عن الصداقة والكتابة وصناعة التفاهة

رياض الفرطوسي

هناك صداقات لا تحتاج إلى وسطاء، ولا تتقن المجاملة، ولا تُبنى في مقاهي المثقفين ولا على رصيف الجوائز. صداقة فيديل كاسترو وغابرييل غارسيا ماركيز واحدة من تلك الحكايات التي تبدو وكأنها خرجت من بطن رواية، لا من أرشيف السياسة. جنرال يقرأ بنهم، وروائي يراقب العالم من نافذة السرد، ثم يجلسان معاً كصديقين قديمين يتبادلان أسرار الأدب قبل أسرار الدولة.

كان كاسترو، بعناد الثائر وقلب القارئ، يمنح الروايات وقتاً أطول مما يمنحه لاجتماعات اللجان، ويقرأ ماركيز كما لو أنّه يمسك خريطة استراتيجية لروح أميركا اللاتينية. أما ماركيز، فكان يرى في الطاغية القارئ مفارقة نادرة: رجلٌ يملك سلطة السلاح لكنه يجد خلاصه في صفحات رواية.

إنها صداقة دفعت الكاتب الكولومبي إلى العاصفة، تعرّض بسببها لحملات تشهير ومحاولات اغتيال معنوي. ومع ذلك، كان يعود إلى هافانا كما يعود المرء إلى بيت يعرف ظلاله. يجلسان بالساعات أو يخرجان في نزهة رصينة، تتقدّمهم مرسيدس ( زوجة ماركيز )، تلك المصرية التي حملت معه أثقال العالم بخفة أمّ شرقية تعرف سرّ الطمأنينة.

لكن الحكاية ليست عن كاسترو وحده، ولا عن ماركيز وحده. إنّها عن تلك المعركة القديمة بين المنظومات المتنفّذة والسرد. فالسرد—عندما يشرّح ويكشف ويهزّ الستائر—يصير أخطر من البارود.

كامو، همنغواي، ريماك… كتّاب عاشوا حياتهم وكأنهم يمشون على حافة هاوية… وليس أمامهم أي حاجز يحميهم من السقوط. كلٌّ منهم دفع ثمناً لأن السلطة، أيّ سلطة، لا تحتمل نبرة مختلفة أو مرآة صادقة. أسهل الطرق: التشهير، العزل، ثم الإزالة.

لكنهم ظلّوا واقفين. همنغواي قال إنها “حياة يمكن سحقها، لكن هزيمتها مستحيلة”. أما نيرودا فابتسم لذلك المنطق القمعي، وقال عبارته التي تشبه رائحة الربيع: “تستطيعون قطف الزهور، لكنكم لا تستطيعون وقف الربيع”.

فالكلمة لا تُقتل.

يمكن للرصاصة أن تثقب صدراً، لكنها لا تثقب سرداً نُشر وطاف القارات.

وحين اكتشفوا استحالة قتل الكلمة، اخترعوا حيلة أخبث: قتل الذائقة.

ليست مؤامرة صغيرة، بل مشروع متقن، وثّقته سوندرز ببرود مؤرخ: كيف سُيّلت التفاهة في العالم، وكيف جرى توزيعها كسلعة ثقافية مدعومة. هكذا صار “الفن” المتلفز مجرد فانيلا لامعة، والرقص الخلفي بديلاً للمعنى، والنجومية تُمنح لمن يصرخ لا لمن يكتب.

لماذا لا تكون الأخلاق مشروعاً معرفياً؟

لماذا لا يصبح الكشف، والبحث، والمغامرة السردية، جزءاً من الضمير الأدبي؟

ميلان كونديرا قالها بوضوح: الرواية غير الكاشفة رواية لا أخلاقية.

المعرفة ليست ترفاً، بل مسؤولية.

والتخيل نفسه شكلٌ من أشكال الأخلاق، لأنه يحفر ممّا نجهله، ويحطم قوالب السرد الكسول الذي تريده السلطات والأجهزة والأرشيفات.

الأرشيف… ذلك الوحش الورقي الذي يريد أن يختزل الإنسان في موقف واحد.

أن يصنع من حياة كاملة “ملفاً”، كما لو أنّ البشر مجرد ملحوظات في هامش تقرير أمني.

(عندما يقول مسؤول سلطوي “ملفك عندي”، فهو لا يهددك فقط، بل يعلن وفاتك الرمزية: أنت محنّط في درج، والملف يعرفك أكثر مما تعرف نفسك—تلك السخرية السوداء التي تحدث عنها دريدا وهو يراقب جنون الوثيقة).

في هذا العالم الذي تُفسد فيه الأغاني كما تُفسد الفكرة، ويُربّى الجمهور على الإيقاع الفارغ لا على الجملة المضيئة، يصبح الكاتب آخر الحراس.

ليس حارساً للتراث، ولا للهوية، ولا لأي شعار كبير…

بل حارساً لكرامة الإنسان.

لحقه في أن يتحوّل، في أن يتناقض، في أن يتبدّل من النوم إلى الحلم ومن الحلم إلى الواقع ومن الواقع إلى النص.

الكاتب الحقيقي ليس واعظاً ولا موظفاً أخلاقياً، بل كائن يجرّ العالم خارج خزانة الأرشيف، ويعيده إلى الضوء.

لا غرابة إذن أن تكون شعوبنا أكثر الأمم حديثاً عن القيم، وأبعدها عن ممارسة تلك القيم.

لا غرابة أن نصنع الضجيج حول الأخلاق بينما نواصل قتلها بتفاهة متقنة الصنع.

لكن رغم كل شيء، تبقى الكلمة—حين تُكتب بشرف—قادرة على خرق الظلام.

تبقى الكتابة فعل تضامن، كما قال بارت، خروجًا من فرديتك إلى شراكة واسعة مع الذين يقرأونك، حتى يصبح ما تكتبه ملكاً لغيرك، وتصبح أنت مجرد قارئ جديد لشيء خرج من يدك ولم يعد لك.

وهكذا، بين جنرال وروائي، بين قنبلة وصفحة، بين حملة تشهير وشجرة ربيع، نستطيع أن نفهم حكمة واحدة:

إنّ السرد ليس ترفاً ثقافياً، بل مقاومة.

والمعرفة ليست زينة على رفّ، بل أخلاق.

والكاتب… حين يكتب بصدق… هو آخر من يقف في العراء بلا خوذة، لكنه الوحيد الذي تظل كلمته حيّة بعد أن يرحل الجميع.