بين سيمفونية الوحدة وصمت العزلة و بين ضجيج الجماعة وضوضاء الاجتماع البشري 

رياض سعد

الإنسانُ، بتعريفه السرياليّ، كائنٌ يحملُ في جوفِه محيطًا من التناقضات: يُولدُ من رحمِ الوحدةِ، لكنَّ دماءَه تُغنّي أناشيدَ القطيعِ… ؛  فهو كالشجرةِ التي تمدُّ جذورَها في أعماقِ التربةِ لتنمو، لكنها ترفعُ أغصانَها نحوَ الفراغِ، مُتطلعةً إلى طيورٍ تحوّلُها الرياحُ إلى أسرابٍ هاربةٍ… ؛ و هكذا يُشبهُ الاجتماعُ البشريُّ لوحةً لـ”رينيه ماغريت”: قبّعاتٌ تطفو في السماءِ، وأوجهٌ بلا ملامحَ، وكأنَّ القربَ الجسديَّ وهمٌ يُخفي غربةَ الأرواحِ. 

يصف ألبير كامو في “أسطورة سيزيف” الإنسانَ بأنه *”الكائنُ الوحيدُ الذي يرفضُ مصيرَه بينما يُطبّقُ عليه”*، وهذا ما يحدثُ حينَ يُدركُ الفردُ أن قوانينَ الجماعةِ أشبهُ بـ”ساعةٍ رمليةٍ” تبتلعُ حريتَه لتصنعَ منها رمالًا متطايرةً… ؛  فالطيورُ تُحلّقُ في أسرابٍ لتتجنبَ عينَ الصقرِ، لكنَّ البشرَ يتجمعونَ هربًا من عينِ الفراغِ الوجوديِّ… ؛  أما حينَ تتحولُ القبيلةُ إلى متاهةٍ، كما في رواية “الغريب” لكامو، يصيرُ الانسحابُ منها ضربًا من “العبثِ المقدسِ”، حيثُ تُفضي العزلةُ إلى اكتشافِ أن الوحدةَ ليست صحراءَ، بل مرآةً تُظهرُ الوجهَ الحقيقيَّ للذاتِ. 

اذ يمكنُ تشبيهُ العلاقاتِ الاجتماعيةِ بـ”مرجلِ ساحرةٍ”: يغلي بالوعودِ الدافئةِ، لكنَّ أبخرتَه تُخفي سمومًا قاتلة… ؛  ففي رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، يتحولُ راسكولنيكوف إلى وحشٍ ليسَ بسببِ كراهيتِه للبشرِ، بل لأنَّ البشرَ حولوهُ إلى مرآةٍ لقسوةِ العالمِ… ؛ و هكذا تتحولُ الجماعةُ أحيانًا إلى “مرآةٍ مشوّهةٍ”، تُعيدُ تشكيلَ الفردِ وفقَ قياساتٍ تُشبهُ قصيدةَ “نيرودا” المقطوعةَ الأوصالِ: *”أنا هنا، لكنني لستُ أنا”*. 

 فالصورةُ تُشبهُ لوحةً لـ”فريدا كاهلو”: جذورٌ تنبتُ من القلبِ، وأشواكُ تُحيطُ بالوجهِ، وكأنَّ التواصلَ الإنسانيَّ جُرحٌ نازفٌ يُنتجُ زهورًا سوداءَ… ؛  فكما كتبَ جان بول سارتر: *”الجحيمُ همُ الآخرون”*، ليس لأنهم أشرارٌ، بل لأنهم يُجبروننا على رؤيةِ ذواتِنا من خلالِ عيونٍ مُشوَّشةٍ… ؛  هنا، تُصبحُ الطاقةُ السلبيةُ  والتي تنبعث منهم كـ”إشعاعاتٍ سامةٍ” تنسابُ من الأجسادِ، تُذكّرُنا بـ”الطاعونِ” لكامو، حيثُ الوباءُ ليسَ فيروسًا، بل خواءٌ روحيٌّ ينتقلُ باللمسةِ والنظرةِ. 

في المُنتهى، يظلُّ الإنسانُ كـ”بجعةٍ” في لوحةِ “أوديلون ريدون”: ترفرفُ بأجنحةٍ عاجيةٍ فوقَ بحيرةِ ظلالٍ، عالقةً بينَ انعكاسِ القمرِ في الماءِ وحقيقةِ أن القمرَ نفسه سرابٌ… ؛  وكما كتب محمود درويش: *”أنا من هناك، وأنا من هنا، لكنني لستُ هناكَ ولا هنا”*… ؛  فالسَّربُ قد يُعطي دفئًا، لكنه قد يسرقُ الأجنحةَ… ؛  والعزلةُ قد تُثلجُ الصدرَ، لكنها تذيبُ الجسدَ… ؛  وهنا تكمنُ المُفارقةُ: أن نبحثَ عن أنفسِنا في عيونِ مَن يُشبهوننا، فنفقدُها، وأن ننساها في مرايا الوحدةِ، فنجدُها!