ديسمبر 26, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

(بمناسبة مرور مائة عام على ثورة العشرين 1920 – 2020)
احتوى القسم الثاني من الجزء الخامس من كتاب الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) والمخصص عن ثورة العشرين على عشرة فصول وخاتمة وستة ملاحق متنوعة . وهذا القسم يتناول تداعيات انتقال الثورة من الفرات الاوسط الى المناطق الاخرى مثل ديالى وبغداد والمناطق الكردية والمنتفق . كما يستعرض نهاية الثورة واستسلام المناطق الثائرة وتاثيرات الثورة ونتائجها الاجتماعية . وسنقوم بعرض فصول هذا القسم بصورة مختصرة على اعتبار ان الثورة واسبابها ومعاركها واحداثها المهمة قد ادرجت بالقسم الاول من هذا الجزء .
حمل الفصل الاول عنوان طالب النقيب في بغداد . وطالب النقيب هو الشخصية المتنفذة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في البصرة في الربع الاول من القرن العشرين . وقد يكون اهم شخصية بصرية خلال هذه المرحلة , فقد كان له دورا سياسيا كبيرا خاصة بعد ثورة الاتحاديين والانقلاب العثماني عام 1908 ,وساهم بتاسيس (جمعية البصرة الاصلاحية) . وقد استدعى ويلسون الحاكم السياسي العام طالب النقيب الى بغداد في تموز 1920 من اجل الاستفادة منه في تهدئىة الوضع في العراق , فوصل الى يغداد ونزل في دار الخضيري قرب الباب الشرقي ,والتقى برجال الحركة الوطنية في بغداد امثال السيد محمد الصدر ويوسف السويدي , ونفذ المهمة المطلوبة منه في استعراض قوة بريطانيا وحتمية فشل مواجهتها والثورة عليها , الا ان المس بيل ذكرت في احدى رسائلها انه كان يبالغ في حديثه من اجل اثبات اخلاصه للانكليز .
بعد اعلان الانتداب البريطاني على العراق في نيسان 1920 ابرقت الحكومة البريطانية الى السير برسي كوكس في حزيران بتعينه مندوبا ساميا , وانه يجب ان يغادر عمله في طهران وياتي الى لندن للتشاور معه . وغادر كوكس ايران ووصل للعراق , وبقى في بغداد يومين , واشترك مع ويلسون في اعداد بيان رسمي عن تاسيس دولة مستقلة في العراق خاضعة للانتداب البريطاني تحت رعاية عصبة الامم . وغادر مع زوجته الى لندن عن طريق البحر .
اراد ويلسون اعتقال زعماء الحركة الوطنية في بغداد وهم محمد جعفر ابو التمن واحمد الشيخ داود وعلي البازركان ويوسف السويدي , الا انهم استطاعوا الهرب – عدا احمد الشيخ داود – الذي اعتقل في داره قرب شارع المتنبي . واما السيد محمد الصدر في الكاظمية فان اهل المنطقة لم يوافقوا على اعتقاله , واستطاع الهرب الى اليوسفية ثم الى كربلاء . كما ذكر الوردي في هذا الفصل اعدام عبد المجيد كنه واستفحال شخصية طالب النقيب في بغداد , ومغادرة الحاكم السياسي العام ويلسون بغداد في ايلول 1920 .
اهتم الفصل الثاني باستعراض احداث الثورة في ديالى . وذكر الوردي ان لديالى اهمية خاصة عند الانكليز لسببين : الاول : انها الخط الواصل بين بغداد وايران والثاني : قربها من بغداد وتاثيرها المباشر على العاصمة . وبين ان هناك عدد من الافراد اخذوا يحرضون على الانكليز في ديالى , واهمهم السيد حبيب العيدروسي ومحمود افندي المتولي والسيد صالح الحلي والشيخ حبيب الخالصي وحبيب الخيزران ومحمد ابو خشيم . وكانت اول بوادر الثورة قد حصلت في ديالى في اب 1920 حيث هاجمت عشيرة (الكرخية) دائرة المالية ومحطة القطار , وتحركت قوة من الانكليز بقيادة الجنرال (يانغ) لمواجهتها , فوصلت بعقوبة , الا انهم واجهوا اشكالات ادت الى انسحاب الانكليز من بعقوبة , الامر الذي ادى الى انتشار الثورة الى العشائر الاخرى , ووقوع حالات من السلب والنهب في بعقوبة . كما اندلعت الثورة (بدلتاوة) – التي تسمى الان بالخالص – في اب 1920 حيث هاجمت عشيرة (الكبيشات) المدينة وسيطروا على السراي الحكومي , ورفعوا العلم العربي فوقه . كما تمددت الثورة الى (شهربان) – التي تسمى المقدادية حاليا – الا ان الاحتفال بتحرير هذه المدن لم يستمر طويلا , فقد استعاد الانكليز بعقوبة وشهربان في بداية شهر اب ثم دلتاواة في ايلول . وادرج الوردي دور السيد محمد الصدر في الثورة في ديالى ودور ابراهيم ابن عبدكة في الاحداث التي حصلت .
اختص الفصل الثالث في بيان احداث ثورة العشرين في المناطق الكردية . حيث ذكر الوردي ان الاكراد سبق ان قاموا بثورة بقيادة محمود الحفيد عام 1919 , الذي سيطر على مناطق كثيرة , واعلن نفسه حاكما لكردستان , وانشا حكومة برئاسته , الا ان الانكليز سرعان ماقضوا عليها ونفوا الحفيد الى الهند . وعندما اندلعت ثورة العشرين في الفرات الاوسط لم تتاثر مناطق الاكراد بها سوى القريبة من ديالى , وذلك لانها استنفدت طاقتها الثورية في السنة السابقة . وكانت المناطق التي شاركت بالثورة هى خانقين وقزلرباط وكفري .
اهتم الفصل الرابع بالاحداث التي حصلت عند عشيرة زوبع . وزوبع هى عشيرة تقطن بين بغداد والفلوجة , وقد اختار الانكليز عقب احتلالهم بغداد عام 1917 الشيخ ضاري المحمود كشيخ عموم لعشيرة زوبع , وخصصوا له راتبا شهريا قدره (750) روبية , واستمروا بالدفع له حتى عام 1918 , ثم انقطع الراتب فجأة . وبعد اندلاع ثورة العشرين اعادوا له دفع الراتب ولكنه (500) روبية فقط . في هذا الوقت عين على الرمادي الكولونيل ليجمن الذي عرف عنه التهور وسرعة الغضب , وكان لايتردد في اهانة الشيخ ضاري حتى انه خاطبه ذات مرة بالشيخ (ضارط)!! كما طرده ذات مره من صدر المجلس في احدى المناسبات امام الشيوخ . وبعد انتصار الثوار في معركة الرارنجية في تموز 1920 ارسلوا مندوبا الى شيوخ الفلوجة وهو يحمل فتوى الشيرازي وكتابا للشهرستاني يحثهم على الجهاد , ولبى الدعوة بعض الشيوخ واصبحت بغداد مهددة من الغرب , وكان ممن لبى الدعوة الشيخ ضاري المحمود الذي ارسل جماعة لقطع الطريق بين بغداد والفلوجة ونهب المسافرين , والظاهر ان العشائر البدوية كانت تعتبر قطع الطريق هو من اول اعمال الثورة واهمها , وقد اتهمه لجمن بانه وراء تلك الحركات ووجه له اهانات متتالية , ادت بالشيخ ضاري الى الطلب من ابنه سليمان بقتله . وقد اكد الوردي ان حادثة السلب كانت السبب المباشر لمقتل ليجمن , كما ان بعض العشائر قد تشجعت على الثورة بعد مقتل لجمن , واخذ ضاري المحمود يحريض العشائر على المشاركة بالثورة , وخاصة منهم رؤساء عشائر الجميلة الذين هاجموا بعض البواخر , وقد اقاربت الثورة على الانتصار والسيطرة على الرمادي , الا ان شيخ الدليم علي السليمان حال دون , فقد طلب من ضاري المحمود ترك المنطقة وقتال الانكليز بعيدا عن المنطقة , مما اضطره الى القدوم الى كربلاء ثم النجف ثم الاختفاء في البادية متنقلا بين القبائل حتى القاء القبض عليه عام 1927 .
هذا باختصار الاحداث التي ادت الى مقتل الحاكم السياسي لجمن ودور الشيخ ضاري المحمود في ثورة العشرين الذي لم يكن ليحصل لولا الاهانات والاتهامات التي تعرض لها من قبل لجمن , ولكن في عقد الستينات تولى رئاسة العراق الاخوين عبد السلام عارف (1963-1966) وعبد الرحمن عارف (1966-1968) ويقال ان خالهما هو الشيخ ضاري الزوبعي او من زعماء عشيرتهما , فارادا خلق تاريخ لهم ولاسرتهم من جانب ولطائفتهم من جانب اخر , من خلال تكليف الكاتبين عبد الحميد العلوجي وعزيز جاسم الحجية باختلاق الاساطير والمباغلت عن دور الشيخ ضاري بثورة العشرين وجمعها في كتاب (الشيخ ضاري آل محمود، رئيس قبيلة زوبع قاتل الكولونيل لجمن في خان النقطة) , الا انها بالطبع لم تنطلي على الباحثين والمختصين , فالمؤلفات التي كتبت غن ثورة العشرين وصل عددها الى العشرات , ولاشي يمكن تلفيقه او اضافته . وكان اول من فضح هذا الكتاب هو المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني الذي اكد تلك الحادثة بالقول (وقد حدث انقلاب عسكري في العراق في 14 تموز 1958؛ اطاح بنظام الحكم الملكي القائم؛ وأعلن النظام الجمهوري. وكان العقيد عبد السلام محمد عارف؛ أحد مدبري هذا الانقلاب؛ واحد أقارب الشيخ ضاري المحمود. فلما تسلم رئاسة الجمهورية العراقية في حادثة 8 شباط 1963 م؛ عمل عملا متواصلا على إحياء ذكرى الشيخ ضاري؛ واقام مسجدا فخما خاصا له؛ ومدارس ضخمة لأبناء قبيلته؛ وصدر كتاب باسم (الشيخ ضاري) لأستاذين هما عبد الحميد العلوجي وعزيز الحجية ملئ بالمبالغات) . وبعد تولي صدام حسين السلطة اعاد بعث اسطورة الشيخ ضاري المحمود من جديد , ولكن هذه المرة ليس لدوافع عشائرية مثل الاخوين عارف , وانما لدوافع طائفية ومناطقية , حيث اراد ابعاد ثورة العشرين واحداثها عن الشيعة والفرات الاوسط وتحويلها للسنة والمنطقة الغربية , فعمل عام 1982 على تكليف وزارة الثقافة والاعلام على صناعة فلم يختص بثورة العشرين اسمه (المسالة الكبرى) الا ان المفاجاة التي ظهرت للعراقيين ان الفلم لم يذكر الواقع الحقيقية عن مكان الثورة ورجالها وقادتها واحداثها , وانما ذكر قصة الشيخ ضاري المحمود مع اضافة بعض الاكاذيب والاساطير عليها , واعتبرها هى ثورة العشرين . الامر الذي اثار نقمة الفراتيين بخاصة والعراقيين بعامة , فعبر عن ذلك احد الافراد من اهالي السماوة شعرا بالقول :
(لون شعلان يدري أنباكت الثوره
جا شك التراب وطلع من كبره
موش بحان ضاري المسألة الكبره
اهنا بالسوير المسأله الكبره
( الشاهد هذا الشاهد ، ذوله أيتام من العشرين )
واما الفصل الخامس الخاص بالثورة بالمنتفق , فقد بدا الوردي باستعراض الوضع الاجتماعي العشائري فيها , وذكر ان لواء المنتفق – الذي يسمى الان محافظة ذي قار – يضم عشائر قوية , قدر حملة البنادق فيها بعشرين الف , ولكن الاشكال فيها انهم مختلفين ومتنازعين . فقد وصفهم الشيخ خيون العبيد بانهم (قد انهكهم النزاع بينهم وبين ال سعدون وبينهم وبين الحكومة العثمانية وبينهم وبين الانكليز) , واتهم ال سعدون والعثمانين باغواء بعضهم واستعمالهم لمحاربة البعض الاخر .
كان لدعاة الثورة في المنتفق كالشيخ عبد الحسين مطر وعبد الكريم السبتي في الناصرية والحاج على الدبوس وال حيدر في سوق الشيوخ والسيد عبد المهدي المنتفجي وال الشعرباف والخللي وال الطحان في الشطرة والشيخ حسن دخيل في قلعة سكر دور كبير في التحريض عليها. ويبدو ان قيادة الثورة قد عرفت طبيعة النزاع بين العشائر في المنتفق , فارسلت لهم رسائل تدعو الى التوحد , اهمها رسالة الشيرازي للشيخ موحان الخير الله رئيس عشيرة لشويلات وال حميد .
كانت الشطرة اهم بلدة بالمنتفق بعد الناصرية , بل هى اهم من الناصرية من حيث قوتها العشائرية , ونتيجة لذاك اختير لها (برترام توماس) كمعاون للحاكم السياسي , وكان يتقن العربية وله خبرة بجغرافية المنطقة وخاصة الجزيرة العربية . وكان اول اعماله هى مد الجسور والعلاقة مع الشيخ خيون العبيد صاحب اكبر عشيرة بالشطرة . وكان سبب اعتبار الانكليز للشطرة كمنطقة مهمة جدا , هو الخشية من ان اندلاع الثورة فيها قد يتمدد الى جميع مناطق نهر دجلة, الامر الذي يهدد طرق الامداد البصرة .
واما قلعة سكر فهى اول بلدة بالمنتفق ظهرت فيها بوادر التحفز للثورة , وذلك منتصف تموز 1920 حيث قطعت العشائر خطوط الهاتف الممتدة بين الشطرة وقلعة سكر . كما نصبوا كمينا للحاكم السياسي الكابتن (كراوفورد) الذي نجى منه باعجوبة , الامر الذي اضطره الى الانسحاب من قلعة سكر الى الناصرية . فسيطر الاهالي على السراي الحكومي وانزلوا العلم البريطاني . وعلى اثر تلك الاحداث اجتمع عدد من رؤساء العشائر في موضع يقع جنوب مدينة الرفاعي يسمى (المصيفي) وكتبوا ميثاقا للثورة تضمن المواد الاتية :
1 . المطالبة باستقلال العراق وانتخاب الامير عبد الله ملكا للعراق .
2 . المحافظة على مؤسسات الدولة الحكومية .
3 . اتباع ما يامر به العلماء المجتهدون .
4 . تتعهد كل قبيلة بمحافظة الطرق الذي يخترق حدودها .
5 . تاليف هيئة محلية في كل بلد يحتلها الثوار تكون مهمتها المحافظة على الامن .
وقد ازداد التوتر في الشطرة بعد انسحاب الانكليز من قلعة سكر وانعقاد مؤتمر المصيفي , واخذت تحصل تظاهرات ليلية في الشارع القريب لمقر (برترام توماس) واخذت العشائر تقطع خطوط الهاتف بين الشطرة والناصرية , واصبح موقفه حرجا جدا , الا ان الشيخ خيون العبيد ضمن له عدم التجاوز ما دام هو موجودا بالشطرة . وقد وصل التوتر الى ذروته بعد وصول الشيخ محمود الخليلي من قبل الشيخ المرجع فتح الله الاصفهاني , فقد خرج الاهالي لاستقباله ونظمت التظاهرات الكبيرة وهى تحمل الرايات امام مقر توماس , عندها ادرك ان الخطر حقيقي وايامه معدودة , فطلب ارسال طائرة لنقله للناصرية في نهاية اب 1920 . وفعلا وصلت الطائرة للشطرة وانسحب توماس وسقطت المدينة بيد الثوار الذين انزلوا العلم البريطاني . وقد اختلف الروايات حول السبب الحقيقي في اتخاذ الشيخ خيون هذا الموقف المتهاون , فقد ارجعه فريق المزهر الفرعون في كتابه (الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920) وعبد الله الفياض في كتابه (الثورة العراقية الكبرى سنة 1920) الى تاثيرات الشيخ علي الشرقي عليه , الذي وصفوه بمستشار الشيخ خيون العبيد , وقد نفى الشرقي تاثيره على الشيخ خيون , او الطلب منه هذا الموقف المهادن . فيما ان الشيخ خيون نفسه برر عمله بالخشية من عودة حكم ال سعدون الذي كان يظلم العشائر العراقية بالجنوب .
واما احداث الثورة في سوق الشيوخ . فقد وصل اليها عبد الكرم السبتي من الناصرية واخذ يحرض على الثورة . كما وصل اليها الشيخ عبد الحسن مطر وهو يحمل رسالة الشيخ الاصفهاني الموجهة لشيوخ العشائر يحثهم على الجهاد , فنزل في ضيافة الشيخ محمد حسن حيدر , وازداد التوتر في مدينة سوق الشيوخ بسبب ذلك التحريض وتلك الفتاوي , وادرك الحاكم السياسي (بلاتس) ان محاولة السيطرة على الوضع مستحيلة , فركب باخرة حربية وانسحب منها , ولم تحصل في مدينة سوق الشيوخ اي عمليات نهب او سلب وتدمير مثلما حصل في المدن الاخرى بسبب تمكن الشيخ حيدر من السيطرة على الامور .
لم تبقى من المدن في المنتفق سوى الناصرية لم ينسحب منها الانكليز , رغم وجود حامية صغيرة مؤلفة من ثلاث فصائل من الجنود الهنود . وكان بمقدور العشائر مهاجمتها والاستيلاء عليها بسهولة , ولكنها لم تفعل ذلك بسبب تخاذل عشائر ال ازيرج والحسينات من الهجوم عليها , رغم سماحهم للعشائر الاخرى من بني ركاب وغيرها باتخاذ اراضيهم للهجوم والغارات على الناصرية..
اقتصر الفصل السادس على عرض الاحداث المتفرقة التي حصلت خلال ثورة العشرين , منها الثورة في (شفاثة) – وهى عين تمر حاليا – وهى منطقة تقع على بعد (58) كيلومتر غرب كربلاء . وقد هجم الثوار يوم (31) تموزعلى السراي الحكومي واستولوا عليه , الا انها استسلمت للانكليز بعد استسلام كربلاء في تشرين الاول 1920 . واما مدينة مندلي القريبة من الحدود العراقية الايرانية في ديالى , فقد ارادت العشائر القريبة منها الهجوم عليها , الا ان اهل البلدة رفضوا ذلك خوفا من عمليات النهب والسلب , فاخذوا يحرسون االمدينة , وقد تنازل حاكم البلدة الهندي عن السلطة , وانزل الرؤساء العلم البريطاني من السراي , وتسلموا محتويات الخزينة وشكلوا ادارة مؤقتة للمدينة , الا ان ذلك لم يستمر طويلا , ففي تشرين الثاني قدمت قوة انكليزية الى البلدة , واستسلمت الحكومة المؤقتة للانكليز بهدوء .
واما سامراء فقد تعرضت لهجوم عام شاركت فيه الكثير من العشائر القريبة , ويقال السيد محمد الصدر كان يقود الهجوم بنفسه , وكانت البدة محاطة بسور متين وفيها الحاكم السياسي الميجر (بري) وعدد من الجنود البريطانيين , وقد صمم رؤساء سامراء على حماية الحاكم والجنود بدعوى (دخالتهم) , ولم تتمكن العشائر من دخول المدينة واكتفوا بحصارها فقط , الا ان الانكليز تمكنوا من فك الحصار في نهاية شهر اب 1920 من خلال قدوم قوة عسكرية من الشرقاط , فلاذت العشائر بالفرار .
اهتم الفصل السابع باستعراض الاحداث التي ادت الى نهاية الثورة . وكان اول عمل قام به الانكليز هو (الدعاية) . فقد نشرت جريدة (العراق) في ايلول 1920 بيانا من الحكومة البريطانية اعلنت فيه تعيين السير برسي كوكس مندوبا ساميا للعراق , وانه سيصل قريبا لتاسيس حكومة عربية . وفعلا وصل كوكس في تشرين الاول من هذا العام , وظهرت بوادر التفاؤل عند المحايدين والوطنيين على حد سواء .
عملت الحكومة البريطانية على القيام بحملات عسكرية للسيطرة على المناطق التي حررها الثوار , وبدات بمدينة طويريج التي سيطروا عليها في شهر تشرين الاول , الامر الذي ادى الى قيام احد الرؤساء وهو (فخري كمونة) بالسيطرة على كربلاء التي ارادت الاستسلام . وقد هرب اللاجئين الوطنيين من اهل بغداد الى خارج المدينة واهمهم جعفر ابو التمن وعلي البازركان ويوسف السويدي . ثم سيطرت بعدها القوات البريطانية على الكوفة التي دخلت اليها في يوم 17 تشرين الاول , ثم استسلمت مدينة النجف في اليوم التالي بعد ان اطلقوا سراح الاسرى الانكليز , الامر الذي زعزع معنويات الثوار الاخرين في ابو صخير والمشخاب والشامية وغيرها , نتج عنه استسلام العديد من الشيوخ واهمهم عبد الواحد سكر والعديد من زعماء ال فرعون , ثم تطورت الامور الى سقوط المنطقة التي انطلقت منها الثورة وهى السماوة , التي دخلتها القوات البريطانية في يوم 14 تشرين الاول بعد انسحاب المقاتلين والعشائر .
استعرض الوردي في الفصل الثامن ظاهرة استفحال البداوة في منطقة الفرات الاعلى التي تسكنها قبائل الدليم وشمر , وبين ان هذه الظاهرة ترجع الى موقعها الجغرافي والبعيد عن مركز الحكومة واحاطتها بالصحراء من كل جانب , وتكمن اهميتها بانها الطريق الرئيسي للسفر والتنقل بين العراق وسوريا . وقد ازداد العداء خلال مراحل الثورة بين مدينتي راوة وعانة , بسبب انشغال الحكومة بالمعارك , فانتعشت الاحقاد القديمة والثار وغيرها , وقد بذل علي السليمان شيخ الدليم جهودا كبيرة للاصلاح بين الفريقين , كما تدخلت الحكومة بهذا الشان ايضا , ادت في الاخير الى انتهاء الازمة بين الطرفين .
واما الفصل التاسع فقد خصص لبيان مصائر رجال الثورة الفاعلين من الشيوخ والوجهاء والوطنيين . فقد بين الوردي ان الاغلبية من الذين سلموا انفسهم – او القى القبض عليهم – قد اودعوا في سجن الحلة وعددهم (33) فردا , انقسموا الى وجهاء المدن وشيوخ العشائر وابرزهم هبة الدين الشهرستاني وحسين القزويني وعبد الوهاب الوهاب وسلمان البراك وعمران الحاج سعدون وعبد الواحد سكر وعلوان الشلال وغيرهم . واما البغداديين اللاجئين اثناء الثورة في الفرات الاوسط , فتنقلوا بين مناطق النجف وابو صخير , ثم انتهى الامر ببعضهم الى البصرة والاخر الى الحجاز والقليل منهم هرب الى بلاد الشام . واما سادة ووجهاء الفرات الاوسط البارزين , فقد قرروا الذهاب للحجاز واهمهم نور الياسري وعلوان الياسري ومحسن ابو طبيخ وهادي المكوطر ورايح العطية ومرزوق العواد , وانضم اليهم جعفر ابو التمن ومحمود رامز وامين المدفعي وغيرهم , وقد وصلوا الى حائل فرحب بهم اميرها عبد الله بن رشيد , ثم توجهوا للحجاز وحلوا ضيوفا عند الشريف حسين بن علي في مكة , وبقوا هناك حتى عادوا بمعية الامير فيصل الاول في اول قدومه للعراق وتعينه ملكا في شهر اب 1921 .
اما الفصل العاشر والاخير , فقد خصص لنتائج وافرازات ثورة العشرين وما اعقبها من احداث انتقامية للمعارضين ومكافئة المقربين والداعمين للانكليز ايام الثورة وخاصة شيوخ العشائر . فقد بين الوردي ان الكثير من الضباط البريطانيين اخذوا يحملون حقدا شديدا على الثوار بدعوى القسوة في قتل جنودهم وضباطهم , فعملوا على الانتقام من المناطق الثائرة بحرق القرى وتدميرها , فيما عمدوا من جانب اخر على مكافاة الذين ساعدوهم ابان الثورة وخاصة شيوخ العشائر , من خلال اما الغاء الضرائب وتقليلها عليهم , او زيادة مساحة اراضهم الزراعية , او الانحياز لهم في القضايا والمشاكل الشخصية في المحاكم وغيرها , واستمر الامر حتى بعد تاسيس الدولة العراقية عام 1921 . وذكر الوردي اسماء اولئك الشيوخ المكرمين وطرق مكافاتهم من قبل الانكليز .
وقد اعتبر الوردي ان تاسيس الاقطاع في العراق بعد تنفيد قانون التسوية عام 1933 الذي تبلور من خلال لجنة انكليزية , انما هو يصب في خانة مكافاة الشيوخ الذين لم ينضموا لثورة العشرين , خاصة اذا عرفنا ان لجان التسوية كانت تحت رئاسة الموظفين الانكليز , الذين اخذوا يسجلون المساحات الواسعة باسم اولئك الشيوخ .
اكد الوردي ايضا ان اهم افرازات المرحلة التي اعقبت تاسيس الدولة العراقية هى التهافت على الوظائف . فقد بين ان الوظائف في عهد الاحتلال كان يشغلها البريطانيين والهنود , ولم يكن من العراقيين الا القليل . وبعد تشكيل الوزارة العراقية الاولى في خريف 1920 اتجهت السياسة الانكليزية الى تقليص عدد البريطانيين والهنود , وتعيين العراقيين بدلا عنهم . ومنذ ذلك الحين بدات في العراق ظاهرة التهافت على الوظائف , وصارت تنمو حتى يومنا هذا . والمفارقة ان اول مقال في تاريخ العراق الحديث انتقد هذه الظاهرة نشر في حزيران 1921 بعنوان (معضلة الموظفين وحلها) في جريدة (العراق) بقلم (ع.ج. فهمي) تضمن اول اشارة الى تهافت الناس على الوظائف , وماينتج عنها من اضرار اجتماعية . واكد الوردي ان اسباب التهافت على الوظائف عديدة , يمكن ان نوجزها بثلاث وهى :
1 . الوظيفة تمنح لصاحبها مكانة اجتماعية .
2 . مستوى الراتب كان اعلى من مستوى الاجور للعمال .
3 . كان العراق يعاني من ازمة اقتصادية وكساد في الاسواق بعد التضخم الذي حدث في فترة الاحتلال .
ومن الافرازات الاخرى التي اعقبت ثورة العشرين هو المفاخرات بالدور الذي قام به البعض بالثورة , خاصة بعد ان اخذ يدعيها الكثيرون في الحق والباطل . وقد اكد الوردي انهم اتفقوا جميعا على ان الفرات الاوسط كان محور الثورة وعمودها الفقري , ولكنهم اختلفوا في الفئة التي حركت الفرات الاوسط وحفزته على الثورة . فالنجفيون يعتبرون ثورتهم عام 1918 هى اول ثورة على الانكليز في العراق , وهى الشرارة التي اندلعت منها ثورة العشرين , وينافسهم بهذا الادعاء اهل تلعفر , اذ يعدون حركتهم التحررية التي حصلت في اوائل حزيران 1920 هى الجديرة بان تكون الشرارة الاولى للثورة . فيما اعتبر الافندية في سوريا انفسهم المحرضين على احداث دير الزور وتلعفر , الا ان الافندية في بغداد لايؤيدون هذا الكلام , وينسبون الفضل الاكبر لهم في تحريض الفرات الاوسط على الثورة . رغم ان الفراتيون لايقبلون هذه الاراء , ويقولون انهم قاموا بالثورة من تلقاء انفسهم دون ان يحرضهم احد .
في خاتمة هذا الجزء الخاص بثورة العشرين , طرح الوردي راي للمناقشة حول هذه الثورة , وهو ان الظلم وحده لايكفي لقيام الشعوب بالثورات على حكامها , بل يجب ان يكون في الشعوب ايضا شعور بالظلم وحافز يحركها للثورة , وهو مانسميه بالوعي الثوري . وبين ان الشعوب في العصور القديمة والوسطى تعرضت الى ابشع انواع الظلم والاستغلال والاستعباد دون ان تقوم بالثورة على حكامها , الا في حالات نادرة , بينما في العصر الحديث لايكاد يمر جيل دون ان تنشب فيه ثورة او عدة ثورات , والسبب ان الناس كانوا يرضخون سابقا للظلم ويعتقدون انه امر مكتوب عليهم , ولكن نزعة الخنوع اخذت تضعف لدى عامة الناس منذ بداية العصر الحديث , وما نتج عنه من اختراع الطباعة وانتشار وسائل النشر والتثقيف والتوعية بينهم , واصبح الناس يعتبرون الحاكم خادم للشعب او ماجورا له . وضرب لنا الوردي مثلا على ذلك بالثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 واكد ان الاوضاع الفرنسيين كانت افضل حالا من من الشعب الالماني والروسي والنمساوي , وانما الشعب الفرنسي قام بالثورة , ليس لانه كان اكثر مظلومية , وانما لانه كان اكثر وعيا ثوريا من غيره . فقد ظهر قبل الثورة كتاب ومفكرون من طراز مونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو عملوا على ايقاظ الشعب وتعليمه الافكار الثورية . واما العامل الاخر في قيام الثورة الفرنسية هو ضعف الملك لويس السادس عشر , رغم انه كان افضل من سلفه السابق لويس الخامس عشر . فقد وصف بانه (كان يملك كل الفضائل الشخصية كالنزاهة والتقوى واللطف والفهم الجيد ولكنه لايستطيع ان يحكم كرجل دولة) . بمعنى ان الوردي يريد ان يقول لنا ان هناك شرطين يجب توفرهما لقيام الثورة ضد النظام السياسي القائم او الظالم وهما :
الاول : الوعي الثوري الذي يكون نتيجة للتحريض على الحكام والنظام الاجتماعي والسياسي القائم في الاعلام او من قبل الكتاب والمفكرين .
الثاني : هو ضعف الحاكم والنظام السياسي وسماحه بنوع من التعددية السياسية والثقافية في المجتمع والدولة تسمح للوعي السابق بالانتشار بين الناس . وسبق ان اكد لينين هذه الظاهرة بالقول (ان الثورات تحصل في البنى الضعيفة) .
بعد هذه المقدمة طرح الوردي السؤال الاتي : لماذا تحمل العراقيون حكم الاتراك طيلة اربعة قرون وقبله حكم المغول والتتار دون ان يثوروا عليهم ؟؟ بينما هم ثاروا على الحكم الانكليزي بعد مضي سنتين او ثلاث عليه , مع العلم ان الحكم التركي وماقبله كان اكثر ظلما وتفسخا من الحكم الانكليزي . وقد اراد بعض الكتاب الجواب على ذلك ان العراقيون كانوا يقومون بالثورات ضد الاتراك , وضربوا امثلة على ذلك بالتمردات العشائرية . وبالطبع رفض الوردي وصف تلك الحركات والتمردات العشائرية بالثورات في العهد التركي , فهى كانت محدودة النطاق , ولم يقم بها سوى عشيرة او مجموعة من العشائر , وتختلف عن ثورة العشرين التي اشترك بها جميع فئات وطبقات الشعب العراقي (الحضري والريفي والشيعي والسني والعربي والكردي والملائي والافندي) ..
اجاب الوردي على ذلك بالقول ان الوعي الثوري هو السبب في قيام ثورة العشرين , وان هذا الوعي في العراق تحفز نتيجة عدة عوامل سبق ان ذكرناها في القسم الاول من هذا الجزء وهى :
1 . العامل الديني ويقصد به اعلان الجهاد من قبل الملائية .
2 . موت المرجع كاظم اليزدي في 30 نيسان 1919 الذي لم يؤيد المواجهة مع الانكليز .
3 . نشاط الافندية وتحريضهم على الانكليز وتبشيرهم بعودة الاتراك بسبب فقدانهم لوظائفهم .
4 . الوعود البريطانية بالاستفلال وتحرير الشعوب وتقرير المصير .
5 . الدعايات الخارجية التي وفدت على العراق من قبيل الثورة العربية عام 916 والثورة البلشفية عام 1917 والحركة التحريرية في تركيا التي قام بها اتاتورك والمصرية التي قام بها سعد زغلول عام 1919 .
6 . العراقيون في سوريا ودورهم في التحريض على العودة للعراق وقيام حكومة وطنية ومستقلة .
هذه العوامل المذكورة جعلت العراقيين في حالة من التوتر والتحفز بحيث لايحتاجون الا الى شرارة صغيرة لكي يهبوا في ثورة عارمة على الانكليز , وقد انطلقت هذه الشرارة في الرميثة في 30 حزيران 1920 . (انتهى)
في الواقع ان ماطرحه الوردي هو مقاربات علمية وموضوعية حول السبب في قيام العراقيين بثورة العشرين وسكوتهم على الظلم التركي طيلة اربع قرون , وارجاعه ذلك الى تصاعد الوعي السياسي والثوري وتاسيس الشعور الوطني في المجتمع العراقي , الا اني اجد ان ذلك ليس كافيا , فالامر يخضع الى محددات اخرى ترجع الى طبيعة الجماعة الشيعية في العراق بصفتها خميرة الوطنية وركيزة الثورة وقوامها الاساس وفاعليتها السياسية والعسكرية والاجتماعية والجغرافية , لان هذه الثورة هى في الاخير ثورة شيعية من حيث القيادة والتحريض والروحية , فاذا اخذنا راي الكاتب الامريكي جاريث ستانسفيليد في كتابه (العراق الشعب التاريخ السياسة) فانه اكد ان ثورة العشرين قام بها ثلاث فئات يغلب عليها الطابع الشيعي وهى :
1 . القيادة : وهى دينية في كربلاء والنجف .
2 . المحرضون : وهم الوطنيون في بغداد (وهم طبعا خليط من الشيعة والسنة)
3 . المحاربون : وهم العشائر (وطبعا اهمها عشائر الفرات الاوسط) .
الا اننا نجد ان الجماعة الشيعية نفسها اصابها الرعب والتخاذل والارتباك بعد هجمات الاخوان الوهابية على المناطق الجنوبية , وخاصة في الوية ومناطق السماوة والمنتفق والديوانية والبصرة وغيرها . فقد بدا الهجوم الكبير على العراق من قبل الاخوان الوهابيون في اذار 1922 بقيادة فيصل الدويش , واسفر عن مقتل (649) من اهالي المنتفق ونهب مايقارب الخمسين الف من الخيول والجمال والماشية . الامر الذي اضطر العراقيون الى عقد اجتماعا شعبيا وروحيا وعشائريا كبيرا في كربلاء في نيسان 1922 تراسه المرجع مهدي الخالصي (1862 – 1924) وحضره مايقارب المائتي الف شخص واكثر من (200) شيخ عشيرة ورجل دين , اكدوا في مضبطة رفعت الى الملك فيصل على ضرورة احقاق حق العراقيين في غزوة اذار 1922 الوهابية وتعويض المتضررين , والعمل على حماية البلاد من هجمات الاخوان الغزاة .
الا ان هذا المؤتمر لم يمنع من استمرارية الغارات الوهابية وهجماتها الدموية والتكفيرية على مناطق العراق الحدودية . فقد شن الاخوان بقيادة فيصل الدويش ايضا غارات خطيرة على قبائل الاعاجيب والظفير والغزالات وبني سلامة في بادية الشامية , وقتلوا المئات من الافراد , واسروا مايقارب المائتين من النساء , وسرقوا الاف من الابل والخيل والماشية . وكالعادة اعلن السلطان عبد العزيز ال سعود عدم معرفته بالغزو وقدم اعتذاره للانكليز بهذا الشان , الا ان التقارير تؤكد معرفته وتشجيعه له من اجل السلب والنهب والتدمير . كما قام الاخوان الوهابيون بقيادة ضيدان بن حثلين رئيس قبيلة العجمان النجدية بغزو عشائر الديوانية , وقتل العشرات من الاشخاص ونهب الاف من الاغنام . كما حصل غزو اخر يقوده ابن شقير وابن منديل على عشيرة الظفير العراقية , الا انها استطاعت من ردهم وقتل مايقارب المائتين منهم . ويبدو ان ان الاخوان قد احسوا بالعار بسبب هذه الهزيمة فنظموا غزوة اخرى في كانون الاول 1924 بقيادة فيصل الدويش نفسه ضمت مايقارب الالفين من المقاتلين , وكانت الوجهة هذه المرة عشائر المنتفك والديوانية التي قتلوا منها مايقارب الخمسين شخصا .كما شن الاخوان غارة اخرى في نفس الشهر على العشائر العراقية الساكنة قرب (نكرة السلمان) في جنوب السماوة فقتلوا مائة شخص ونهبوا الكثير من الاموال . وبسبب تعدد الغزوات وتهاون الحكومة العراقية بالرد عليها وتخاذل العشائر الجنوبية , ارسل المندوب السامي البريطاني هنري دوبس رسائل احتجاج الى ابن سعود يحذره من مغبة الاستمرار بتلك السلوكيات المشينة . وكالعادة انكر الاخير علمه بتلك الغزوات والهجمات التي قام بها الاخوان . كما استمرت الغارات الوهابية الخطيرة في الاعوام اللاحقة على جنوب العراق ولم يوقفها سوى الخلاف بين الاخوان وابن سعود والتمرد الذي قاموا به ضده , واضطراره فيما بعد القضاء عليهم وانهاء وجودهم .
وهنا يطرح السؤال الاتي : لماذا حارب الشيعة العراقيون اعظم دولة في العالم انذاك – وهى بريطانيا العظمى – واعلنوا الجهاد ضدها وكبدوها خسائر كبيرة بالارواح والمعدات , فيما وقفوا عاجزين وخائفين ومرتبكين امام الغارات الوهابية , مع العلم ان اغلب العشائر التي واجهت الانكليز بثورة العشرين وحققت عليهم انتصارات كبيرة – رغم الفارق الكبير بالاسلحة والمعدات والامدادات – هى نفسها العشائر والمناطق التي تعرضت للهجمات الوهابية وغارات الاخوان السعودية ؟؟ وماهو سر الرعب والخوف والشلل الذي يصيب العشائر الشيعية من الغارات الوهابية , فيما كانوا يقتحمون الصفوف الانكليزية والخطوط الدفاعية بشجاعة وجرأة لامثيل لها اثارت استغراب واعجاب حتى القادة الانكليز ؟؟
اراد البعض الاجابة على هذا السؤال والتناقض في السلوك عند الشيعة بالقول : ان الغارات الوهابية وهجمات الاخوان كانت مفاجئة , وليس لها موعد محدد او مسبق حتى يتم التحضير لمواجهتها , وتاتي على شكل غارات وهجمات من اعماق الصحراء والهضبة الغربية , وانها تستهدف القرى الامنة او المدنيين من النساء والاطفال وتقتلهم وتذبحهم دون رحمة , وهدفها السلب والنهب والتدمير … في الواقع ان هذه المقاربات لاتخلو من الصحة , خاصة في قضية الغارات المفاجئة للقرى والعشائر الامنة في الجنوب , والرعب الذي يصاحبها بسبب القصص المخيفة عن حالات الذبح التي يقوم بها الاخوان الوهابيون للاسرى والجرحى وغيرهم , ولكن ان يصل الامر من الخوف والرعب ان يطلب الوهابي من الشيعي ان يقول له (امسك يارافضي حصاني او جملي حتى اقوم بشحذ سكيني من اجل ان اذبحك) والاخير يقوم بامساكها وينتظر الذبح مثل المشلول , دون ان يهرب او يقاوم , فهذا من اغرب القصص والمواقف التي لايصدقها العقل , حيث يذكر الضابط البريطاني (كلوب باشا) في كتابه (حرب الصحراء) الذي صور فيها الغارات الوهابية على العراق , قصصا مؤلمة ومحزنة لحالات الهروب الكبيرة التي تقوم بها العشائر امام الغارات الوهابية , تاركين اموالهم وابلهم واغنامهم واولادهم ونسائهم وراء ظهورهم , وراى بعينه امراة من عشيرة (البدور) تحمل طفلها الصغير وهى تنادي (ياعلي .. ياعلي) . والمفارقة ان كل ذلك حصل بعد سنة او سنتين من انتهاء ثورة العشرين التي قتلوا فيها الشيعة المئات من الانكليز وجرحوا الالاف واسروا العشرات !! فما هو السر في ذلك ؟؟
اعتقد – ان لم يكن يقين – ان السبب هو ان الشيعي العراقي يحمل في انساقه المضمرة وعقله الباطن واللاشعور الجمعي رعبا هائلا وخوفا مستحكما من السلطة السنية بصورة خاصة (الامويين والعباسيين والعثمانيين والقوميين والبعثيين) والسنة بصورة عامة سواء اكان تنظيمات ارهابية (مثل القاعدة وداعش) او غارات وهابية (مثل الاخوان) او عشائر (مثل ال سعدون وغيرها) . وهذا الرعب والخوف لم ياتي من فراغ , وانما يحمل في ذاكرته الواعية وانماطه الاصلية اللاواعية صور وخبرات وتراكمات من القتل والاتنهاك والتعذيب والقمع من قبل السنة على مدى التاريخ , ابتدأ من العهد الاموي وحتى اخرها العثماني , تصاعدت بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 , حيث اصيبت العشائر العراقية التي كانت تصول وتجول ضد الانكليز بعد تشكيل الحكومات الطائفية السنية بين عامي (1921 – 2003) بالشلل والخوف والتخاذل . وعلى النقيض من ذلك نجد عند الشيعة شجاعة ظاهرة وتجاسر كبير على السلطات الاجنبية والمحتلة غير السنية , كما راينا ذلك خلال حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني في البصرة عام 1914 ومعارك البطنجة وباهيزة في منطقة الغراف وحركة النجف عام 1918 ومقتل الحاكم مارشال وثورة العشرين وغيرها . والعكس من ذلك نجد عند اهل السنة , فهم شجعان وشرسين ومتنمرين ضد الشيعة الضعفاء والمسالمين , والسبب هو ان تراكم السلطة عندهم على مدى قرون طويلة , جعل عندهم حالة من الاستعلاء والشعور بالتفوق على الشيعة ونزوع للسيطرة عليهم والتسلط على مقدراتهم , الا انهم يصابون بالرعب والخوف من الاحتلال والسلطة الاجنبية التي سرعان مايضطرون للتفاهم معها , ويساومونها على بلدهم او مدنهم حتى يكتسبوا السلطة من جديد . وهو الامر الذي رايناه بوضوح اثناء الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 حيث لم ينضموا لحركة الجهاد التي تزعمها المراجع الشيعة امثال الحبوبي والحيدري وغيره , رغم انهم كانوا مقربين ومتنعمين من الدولة العثمانية , فضلا عن وجود العلماء الكبار عندهم امثال محمود شكري الالوسي وعبد الرحمن النقيب الكيلاني وغيرهم . وكذا الامر مع الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 حيث استسلمت المحافظات السنية الرئيسية الثلاث (الموصل وصلاح الدين والانبار) دون قتال او مقاومة رغم انهم كانوا مقربين جدا من السلطة البعثية الحاكمة , ولم يرفعوا السلاح ضد الحكومة العراقية والاحتلال الامريكي الا بعد تاسيس مجلس الحكم الانتقالي قي تموز 2003 عندما عرف اهل السنة ان السلطة التي قدموا لها التنازلات قد فقدت الى الابد . واذا اردنا الخروج بقاعدة تاريخية واجتماعية وسياسية لهذا الموضوع نقول : ان الشيعة جبناء وخائفين امام السنة , وشجعان ومقاومين امام الاحتلال الاجنبي , والعكس عند اهل السنة فهم جبناء وخائفين من الاحتلال الاجنبي , وشرسين واقوياء ضد الشيعة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *