ديسمبر 7, 2024
images (1)

الكاتب : فنر الحداد

يشير التعريف التقليدي لمصطلح “السياسة الشيعية” في العراق إلى الفصائل المركزة على الطائفة والإسلامويين الشيعة، لكن هذا التعريف بات اليوم يستثني كثيراً من العراقيين الشيعة الناشطين سياسياً، ولذا حان الوقت لوضع إطارٍ تحليليٍّ جديدٍ.

مثل جميع المصطلحات المرتبطة بأية مجموعة اجتماعية-دينية واسعة، فإن مصطلح “السياسة الشيعية” بطبيعته صعبٌ تعريفه. هل يشير هذا المصطلح إلى الهوية الطائفية لمن يتبناه؟ هل هو مرادفٌ للإسلاموية الشيعية؟ هل يجب أن تتحدث حركةٌ ما باسم “الشيعة” لكي تُصنَّف ضمن السياسة الشيعية؟ أم أن مصطلح السياسة الشيعية يشير إلى مجموعةٍ معينةٍ من الممارسات الخطابية، أي أحد أساليب الخطاب السياسي؟

وأياً كان تعريفه، فإن مصطلح “السياسة الشيعية” بحاجةٍ إلى مراجعةٍ وإعادة تعريفٍ، لا سيما في سياق العراق اليوم، نظراً للتطورات العديدة في تاريخ البلاد الحديث. على سبيل المثال، لم تعد الفكرة  الغامضة للحكم الشيعي مجرد تطلع، بل غدت حقيقةً واقعةً، فالفاعلون السياسيون المهيمنون في العراق هم من الشيعة، والأكثر من ذلك أنهم سياسيون مدفوعون بالطائفة. (يشير المصطلحان المركزون على الشيعة والمدفوعون بالطائفة إلى التركيز على الطائفة، ما يساعدنا في التمييز على نحوٍ أفضل، على سبيل المثال، بين السياسي الذي صادف أنه شيعيٌّ، والسياسي المركِّز على الشيعة). ولمّا أصبح الحُكم الشيعي حقيقةً واقعةً، لم يعد لزاماً عليه التعامل مع التهديدات الوجودية النابعة من الانقسامات الطائفية، كما كان الحال ذات مرةٍ بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. إن غياب هذه التهديدات يحد بطبيعة الحال من بروز السياسات الطائفية، ويثير التساؤل عموماً حول الغرض من التركيز على الهوية الطائفية في المشهد السياسي في العراق، وهي ظاهرةٌ ارتبطت تقليدياً ارتباطاً وثيقاً بمفهوم السياسة الشيعية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن صعود النخب الشيعية لم يُترجَم إلى أيٍّ نفع ماديٍّ لعامة العراقيين – شيعةً كانوا أم غيرَ شيعةٍ – باستثناء مَن تربطهم صلاتٌ بالنخبة الحاكمة. أدى الافتقار إلى مكاسبَ كهذه إلى تقويض أهمية المركزية الطائفية في المشهد السياسي العراقي. بعبارةٍ أخرى، خذَلَ أبطالُ ما يسمى بالسياسات الشيعية أنصارَهم المفترضين.

ونتيجةً لذلك يأتي التحدي الأساسي أمام هيمنة النخبة السياسية الشيعية اليوم من المجتمعات الشيعية، ألا وهو التفكك المتصاعد للنخبة الشيعية (والفصائل الإسلاموية الشيعية) من ناحيةٍ، والتعبئة الجماهيرية الشعبية (الشيعية بالدرجة الأولى) ضد الوضع الراهن من جهةٍ أخرى. كانت سياسات الهوية تحفز كثيراً من العراقيين ذات يومٍ، غير أن السمة السائدة في التعبئة السياسية التي نشهدها اليوم تستخدم لغة التغيير والإصلاح، بما يتماشى مع المطالب الشعبية بالحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية والوعد بحياةٍ أفضلَ.

تثير هذه التطورات التساؤل عما تعنيه السياسة الشيعية بالضبط: من يشملهم هذا المفهوم، ومن يستثني منهم؟ إن تعقيد المشهد السياسي الحالي في العراق يعني أن الإجابة عن هذه الأسئلة بعيدةٌ كل البعد عن الوضوح. وإن الانقسامات بين القلب والأطراف، والتنافس بين فصائل النخبة، وبين الجهات المتشبثة بالوضع الراهن ودعاة الإصلاح، تقدم تفسيراتٍ أوضحَ للمشهد السياسي في العراق مقارنةً بالأطر التي عفا عليها الزمن مثل الإسلاموية والسياسة الشيعية. يتطلب الاحتفاظ بمصطلح “السياسة الشيعية” على أقل تقديرٍ فهماً موسعاً يتجاوز الافتراضاتِ التقليديةَ التي تربطُ المصطلح بالإسلامويين الشيعة في المقام الأول وبالتركيز الضيق على السياسة الطائفية.

غالباً ما يتطلب التغييرُ السياسي العميق والمطوَّل والتحول من النوع الذي يشهده العراق إعادةَ تقييمٍ للمعتقدات الراسخة. على سبيل المثال ألهمت الانتفاضات العربية في عام 2011 كمّاً متعاظماً من الأدبيات التي تمعن النظر في كيفية فهمنا لمصطلحاتٍ كالإسلاموية في أعقاب تلك الانتفاضات، والأهم من ذلك إعادة التمعن على نحوٍ مماثلٍ في المشهد السياسي الشيعي في العراق، نظراً للتحولات الهيكلية والعميقة التي تكشفت منذ عام 2003.

تعريفاتٌ جديدةٌ

إن مصطلح “السياسة الشيعية” ليس استثناءً عندما يتعلق الأمر بالتحديات المحيطة بتعريفه، فالليبرالية والطائفية والإسلاموية وأي عددٍ من المفاهيم الأخرى تقبل بالمثل تعريفاتٍ متعددةً، وأثارت نقاشاتٍ وجدالاتٍ علميةً مكثفةً حول معانيها وتفسيراتها. وإن ما قد يميز مفهوم السياسة الشيعية (على الأقل في العراق) هو التحول العميق الذي فُرض على مكونات هذا المصطلح: الهوية الشيعية، والمركزية الطائفية، والاقتصاد السياسي للعراق، والعلاقات الطائفية، والإسلاموية الشيعية، وهذه جميعها طرأ عليها تحولٌ جذريٌّ على مدى العقدين الماضيين بطرقٍ تجعل كثيراً من افتراضاتنا افتراضاتٍ عفا عليها الزمن إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بمعنى السياسة الشيعية.

قد يكون مصطلح “السياسة الشيعية” أقل تعقيداً عندما كان يشير إلى حركةٍ معارِضةٍ ركّزت على حقوق الطائفة، غير أن هذا التأطير أصبح قديماً عقب صعود النخبة الشيعية واشتداد التنافس السياسي بين الفصائل الشيعية.

يواجه الفاعلون السياسيون المدفوعون بالطائفة صعوبةً متزايدةً في إقناع كتلةٍ كبيرةٍ من العراقيين الشيعة بفوائد ما يسمى بالحُكم الشيعي، والأهم من ذلك أنهم يواجهون صعوبةً في إقناع العراقيين بأن هذا الحُكم في وضعٍ محفوفٍ بالمخاطر، فعلى سبيل المثال في عام 2022 لم يعد ينطلي على أحدٍ أن بإمكان أيٍّ كان قمعُ الطقوس والمَسيرات الشيعية أو منعُ التعبير عن الهوية الشيعية.

وحالها حال المركزية الطائفية، غالباً ما يُفترض أن الإسلاموية الشيعية هي جوهر السياسة الشيعية، غير أن ذلك الافتراض، ونكرر هنا، لم يعد ممكناً. لقد غيّر عقدان من صعود الإسلاموية الشيعية من سياسات الإسلامويين الشيعة، والطريقة التي يُنظر بها إليهم من قبل عامة الشيعة. يمكن القول إن كثيراً من الشيعة العراقيين رأوا في هؤلاء الإسلامويين أبطالاً في الدفاع عن القضايا الشيعية في عام 2003، لكن عددا متزايدا من أنصارهم المفترضين راحوا اليوم يرون فيهم جزءاً من المشكلة. ولذا فإن حصر مفهوم السياسة الشيعية بالإسلامويين الشيعة من شأنه أن يستبعد شريحةً كبيرةً جداً من الشيعة العراقيين والفاعلين من السياسيين الشيعة. بعد ما يَقرب من عشرين عاماً في السلطة، من الصعب تحديد أية خاصيةٍ “إسلامويةٍ” واضحةٍ لدى الإسلامويين الشيعة في العراق، سواءً كان ذلك في سلوكهم السياسي، أو برامجهم السياسية، أو أجندتهم التشريعية، أو العوامل التي يفترض أنها تميزهم عن غير الإسلامويين.

انقساماتٌ أخرى

إن ديناميات المشهد السياسي في العراق اليوم تتأثر بانقساماتٍ تتجاوز التعارض بين الإسلامويين وغير الإسلامويين. وتشمل هذه الانقسامات التنافس داخل النخبة (الذي يطمس ثنائية الإسلامويين ضدّ غير الإسلامويين)، وبين المتشبثين بالوضع الراهن ودعاة الإصلاح والتغيير (من داخل النظام وخارجه). هذه بعضٌ من العوامل التي يجب أن تدفعنا إلى إعادة تقييم مفهوم السياسة الشيعية: ما الذي يشير إليه المفهومُ ومن يشمل.

تتبادر إلى الذهن فكرتان، ولا تُعدُّ أيٌّ منهما مُرضيةً. بلا شكٍّ ثمّة مجالٌ سياسيٌّ شيعيٌّ يتفاعل ويتداخل جزئياً مع المشهد السياسي الأوسع في العراق، وهذا هو ما يجب أن نسميه بالسياسة الشيعية بغض النظر عن المعتقدات الأيديولوجية أو المركزية الطائفية للفاعلين الفرديين. ففي نهاية المطاف أضحى المشهد السياسي الشيعي اليوم معقداً للغاية، ولا يتوافق مع الافتراضات التقليدية التي شكلت الأساس لفهمنا للسياسة الشيعية.

غير أن استخدام مصطلح “السياسة الشيعية” على هذا النحو يَحمل في طياته إمكانية التصنيف والربط الخاطئ لفصائلَ بتسمياتٍ طائفيةٍ قد لا تكون مناسبةً أو مبرَّرةً. من ناحيةٍ أخرى، ربما أدت التغييرات التي حدثت في العقدين الماضيين وتعقيد السياسة العراقية إلى جعل هذا المصطلح مصطلحاً عفى عليه الزمن. قد يكون الاستغناء عن المصطلح منطقياً، لا سيما بالنظر إلى أنه مصطلحٌ غربيٌّ وغير مشتقٍّ من مرادفٍ عراقيٍّ أو شرق أوسطيٍّ. نحن بحاجةٍ إلى إعادة تقييم معنى مفهوم السياسة الشيعية، وما إذا كان المصطلح لا يزال صالحاً أم لا، فاستخدامه الحالي يعتمد على افتراضاتٍ قديمةٍ، وإنّ فهْمنا الحالي لمعنى هذا المصطلح لم يواكبِ التحولاتِ الجذريةَ في العقدين الماضيين.

هذا التعليق هو نسخةٌ مختصرةٌ عن تقريرٍ لمركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان: الحُكم الشيعي حقيقةٌ في العراق. “السياسة الشيعية” بحاجةٍ إلى تعريفٍ جديدٍ. نُشر التقرير ضمن مشروعٍ أطلقته مؤسسة القرن بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023″، ويدرس التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا البحث في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة التقارير الأصلية باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *