن أرض ألسواد هي منبع ألمجد ألعربي ألإسلامي؟ هذا ما سنبينه في هذا ألجزء، عسى أن نوضح ما للهوية ألرافدينية من أهمية أساسية في إقامة حضارات وادي ألرافدين. ولكن، وقبل ألدخول في ألتفاصيل يجب أن نوضح للقاريء أن ولادة ألأمة ألعربية وألعروبة في أرض ألرافدين لا يعني إن جميع أرض ألسواد هي عربية وإن جميع مَن سكنوا فيها هم من ألعرب بل ربما على ألعكس إن ألعرب هم آخر ألأقوام أللذين إنتشروا في هذه ألأرض وإكتسبوا ألهوية ألرافدينية ألتي سبقتهم بآلاف ألسنين. ونتيجة لما كان يتصف به ألعراق من أمان ورخاء في ألمياه وألأرض ألخصبة وما تنتجه من وفرة ألغذاء للإنسان وألحيوان أصبح ألعراق قبلة للمهاجرين وبألأخص أعراب ألصحراء. أقول “أعراب” أي ألبدو ألرُحَل حيث لم تكن  كلمة “ألعرب” متداولة في ذلك ألوقت وهنا بيت ألقصيد كما سنرى. بألإضافة إلى ألأعراب أللذين إحتفظوا بطريقة حياتهم في ألرعي وألترَحلْ في ألصحراء ألجنوبية وألغربية من ألعراق، هناك مَن إستقر قرب ضفاف ألأنهار بشكل دائم حيث يجدون ما يحتاجونه للعيش لهم ولماشيتهم على مدار ألسنة بدون ألحاجة إلى ألترحال(١)، ومنهم على سبيل ألمثال بنو شيبان في أرض ألسماوة جنوب ألعراق. ومع مرور ألزمن ظهرت أجيال جديدة من ألأعراب وقد تغلغلوا في أعماق وادي ألرافدين وإكتسبوا ثقافة ألعراقيين نتيجة للإختلاط وألتعايش وألتزاوج حتى أصبحوا عراقيو ألهوية ومنهم نبي ألله إبراهيم (ع) وعائلته كزوجته سارا وأولاده ألأنبياء إسماعيل وإسحاق (ع). ومن غرائب ألتأريخ ألتي تؤكد أمجاد ألعراقيين هي أن أعراب ألعراق وبعكس من بقوا في شبه ألجزيرة ألعربية هم بألذات من أقاموا عدة إمارات عربية متحضرة قبل ألإسلام كإمارة ميسان شرق دجلة وألتي إستمرت حتى سنة ٢٢٢م وإمارة ألحضر جنوب ألموصل من سنة ٧٠م إلى ٢٤١م ثم آخرها وأعظمها حجماً وشأناً إمارة ألمناذرة في ألحيرة وسط ألعراق قرب ألكوفة حيث تأسست سنة ٣٥٠م وأستمرت حتى سنة ٥٥٠م قبيلَ ظهور ألإسلام(٢،٣).

تأسست إمارة ألحيرة من قبل ملكها عمرو بن عدي أللَخمي وبمباركة ألإمبراطورية ألفارسية لحماية مدن ما بين ألنهرين من غزوات أعراب ألصحراء ألمجاورة. ونتيجة لسيطرة ملك ألحيرة على جميع قبائل ألأعراب في ألعراق وألشام وألحجاز وأليمن وألبحرين وباقي ألجزيرة تقرر تسمية إمارة ألحيرة ولأول مرة بألتأريخ “بمملكة ألعرب”، حيث ضمت تحت لوائها كلَ مَن نطق ألعربية وإستُحْدِثَت كلمة “ألعرب” لتَحل محل ألأعراب في تسمية من تحضر منهم. وألصورة أدناه لنقش ألنمارة في ألشام وُجدَ على قبر ملك ألحيرة ألثاني إمرؤ ألقيس بن عمرو وألملقب في هذا ألنقش “بملك جميع ألعرب(٢). وبهذا يحدث في أرض ألعراق ولأول مرة في ألتأريخ ولادة مفهوم قومي جديد يُسَمى “أمةُ ألعرب” وبهوية جديدة هيَ “ألعروبة” وبثقافتها ألأولى ألرافدينية، ليصبح ألعراق حقاً مهداً للعروبة وتسود ثقافة ألعراق حياة جميع ألعرب آنذاك ولمدة قرنين من ألزمن حتى قبيل ظهور ألإسلام.

[[article_title_text]]

يتضح لنا من هذه ألحقائق ألتأريخية أن عرب ألعراق وإن كان أصلهم من شبه جزيرة ألعرب لكنهم إكتسبوا ألثقافة ألمجتمعية ألعراقية وأصبحوا قوماً متمدنين بل ومتحضرين يسكنون في حواضر مرموقة من ألمدن، تعلموا فيها ألقراءة وألكتابة وألحرف ألمتعددة بألإضافة إلى ألزراعة وألتجارة. ومع مرور ألزمن لم تعد شخصية عرب ألعراق صحراوية جاهلية بل مدنية “رافدينية” ألهوية كبقية ألسكان ألأصليين. لذا يحق لنا ألقول، عندما كانت ألهوية ألعراقية ألرافدينية تتسم بألتحضر وألقوة وألإزدهار كانت تُكتَسَب من قِبل ألوافدين إلى ألعراق وتوهَبُ لِمَن أو تسود في مَن خضعَ لسلطة ألعراقيين. وفي جانب آخر، تؤكد ألدراسات ألتأريخية على أن أللغة ألعربية لم تكن من أللغات ألمكتوبة منذ نشأتها حتى إقامة مملكة ألحيرة سنة ٣٥٠م. بألإضافة إلى ذلك كان ألأعراب يتكلمون بلهجات مختلفة يصعب عليهم ألتفاهم ألكامل فيما بينهم وخصوصاً لتواجدهم متباعدين على مساحة جغرافية شاسعة وبأعداد قليلة نسبياً. من جانب آخر، وكما ذكرنا سابقاً، تَعايُشُ عرب ألعراق مع أقوام متحضرة يتكلمون لغات ألثقافة ألرصينة في ذلك ألوقت أغنى لغة عرب ألعراق بألكثير وخصوصاً من جَراءِ تأثرها ألمباشر بجارتها أللغة ألبابلية ألمكتوبة. ونتيجة لذلك، بدأ ألعراقيون ولأول مرة يكتبون ألعربية في مملكة ألحيرة وأنشؤا لذلك مدارس تعليم قراءة وكتابة ألعربية. ومن روائع ما يذكر في هذا ألصدد، أدخل ألعراقيون ألمناذرة ما يُسَمى بألف لام (أل) ألتعريف إلى لغتهم فأصبحت مملكة ألحيرة ألعراقية مهداً لولادة ثانية هي ولادة أللغة ألعربية ألفصحى.(٢) وكما أشرنا إن مملكة ألحيرة هي مملكة جميع ألعرب وألناطقين بألعربية، فأمر ملكها إمرؤ ألقيس إعتبار لغةَ عرب ألحيرة لغة ألمملكة ألثقافية وشجع على تعليمها وإنتشارها في جميع بقاع ألعرب ومن ظمنها قريش ألحجازية ولمدة قرنين من ألزمن. ومن جميل ما حدث في عهد هذا ألملك أنه دعى جميع شعراء ألعرب ألكبار في ذلك ألوقت إلى ألحيرة وطلب منهم أن يكتبوا قصائدهم في لغة ألعراق ألفصحى حتى يتم نشرها على جدران ألكعبة فولدت ولأول مرة “ألمعلقات”، ليتسنى لجميع ألعرب قراءتها وفهمها. وعندما إستقرت لغة ألحيرة ألفصحى في جزيرة ألعرب ما كان للقرآن ألكريم إلا وأن ينزل في هذه أللغة ألفصحى ألرصينة(٢). وتأكيداً لهذه ألآراء يقول ألمستشرق كرستوف لوكسمبيرك إن هناك ألكثير (٣٠٪) من كلمات ألقرآن لها أصل سرياني آرامي، ويؤكد ذلك ألدكتور يوسف زيدان إن هذه ألكلمات ألقرآنية مكتوبة بشكلها ألسرياني ألآرامي ككلمة “ألصلوة” أي ألصلاة و “ألزكوة” أي ألزكاة. بألإضافة إلى ذلك، هناك كلمات قرآنية ليس لها أصول عربية ككلمة “إسْتَبْرَق” ألفارسية. إن وجود ألأثر أللُغَوي ألفارسي وألآرامي في لغة ألقرآن ألفصحى يؤكد أن لهذه أللغة جُذور “رافدينية” حضارية لم تعرفها بداوة ألعرب آنذاك. وفي ألختام، يذكر لنا ألمؤرخ ألكبير ألدكتور جواد علي ألطاهر في كتابه(٤) ما يلي: “إنني أعتقد أن علم ألعروض وعلم ألنحو وعلم ألصرف وسائر علوم ألعربية ألأخرى لم تظهر في ألعراق إلا لوجود أسس لهذه ألعلوم فيه تعود إلى أيام ما قبل إلإسلام، وهذه إلأسس ألقديمة هي ألتي صَيَرَت ألعراق ألموطن ألأول لهذه ألعلوم في ألإسلام”.

رسالتي إلى ألعراقيين، إن مَن ينتمي لعراقيتهِ بإخلاص ومَن يَحُزُ بنفسهِ ألألم لما آلت إليه ظروف ألعراق ألحالية ألبائسة، عليه أن يعي بأننا بحاجة ماسة إلى نهضة تنويريةٍ نسترجعُ بها ألذاكرة ألسليمة لمجد هذا ألبلد وأن نتبنى من جديد هويتَنا ألوطنية ألرافدينية وبدون إزدراء للآخرين. أهل ألعراق هم أمةٌ لوحدها ذات كيان تعددي عريق وهوية رافدينية متميزة لا تحتاج أن تكون جزءاً من غيرها من ألأُمم، وأرض ألرافدين فيها ألكثير من ألمقومات لتصبح دولة قوية ومتحضرة. فكما في وادي ألرافدين ألعرب ألأقحاء وأحفاد ألصحابة ألنجباء، فيه ألآخرون من غير ألعرب وغير ألمسلمين أيضاً. وكما ألمسلمون هم أغلبية شعب ألعراق ألحالي فَمَعَنا ألكثيرُ ممن يشاركوننا ألوطن من غير ألمسلمين. لقد حُكِمَ ألعراقُ من قِبَلِ ألعرب كما حَكَمَ ألعربُ بلاد فارس وإسبانيا وأممَ آسيا ألوسطى لكن هؤلاء لم يضيعوا هويتَهم ألأصلية فلماذا أضعنا هويتنا ألرافدينية؟ كذلك، وتأكيداً لما طرحهُ ألدكتور طه حسين في كتابه(٥) أقول، للعراقي ألمسلم كلُ ألحق أن يفتخر بإعتناقهِ ألإسلام ديناً قويماً للأخلاق وألقيم ألإنسانية وألذي جائهُ من ألجنوب، كما إعتنقتْ أوروبا ألديانة ألمسيحية وألتي ذهبت إليهم من ألشرق ألأوسط. لكن ألأوروبيون إحتفضوا بهويتهم ألثقافية ألأوروبية ولم يتَبَنوا ألثقافة ألشرق أوسطية. بل على ألعكس، نراهم يصورون ألسيد ألمسيح (ع) رسماً أو نحتاً أو أفلاماً بملامح آرية كشعر أشقر وعيون زرقاء وليست بملامح كنعانية شرق أوسطية. كذلك، إعتنقتْ ألكثيرُ من شعوب آسيا ألإسلام ألذي دخل لهم من غرب آسيا وحُكِموا من قبل أمراء وولات عرب لكنهم أيضاً لم يضيعوا هويتهم ألآسيوية. دخل ألعربُ إلى أرض ألرافدين وهم بدون حضارة أو حتى تمدنٍ يُذكرْ، فتمدنوا وتحضروا بعدما أصبحوا مع مرور ألزمن عراقيين. ثم دخل بعد ذلك ألمسلمون إلى أرض ألسواد وليس معهم غير ألسيف ورسالة سماوية نزلت من ألله إلى ألأرض ولم يبتكرها ألعرب ألمسلمون بأنفسهم فأحتضنَ ألعراقيون ألإسلام وبنوا حوله صرحاً من ألمجد بعراقيتهم لا بعروبتهم وإلا لماذا لم ولن يبني ألعربُ حضارة تُذكر في حجازهم وبإسلامهم؟ إن تجربة إحتلال أو “فتح” ألعراق من قبل ألعرب ألمسلمين لا تقارن بإحتلال أو “إستعمار” ألأوروبيون لشمال أمريكا وإستراليا وغيرها، لان ألأوروبيون نقلوا حضارتهم إلى هذه ألمناطق ألخالية من ألتحضر آنذاك لكن ألعرب ألمسلمين دخلوا ألعراقَ وفارسَ ومصرَ ببداوتهم في ألوقت ألذي كانت هذه ألمناطق أكثر بقاع ألأرض تحضراً. فعندما أضاعَ ألعراقيون هويتهم ألرافدينية ألعتيدة وألتي سبقت ألعرب وألإسلام بآلاف ألسنين إستهلكوا ما تبقى من تحضرهم عبر ألزمن وتأخروا عن ألإلتحاق بركب ألعصر حتى باتوا ألآن بزمنِ ما قبل ألتحضر. إن إسترجاع ألهوية ألرافدينية إلى أهل ألعراق وشيوع ثورة ثقافية تنويرية مع ألإعتماد ألذاتي على موارد وقدرات ألعراق سوف يكفي ألعراقيين في ألسير على خطى ألتحضر لإقامة دولتهم ألقوية ألمتحضرة (يتبع في ألجزء ألثاني).

ألمصادر

١. ألدكتور علي ألوردي، دراسة في طبيعة ألمجتمع ألعراقي، ٢٠٠٧/٢٠٠٨، دار ألوراق للنشر، لندن

٢. سعيد ألغانمي، ينابيع أللغة ألأولى، ٢٠٠٩، هيئة أبو ظبي للثقافة وألتراث

٣. جعفر ألدجيلي، موسوعة ألنجف ألأشرف، ألجزء ألأول، ١٩٩٣، دار ألأضواء، بيروت

٤. ألدكتور جواد علي ألطاهر، ألمفصل في تأريخ ألعرب قبل ألإسلام، ٢٠٠٦، مكتبة ألنهضة، بغداد

٥. ألدكتور طه حسين، مستقبل ألثقافة في مصر، ١٩٣٨.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *