ديسمبر 6, 2024
download (1)

الكاتب : علي المؤمن

   ١- خطورة السكون الفكري:

 الحاجة الى الشغب المعرفي أساسية وضرورية لتحريك السكون الفكري الذي يساوي الموت. ولا يعني السكون الفكري حالة استقرارٍ فكرية؛ لأن الاستقرار يعبر عن حالة إيجابية، وهو شبيه بالاطمئنان الفكري؛ بل لا يلغي الاستقرار الفكري الحراك في إطاره، أي أن الحراك الفكري الإبداعي التجديدي غير ممكن في إطار السكون، لكنه ممكن في حالتي الاستقرار والاطمئنان. بينما يمثل السكون الفكري حالة سلبية خطيرة، فهو يعني توقف النمو المعرفي، والإصرار على استهلاك المعرفة الموروثة وإعادة تدويرها، برغم تراكم المتغيرات الزمانية وضغوطاتها الشاملة، والتي ينبغي أن يتبعها تحولاً معرفياً متسقاً، بل تحولاً استباقياً غالباً.

أما الأخطر من السكون الفكري البسيط فهو السكون الفكري المركب، أي الجمود في إطار حالة استقرار متخيّلة، سواء كان جموداً بدافع تخيّل وجود مصلحة عليا في الجمود، أو جموداً بدافع تخيّل حصول استقرار حقيقي؛ بينما هو استقرار زائف ومضر. وعند هذا اللون المركب من السكون الفكري يكمن تحديداً الموت المعرفي للأمم والشعوب.

2– ضرورة الشغب المعرفي:

للحيلولة دون الموت المعرفي الذي يتسبب في انهيار الأمم والشعوب وتراجعها قياساً بسرعة حركة الزمن؛ ينبغي كسر الصمت وتحطيم الجمود، وتحريك الراكد الفكري بطريقة ثورية. وهذه الحالة يمكن تسميتها بــ ((الشغب المعرفي))، والذي ينفتح على كل أنواع المعرفة الإنسانية ومناهجها، بدءاً بالمعارف الدينية والاجتماعية والأنثروبولوجية، وانتهاءً بالمعارف العقلية والتجريبية والتطبيقية.

   ولتحديد مفهوم الشغب المعرفي المطلوب، ينبغي التأكيد على وجود منهجين متعارضين، إيجابي وسلبي، من الشغب المعرفي:

    الأول: الشغب المعرفي الإيجابي المنتج، الذي يتمثل في إثارة الأسئلة المشاغبة غير المألوفة الجادة، وإن كانت بمنهجية صادمة حادة، وطرح فرضيات غير نهائية، ثم استنتاجات مبدئية غير نمطية، بهدف استفزاز الساحة المعرفية، وإثارتها، ودفعها عنوة باتجاه الحراك السريع المركّز؛ سواء دفاعاً عن نفسها أو محاولةً لمعرفة ماهية الأسئلة واستنطاقها أو إعجاباً وتماهياً وانبهاراً.

     هذا الشغب الإيجابي يعني العبث المعرفي الهادف العميق، والفوضى الفكرية المقصودة. ونقول هادفاً ومقصوداً؛ لأنه يدفع من يجد نفسه حاضراً في دائرة الشغب والعبث والفوضى، سواء كان حضوراً جغرافيّاَ أو حضوراً معرفيّاً؛ يدفعه نحو المراجعة والتفكير والتأمل والبحث والتحقيق، والتنافس المعرفي الوجودي الفكري، لإيجاد الإجابات والردود والتكييفات، وصولاً الى الإنتاج الإبداعي المعرفي الجديد، غير النمطي وغير التقليدي، والذي ينسجم مع متطلبات الزمان والمكان، ويستبق الوقائع. وبالتالي؛ فإن من يقوم بهذا الدور؛ إنما يدفع عن وجوده وفكره ومعتقده أعراض التقهقر والانحطاط والموت.

    الثاني: الشغب المعرفي السلبي غير المنتج، وهو الشغب الجدلي السوفسطائي، والحفر العشوائي، والأسئلة الاستعراضية الفارغة، والعبث المعرفي غير الهادف. هذا الشغب السلبي يشوش الأذهان والأفكار، ويمزق نسيج المجتمع، ويغيِّب بوصلته الفكرية والعقدية قسراً، ويجعله في حالة تيه على كل الصعد. أي أن الشغب المعرفي السلبي الفوضوي العبثي، لا يحفز الفكر تحفيزاً إيجابياً، ولا يدفع نحو التأمل والبحث والمراجعة والإنتاج الإبداعي؛ بل يدفع باتجاه المناكفات والصراعات والعناد والتفكير السلبي وتدوير الموضوعات الجدلية. وهو ما يعني أن الشغب المعرفي السلبي يعجل من انحطاط الشعوب وموتها معرفياً.

    وبالتالي؛ فإن وجود المنهجين السلبي والإيجابي في معادلة الشغب الفكري؛ يؤكد أن الشغب الفكري سيف ذو حدين؛ فهو إما يساهم في إعادة الحياة للأمم ويرفعها، أو يساهم في تخلّفها ودمارها. ولذلك؛ ينبغي التأكيد على اشتراط الحكمة العميقة والدقة الفائقة والتخصص ووعي متطلبات الزمان والمكان عند ممارسة الشغب الفكري؛ كيلا يتحول إلى انحراف وفتنة وتيه، سواء على المستوى الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو العلمي.

   3- مآلات الشغب الفكري الإيجابي:

   إن النظريات الرفيعة والاختراعات العظيمة والاكتشافات الكبرى، بدأت غالباً بشغب معرفي إيجابي، ومغامرة ثورية معرفية هادفة، وحلم يقظة منظم، أي أنها ــ غالباً ــ ليست نتاجات عمل معرفي تقليدي نمطي؛ لأن الأعمال التقليدية تكون نتاجاتها تقليدية أيضاً، وإن كان بعضها نتاجاً مهماً، أما النتاجات الثورية الخالدة فهي بنت الشغب المعرفي الهادف.

    ويمكن القول إن الأوساط الإسلامية، بغالبية توصيفاتها، تسيطر عليها حالة السكون المعرفي أو الشغب المعرفي السلبي غير المنتج.

فهي ــ مثلاً ــ في خطاب النهضة والتنمية والحكم؛ إما أنها تحاول تجاوز مرجعية الدين وثوابته، في محاولة عبثية للتشبه بالخارجي المتفوق المهيمن، أو أنها تغلق أبواب القراءات والاجتهادات النهضوية التنموية، بدعوى التمسك بالثوابت. لذلك؛ نرى ندرةً في الإنتاج الإبداعي في هذه الأوساط على كل الصعد، ووفرة في الصراعات والمناكفات والاستعراضات المعرفية السطحية. ولا توجد ثمة مرجعية مطلقة في الحراك المعرفي هنا، سوى النصوص المقدسة والقوانين التجريبية الثابتة. وهذا يعني أن الشغب المعرفي حتى في وجهه الإيجابي ينبغي ألّا يتجاوز المقدس والثابت الديني.                                                       

   4- النفاق الفكري الغربي:

   الحديث عن المرجعية المعيارية أو الإطار المصدري الذي يتحرك الشغب المعرفي في أجوائه، يقود الى الحديث عن الأهمية الوجودية الاستراتيجية للمصدرية المعرفية، ولا سيما في مجالات الفلسفة الكونية والفكر الإنساني والإجتماعي والديني؛ فمما لا شك فيه أن جميع المذاهب الفكرية الأساسية في العالم لها مرجعية معيارية تمثل القواعد العامة التي يستند اليها المذهب ومحدداته الفكرية ومصادر معرفته الحاكمة.

    لكن؛ الملفت للنظر أن المذاهب والفلسفات الفكرية والاجتماعية الوضعية، وفي مقدمتها التجريبية والعقلانية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية، تمارس نفاقاً فكرياً ناعماً؛ فهي تزعم أنها متحررة من أية مرجعية معيارية، وتطالب أتباع الدين بالتحرر أيضاً من مرجعياتهم وثوابتهم ومصادرهم أسوة بها، واحتراماً لقدرات العقل البشري، وضرورة إطلاقه دون أية قيود وقبليات مرجعية، والسماح للفوضى الفكرية والعبثية، والشغب المعرفي، إيجابياً كان أو سلبياً، باقتحام الواقع الفكري والديني، وإنتاج الأفكار والتصورات الجديدة، وإن كانت تتعارض مع الثوابت الإنسانية والأخلاقية والدينية.

   وفي الوقت نفسه؛ فإن هذه المذاهب الفلفسية والاجتماعية الوضعية الغربية، التي تدّعي أنها حرة وغير ايديولوجية في مساراتها النظرية ومخرجات حراكها، وليست لها مرجعيات؛ فإنها تخضع لأكثر المرجعيات المعيارية ضغطاً وتعسفاً؛ بل أن مرجعيات الليبرالية ـ مثلاً ـ في الفكر الاقتصادي والفكر السياسي والفكر الاجتماعي، باتت آلهة مقدسة معصومة تفتك وتقمع وتقصي وتمارس أبشع صنوف الإرهاب ضد من يخالفها في الفكر والممارسة، برغم أنها أفكار بشرية، وهو أبشع ألوان النفاق الفكري والتناقض في البنى المؤسِّسة؛ إذ تبقى مقولات حرية الفكر وديمقراطية الرأي التي تتبجح بها؛ مجرد ورقة توت تتستّر بها؛ لكنها تسقط في كل اختبار.

    أما الدين؛ فإن مرجعيته المعيارية الإلهية بديهية، ولا بد منها؛ إذ لولاها لما كان الدين ديناً، ولأصبح اسمه شيئا آخر، كما حصل مع كثير من الانشقاقات عن الأصول الدينية، والتي تحولت بالتدريج الى مذاهب فكرية وضعية لا علاقة لها بفلسفة الدين ومعايير تعريفه.

   5- النتائج:

   من خلال ما سبق؛ نخلص إلى ثلاث نتائج:

   أ- لا معنى للدين بدون مرجعية معيارية ثابتة، وهي المرجعية الإلهية بالنسبة للأديان الإلهية التوحيدية، والتي تستند إلى مبادئ الغيب والوحي والفطرة.

    ب- لا صحة لمزاعم المذاهب الفلسفية والاجتماعية الوضعية الغربية بأنها متحررة من كل أنواع المرجعيات المعيارية؛ فكل تفاعلاتها الفكرية والواقعية ومآلات هذه التفاعلات؛ تخضع لمرجعيات معيارية صنمية في حقيقتها، وإن حاولت التمظهر بالتخلص من شرنقتها، أي التخلص الشكلي.

   ت- إن ما تقوم به المذاهب الوضعية الغربية من محاولات لإقناع الأوساط الدينية والفكرية والعلمية في بلاد المسلمين، للتخلص من المرجعية المعيارية ومن تقديس النصوص والثوابت، واعتماد المناهج والأدوات الوضعية في تفسير النص الديني والموروث الفكري الإسلامي؛ إنما هي محاولات تخريبية مقصودة، لتمكين الشغب المعرفي السلبي من الهيمنة على الساحة الدينية والفكرية في بلاد المسلمين، بهدف حرفها وتمزيقها، لصالح تكريس حضور الفكر الوضعي الغربي في هذه الساحة. وهذا هو النفاق الفكري بكل معاييره.

    بل إن المذاهب الوضعية نفسها، إذا ما تجاوزت مرجعياتها المعيارية؛ فإنها ستتبخر وجودياً. نعم؛ هي متحررة في قراءة مصادرها وتفسيرها لهذه المصادر، وفي إصلاح فكرها وتجديده؛ لكنها ليست حرة في تجاوز مرجعياتها. وبالتالي؛ يتكرس نفاق المذاهب الوضعية ومفكريها وساستها حين يطالبون أتباع الدين بالتحرر من مرجعيتهم وتجاوز ثوابتهم. ولكن؛ في الوقت نفسه، تجد هذه المذاهب الفلسفية والاجتماعية مستعدة لشن أشرس الحروب الفكرية والدعائية ضد أية قراءة واجتهاد يتجاوزان مرجعيتها وثوابتها، وإن كان اجتهاداً من الداخل الفكري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *