إزالة المدن من على الخريطة ومحوها من الذاكرة البشرية (غزة مشروعاً)

الكاتب : علي عظيم
—————————————
إن المدن ليست مجرد مبانٍ وشوارع وجوّاد، بل هي التاريخ؛ ما عرفنا الأمم السالفة وتعرفنا على ثقافتها وأسلوب حياتها لولا عمارتها، فعندما نزور أحد المدن التاريخية نستحضر بالضرورة تأريخها متخيلين الحياة التي كانت فيها، مظهر الناس وطريقة عيشهم وأدواتهم المعيشية وأسلوبهم اليومي وأعمالهم الشائعة ونظرتهم عن الكون وعن الإنسان، وحتماً قد غمرت أمماً كثيرة دبت على هذه الأرض وعاشت عليها وتفاعلت فيما بينها وأسست مجتمعها كما نحن، إلا أنها خرجت عن الذاكرة البشرية؛ أما أن مدنها لم تكتشف إلى الآن أو أنها عاشت بطريقة الإنسان الأول الذي كان جزءاً من الطبيعة، غير متدخلٍ في تغيير خواصها، تفاعل معها بهدوء وغادرها بهدوء.

ذاكرة خاصة
نحن جميعاً تربطنا الذاكرة مع مدننا تعرف (بالذاكرة المكانية)، مثلاً عندما يمر أحدنا على مكان نشأته محل الطفولة واللانتماء إلى الصفات، ذلك المكان الذي ظنناه العالم بأسره يسارع إلى البحث عن شواهد تجسد له مشاهد الطفولة فينظر إلى البيت الذي ترعرع داخله ويستحضر رائحة الخبز ورائحة الجدران المبتلة وطعم الحليب في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة، وجلوس العائلة حول المدفئة في الليالي الباردة، والجرح الأول تحت الركبة بعد السقوط الحر أثناء الركض، كما قد يبحث عن بيتِ حبيبته الأولى وصديقه الأول والمقهى التي دخلها أول مرة والملعب الذي لعب فيه الكرة كمحترف لأول مرة والشارع المحبب للمشي مع الأصدقاء…إلخ، وإن أختفى أحدى تلك الشواهد سيترك ندبةً في القلب وقد ينساه الإنسان بعد مدةٍ من الزمن؛ فالذاكرة تحتاج إلى ما يحفزها والمكان أشد محفزيها.

ذاكرة جماعية
الجماعة هي أيضاً يكون المكان أحد أهم روافدها، فكل جادةٍ وشارعٍ وساحةٍ وحيٍ ومدينةٍ وتمثالٍ يكون رافداً للذاكرة الجماعية وتشكل في مجموعها الهوية للشعوب وتكمن فيها روح التاريخ، فهي ليست مجرد تجميع لذكريات الأفراد، بل هي بنية ثقافية وتاريخية تتشكل داخل الجماعات، في ذلك الشارع اندلعت الثورة وفوق ذلك الجسر قمعت تظاهرة وهنا في هذه الساحة نحتفل وفيها نبكي، وفي هذا المقهى نتأتي كل مساء خميسٍ نقرأ الشعر ونغني. إن الذاكرة الفردية لا تنفصل عن الإطار الاجتماعي الذي تنشأ فيه هذا مايقوله “موريس هالبواش”، ومن هذا يتضح أن المكان يساهم مساهمة كبيرة في تشكيل الهوية الثقافية والتاريخية للجماعة لكن ماذا يبقى للإنسان إذما أزيل المكان من على الخريطة؟ أوليس الإنسان عبارة عن سلوك وذكرى؟ سلوك يفعل ثم يتحول ذلك السلوك إلى ماضي وهكذا تتكون ذاته وهويته، هذا وقد قيل أن الإنسان ليس سوى ما يتذكر.

تطميس الذاكرة المكانية ودورها في انتزاع الهوية
عندما يزال المكان وثم يعاد بنائه بخرائط جديدة حتماً يؤدي ذلك إلى تشويهه في الذاكرة ومن ثم قد يؤدي إلى محوه منها؛ بهدف انتزاع هوية الشعوب الثقافية والتاريخية ولإذابة الرابطة بين الإنسان والأرض، وهذا ما تعمد إليه الدول الاستعمارية من أجل فرض هيمنتها الكاملة، كما فعلت الولايات المتحدة بالهنود الحمر وفرنسا بالجزائر، وإسرائيل بفلسطين مرات كثيرة وما زالت مستمرة، ولا يخفى على أحد أنها قامت بتغيير أسماء المستوطنات ونجحت في تطميس هوية تلك المدن الفلسطينية، والآن ستتجه بعد الانتهاء من عملية الإبادة لإنتزاع هوية غزة من خلال إعادة بنائها بخرائط جديدة، خرائطٌ تصممُ جوّاد جديدة وشوارع، وساحات، ومدارس، وجامعات، ومشافٍ، وحارات، ومقاهي، ودور سينما، وشواطئ، وملاعب جديدة لمحو الذاكرة المكانية، وبالتالي إخراجها من الذاكرة البشرية ككل أو وضعها على الهامش كما حصل للهنود الحمر.
لن ننسى
أبداً مهما فعل الاحتلال وحاول تطميس الحقائق وتزييفها وقلب الباطل إلى حق وبث المعلومات المضللة والأكاذيب عبر إعلامٍ أحادي موجه، ستبقى فلسطين عارٌ في جبينه بل في جبين مجلس الأمن والمجتمع الدولي، وقد يذاب الفلسطينيين إلا أن فلسطين ستبقى حاضرةً على الأقل في أذهاننا وارواحنا، ونحن نحتفظ لها بمقاطع فيديوية تعوض حضورها في الذاكرة المكانية، كما أن جرائم الاحتلال ضد الإنسانية محفوظة وسيجيئ اليوم يتغير فيه الحال فدوامه من المحال، وكل ساقٍ سيسقى بما سقى، وهذا ما علمنا إياه التاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *