الكاتب : محمد الشمري
غالبًا ما يقال إن علاقات الولايات المتحدة بالقوى السياسية الشيعية في العراق قبل غزو عام 2003 كانت إيجابية، نظرًا للمشاورات والتنسيق رفيع المستوى الذي ساد بينهم في تلك الفترة. وقد دفع ذلك بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن واشنطن سلمت البلاد إلى شيعة العراق، وإلى إيران. في الواقع، إن هذا الاعتقاد بعيد كل البعد عن ما يراه الشيعة الذين يتذكرون موجات التوتر بينهم وبين الولايات المتحدة قبل وبعد سقوط نظام صدام حسين.
في هذه الأيام، يواجه شيعة العراق والولايات المتحدة تحديات تتمحور حول ثلاثة أبعاد رئيسية وهي: العلاقات مع إيران، والافتقار لرؤية موحدة بين الشيعة للكيفية التي ينبغي أن تحدد العلاقات مع الولايات المتحدة، وغياب الآليات القوية لبناء علاقات فعلية.
العلاقة غير المنظمة مع إيران
يرى الكثير من المراقبين المقيمين في الولايات المتحدة أن إيران تتمتع بتأثير واسع على المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة العراقية، وذلك نتيجة توظيفها لشبكة من العلاقات التي تربطها بفصائل شيعية على وجه الخصوص. فعلى الرغم من الرفض المتزايد للنفوذ الإيراني من قبل فئات من الشيعة العرب، يُنظر إلى طهران على أنها تمنع الأصوات المعارضة من التصرف بمبدأ الدفاع عن سيادة العراق. وقد برز ذلك جليًا خلال الاحتجاجات المعارضة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، وأيضًا خلال الأزمة السياسية المرتبطة بتشكيل الحكومة العام الماضي.
وفي هذا الإطار،تتمحور المقاربة الأميركية لبناء عراق قوي ومستقل حول وضع حد للنفوذ الإيراني من خلال التركيز على أربعة محاور.
أولاً، يتم تشجيع العراق على إنهاء اعتماده على الطاقة الإيرانية من خلال تطوير قطاع الغاز الطبيعي الخاص به وربط شبكته الكهربائية بشبكات الكهرباء الخاصة بالدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. ثانيًا، تُبذل جهود لقطع روابط الفصائل الشيعية المسلحة بإيران ودمجها في القوات المسلحة الرسمية، والتصدي عسكريًا لأولئك الذين يعارضون تلك المساعي. ثالثًا، هناك رغبة لاستهداف مصادر قوة الفصائل الشيعية المسلحة لا سيما هيمنتهم على المناصب الحكومية وقدرتهم على الوصول إلى أموال الدولة. رابعًا، من المتوقع أن يتخذ العراق إجراءات فعالة لوضع حد لما يُعد أنه انتهاكات إيرانية للسيادة العراقية، بما في ذلك الهجمات على جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المنفية.
https://flo.uri.sh/visualisation/10110826/embed?auto=1
وفي حين تكتسب هذه المحاور أهمية بالغة،إلا أن الاعتقاد بأن إيران هي المشكلة الرئيسية لا يأخذ في الاعتبار الأدوار التي تمارسها الجهات الفاعلة الخارجية الأخرى ذات التأثير. والأهم من ذلك هو أن السياسات التي يتم الترويج لها تتمحور حول أولويات ومصالح الولايات المتحدة بدلاً من العراق. في الواقع، قد يكون لصانعي القرار العراقيين وجهة نظر مغايرة حول ما يجب القيام به لبناء دولة قوية ومستقلة.
فعلى سبيل المثال، يرى الكثير من العراقيين الشيعة الصراع الأميركي الإيراني والسياسات الأميركية الأوسع نطاقًا في المنطقة، لا سيما دعم إسرائيل، على أنها عوائق أساسية أمام أي رغبة لتطوير علاقات مع واشنطن. وانعدام وجود فوارق في سياسة إيران تجاه العراق هو أمر ضار أيضًا. كما أن هناك وجهات نظر إيرانية متنوعة حول العلاقات بين شيعة العراق والولايات المتحدة، فالبعض في طهران يعتقد أن حفاظ العراق على علاقات إيجابية مع الغرب هو أمر ضروري للدفاع عن مصالح الشيعة ولتوفير القنوات والمرونة اللازمتين للتوصل إلى حلول دبلوماسية خلال فترات التوتر.
وعلى النقيض من ذلك، ترى شخصيات إيرانية فاعلة أخرى أن كل من يسعى لإقامة أي نوع من العلاقات مع الولايات المتحدة هو إما خائن أو غير ملتزم بمعسكر “المقاومة”. ويمتد انعدام التقدير للفوارق في وجهات النظر الإيرانية إلى العراق حيث يترك الكثير من الجهات الشيعية الفاعلة مترددة أو معادية علنًا للعلاقات مع الولايات المتحدة، حتى في الفترات التي تخلو من أي صراع أو توتر.
غياب رؤية توافقية بين الشيعة
بالخطوط العريضة، يمكن تقسيم وجهات نظر الشيعة حول العلاقات مع الولايات المتحدة إلى ثلاثة أقسام. أولاً، وجهة نظر السلطة الدينية العليا في النجف التي تنحو إلى الامتناع عن التدخل في المسائل السياسية وتحث بشكل عام على إقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار والعالم مع إعطاء الأولوية لمصالح العراق ضمن إطار الدستور وقيم المجتمع، لا سيما القيم الإسلامية.
https://flo.uri.sh/visualisation/7225600/embed?auto=1
ثانيًا، وجهة نظر الشيعة العاديين الذين تتسم مواقف الأغلبية منهم بعدم المبالاة، ويقف البعض منهم وراء الجماعات السياسية التي تتوقع جني فوائد لم تتحقق بعد من إقامة علاقات مع الولايات المتحدة.
ثالثًا، في ما يخص القوى السياسية الشيعية، لا يوجد توافق بالآراء حول الشكل الذي يجب أن تتخذه العلاقات مع الولايات المتحدة. فبعض الفصائل يعتبر إقامة أي نوع من العلاقات خيانة، والبعض الآخر يعتبر العلاقة شر لا بد منه بسبب نفوذ الولايات المتحدة في العراق والمنطقة والعالم ككل. وهناك أيضًا بعض القوى التي تعتبر أن للعراق مصلحة في بناء علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة. وأخيرًا، تدعو بعض الجهات الفاعلة إلى توافق تام مع الغرب، والابتعاد عن إيران.
ووسط هذه الانقسامات، وفر تشكيل الإطار التنسيقي الشيعي فرصة هامة للقوى الشيعية لصياغة مواقف موحدة بشأن القضايا الرئيسية المتعلقة بالسياسة الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من أن الإطار التنسيقي غالبًا ما يوصف بأنه يتوافق إلى حد كبير مع إيران، إلا أنه تمكّن في مناسبات متعددة من بلورة حد أدنى من القواسم المشتركة في ما يتعلق بالسياسة تجاه الولايات المتحدة.
https://datawrapper.dwcdn.net/lFGr7/1
فعلى سبيل المثال، حظي الوفد العراقي الذي زار واشنطن العاصمة الشهر الماضي، لحضور افتتاح حوار التعاون الأمني المشترك، بالدعم الكامل في بغداد. كما يبدو أن الفصائل الشيعية واصلت الامتناع عن استهداف الوجود الدبلوماسي والعسكري الأميركي في العراق. وفي حين قد يكون الهدف الرئيسي من وراء “الهدنة” السائدة هو مساندة إدارة محمد شياع السوداني المدعومة من الإطار التنسيقي الشيعي، إلا أنها قد ساهمت وبشكل كبير في تعزيز الشعور بالاستقرار في العلاقات الثنائية بين البلدين. والأهم من ذلك هو إجماع القسم الأكبر من الجماعات الشيعية على ضرورة التواصل مع الولايات المتحدة لتحقيق بعض الأهداف الاقتصادية، مثل تثبيت سعر صرف الدينار العراقي. كما أن هناك فهم واعٍ لفوائد الدعم الأمني والاستخباراتي الأميركي.
https://flo.uri.sh/visualisation/13197316/embed?auto=1
في الوقت نفسه، وفي ظل تراجع التهديد الإرهابي المباشر، ينظر وبشكل متزايد إلى استمرار وجود التحالف الدولي لهزيمة داعش في العراق بعين الريبة. وتؤكد جهات شيعية فاعلة على أنه يجب ألا يقوم التحالف بتحديد المسارات التي على الحكومة العراقية اتباعها في ما يتعلق بسياساتها الأمنية والاقتصادية والخارجية.
ويجدر الذكر أيضًا أن هناك حساسية متزايدة بشأن أي استخدام متصور لوسائل التأثير الاجتماعي لا سيما في ما يتعلق بقضايا مثل حقوق مجتمع الميم. أخيرًا وليس آخرًا، هناك تركيز كبير على ضرورة ألا يكون أي تعاون وما ينجم عنه من وجود أميركي، بغض النظر عن التسمية المستخدمة لتسويغه، موجهًا ضد بلدان أخرى لا سيما إيران. في الواقع، تعد المسألة الأخيرة واحدة من أكثر المشكلات تعقيدًا في العلاقات الثنائية.
ضعف الآليات لإدارة العلاقات
حتى إذا وافقت القوى الشيعية على العمل معًا من أجل بناء علاقة مستقرة ومستدامة مع الولايات المتحدة، فإنها تفتقر في الوقت الراهن إلى الآليات الفعالة واللازمة لمتابعة مثل هذا المسعى. فانعدام وجود رؤية مشتركة، لا سيما في مجال السياسة الخارجية، ليس مجرد مسألة إجرائية، بل مشكلة هيكلية في السياق السياسي الشيعي. والأهم من ذلك، هو أن انعدام الرؤية المشتركة لا ينطبق على العلاقات مع الولايات المتحدة فحسب، بل على العلاقات مع الدول الإقليمية أيضًا.
ونظرًا لعدم اعترافهم بأهمية المشاركة الدولية المستدامة منذ البداية، فإن القوى الشيعية لم تعر اهتمامًا كبيرًا لمسألة تطوير الموارد البشرية المؤهلة والضرورية. فعلى سبيل المثال، كانت عملية فحص كفاءة المرشحين –التي تعتبر جزءًا أساسيًا من عمليات الترشيح للمناصب الحكومية، بما في ذلك منصب وزير الخارجية والسفراء وأعضاء لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان وغير ذلك– رمزية بدلاً من أن تكون قائمة على الكفاءة. ونتيجة لذلك، نجد أن الكثير من المسؤولين يقاربون مهامهم على أنها وسيلة لتعزيز مكانتهم الاجتماعية أو فرصة للسفر والتمتع بظروف معيشية أفضل. وعلى الرغم من وجود استثناءات لتلك المقاربة، إلا أنها محدودة.
بالتالي، فإن الكثير ممن يمتهنون السياسة الخارجية إما يفتقرون للاعتراف الدولي أو لا يمثلون عمق السياق الشيعي بشكل حقيقي، على الرغم من خلفيتهم الشيعية. ومن ناحية ثانية، هناك عامل إشكالي آخر يجب مراعاته وهو امتناع الكثير من المتخصصين في السياسة الخارجية عن الانخراط في ملف العلاقات مع الولايات المتحدة لتفادي أي مشاكل قد يواجهونها، كالاتهامات بالتجسس.
وقد أدى كل ذلك إلى سيطرة الجهات الفاعلة غير الشيعية على حقيبة الشؤون الخارجية. وفي مقدمة تلك الجهات الأكراد الذين لديهم فهم عميق لمحورية تلك الحقيبة بالنسبة لقضاياهم وطموحاتهم. وذلك يتناقض إلى حد كبير مع ثلاثة أنواع من القضايا المرتبطة بالأدوار التي تؤديها القوى الشيعية وهي: المقاربة القائمة على الشخصية، والاعتقاد أن الشؤون الخارجية تتمحور حول شخص شاغل المنصب لا سيما رئيس الوزراء، والافتقار للخبرة الدولية وعدم إتقان لغة ثانية أو مهارات التواصل اللازمة.
https://flo.uri.sh/visualisation/10125231/embed?auto=1
ما الذي ينبغي فعله؟
في ظل انعدام وجود بديل للمشاركة المستمرة مع الولايات المتحدة، يجب على القوى الشيعية بصفتها الأغلبية الحاكمة، أن تعطي الأولوية للعلاقات بين الدول. كما يجب أن يُبقوا في الاعتبار رؤية السلطة الدينية العليا في النجف حول قيام العراق ببناء علاقات مع دول الجوار والعالم ضمن إطار الدستور والقيم الاجتماعية، وبما يراعي مصالح العراقيين أولًا وقبل كل شيء.
بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة أساسية للمزيد من الانفتاح في مجال الحوار الفكري والسياسي الذي يجب أن تيسره النخب والمجموعات الاجتماعية. ويمكن أن تقوم مؤسسة شيعية غير حكومية، كمجلس العلاقات الدولية، بقيادة مثل هذا المسعى. وسيتعين على المجلس عندها أن يتولى مسؤولية بذل جهود جادة لتطوير موارد بشرية شيعية متخصصة في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة والشؤون الخارجية، ولقيادة مشاركة مستمرة بين النخب الشيعية والغربية.
الشيعة، العراق وإيران، مرجعية، الإطار التنسيقي الشيعي، الولايات المتحدة