بقلم: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف
يصل الإنسان إلى لحظات يكون فيها أقرب ما يكون إلى الانطفاء الداخلي، وكأن روحَه تصير هشّة أمام ضربات الحياة التي لا تهدأ. هذا الوصول إلى ما نسمّيه «حافة الانهيار» ليس سقوطًا مفاجئًا، بل رحلة طويلة من التآكل الصامت الذي لا يراه أحد، وكثيرًا ما لا يراه الإنسان نفسه إلا عندما يصبح الألم أكبر من احتماله.
ففي بدايات القصة، تتسلل الضغوط اليومية دون إعلانٍ أو ضجيج. تراكم العمل، توتر العلاقات، خيبات صغيرة لا ينتبه لها الآخرون، وتساؤلات وجودية تنمو في الداخل دون أن تجد جوابًا. ومع مرور الوقت، يبدأ هذا الحمل غير المرئي بالتضخم، فينزاح من كونه ظرفًا عابرًا إلى شعور دائم بالثقل. يتحول العقل إلى ساحة مكتظة بالأسئلة التي لا تُجاب، وتبدأ النفس بفقدان ذلك الضوء الخافت الذي كان يمنح الأيام معناها.
ولعلّ الوحدة هي الرفيق الأشد قسوة في هذه الرحلة. قد يكون المرء محاطًا بالناس، لكنه يظل وحيدًا لأن من حوله لا يسمعون ما يدور داخله. وحين يخشى الإنسان البوح بما يرهقه خوفًا من اللوم أو السخرية، يصبح الصمت سجنًا واسعًا، وتتحول النفس إلى مساحة مكتظة بالهموم التي لا تجد ممرًا للخروج. هذه الوحدة لا تُقاس بعدد الأشخاص، بل بغياب من يفهم، ومن يصغي، ومن يرى ما خلف السطور.
وفي عمق هذا الانحدار، تقف ذكريات قديمة لا تموت بسهولة. جروحٌ يظن الإنسان أنه تجاوزها، لكنها تتربّص في الظلال. صدمات الطفولة، خذلان الأصدقاء، خسارات موجعة تركت أثرًا لا يمحى، وكل ذلك يعود في لحظة ضعف ليذكّر المرء بأنه لم يتعافَ كما كان يتخيّل. هذه الندوب النفسية، حين تبقى بلا معالجة، تتحول إلى عبء ثقيل يدفع صاحبه نحو النهاية التي لم يكن يومًا يرغبها.
ولا يمكن إغفال أثر الظروف الاقتصادية القاسية، التي تدفع الكثيرين إلى الشعور بأن الحياة أصبحت معركة غير متكافئة. حين يعجز المرء عن تلبية حاجاته الأساسية أو حماية أسرته، يشعر بأن الأرض تضيق تحت قدميه. ليس الفقر وحده ما يوجع، بل الشعور بالعجز وفقدان الأمل، واليقين المرّ بأن المستقبل قد لا يحمل تغييرًا ملموسًا. وحين يختفي أفق النجاة، يصبح اليأس ضيفًا دائمًا.
وإلى جانب هذه الأبعاد، تظهر الحاجة العميقة للمعنى؛ ذلك المعنى الذي يمنح الإنسان جذورًا روحية تقيه التشتت والضياع. فحين تضعف الروابط الإيمانية، أو تتزعزع الثوابت الروحية، يجد الإنسان نفسه في فراغ وجودي، يبحث عن سند فلا يجد، ويسأل عن طريق فلا يرى إلا الضباب. هذا الاضطراب الداخلي يجعل النفس أكثر هشاشة أمام الانهيار.
وما يزيد الأمر تعقيدًا غياب الدعم النفسي والاجتماعي. فالكثيرون يخشون اللجوء إلى الطبيب النفسي بسبب الوصمة، وآخرون لا يملكون الوعي الكافي لطلب العون أصلًا. وفي ظل مؤسسات اجتماعية غير مهيأة، وقوانين لا تمنح الفرد حماية كافية من العنف والإيذاء، يجد الإنسان نفسه وحيدًا في معركة أكبر من قدرته.
وحين تتراكم كل هذه المراحل في نقطة واحدة، تحدث لحظة الانهدام الداخلي؛ تلك اللحظة التي يشعر فيها الفرد بأن العالم كله بات معلقًا على كتفيه. عندها يصبح صوته الداخلي مثقلاً بالصمت، وقراراته مثقلة بالتعب، وروحه أقرب إلى الانطفاء. هذه اللحظة ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل هي نتيجة مسار طويل تجاهله المجتمع كثيرًا، وأسرف في الحكم على ضحاياه دون أن يعرف شيئًا من معاناتهم.
إن الوصول إلى حافة الانهيار هو صرخة لا تُسمع، ورسالة لا تُقرأ، وحكاية منسية خلف مظهر يبدو طبيعيًا. وما لم يتعلم المجتمع أن يرى الإنسان كما هو، وأن يفهم تعقيدات النفس البشرية، وأن يمدّ يدًا بدل أن يوجه إصبعًا؛ ستظل هذه الحافة مكانًا يسقط إليه الكثيرون دون أن ينتبه لهم أحد.
هكذا نصل إلى الحافة… لا لأننا ضعفاء، بل لأن الحياة أحيانًا أقسى من قدرتنا على الاحتمال، ولأن الإنسان مهما بدا قويًا ينهار حين يفقد من يسمعه، ومن يفهمه، ومن يمد له يدًا تعيده خطوة واحدة إلى الخلف قبل أن تتهاوى الأرض تحت قدميه.
لماذا نصل إلى حافة الانهيار؟ الجذور والأسباب للانتحار