آية الجزية في تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي (يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)

د. فاضل حسن شريف

جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” ﴿التوبة 29﴾ مسئوليتنا إزاء أهل الكتاب: كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أمّا الآية- محل البحث (و ما يليها من الآي)- فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب. وفي هذه الآيات جعل الإسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّا وسطا بين المسلمين والكفار، لأنّ أهل الكتاب من حيث اتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين، إلّا أنّهم من جهة أخرى لهم شبه بالمشركين أيضا. ولهذا فإنّ الإسلام لا يجيز قتلهم، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من لكرة الأرضية، غير أنّ الإسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم‏ أهل الكتاب الإسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد. والعلامة الأخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إلى الحكومة الاسلامية مبلغا قليلا من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء اللّه. وفي غير هذه الحال فإنّ الإسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث: إذ تقول الآية أوّلا: “قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ” ﴿التوبة 29﴾. لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب- كاليهود والنصارى- باللّه وباليوم الآخر، مع أننا نراهم في الظاهر يؤمنون باللّه ويقرون بالمعاد أيضا؟ والجواب: لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام، أمّا في مسألة الإيمان بالمبدأ وحقيقة التوحيد، فلأنّه: أوّلا: يعتقد طائفة من اليهود- كما سنرى ذلك في الآيات المقبلة- أن عزيرا ابن اللّه، كما يتعقد المسيحيون عامّة بألوهية المسيح والتثليث (اللّه والابن وروح القدس‏). وثانيا: كما يشار إليه في الآيات المقبلة، فانّ كلّا من اليهود والنصارى مشركون في عبادتهم، ويعبدون أحبارهم- عمليّا- ويطلبون منهم العفو والصفح عن الذنب، وهذا ممّا يختصّ به اللّه، مضافا إلى تحريف الأحكام الإلهية بصورة رسمية. وأمّا إيمانهم بالمعاد فإيمان محرّف، لأنّ المعاد كما يستفاد من كلامهم منحصر بالمعاد الروحاني، فبناء على ذلك فإنّ إيمانهم بالمبدأ مخدوش، وإيمانهم بالمعاد كذلك.

ويستطرد الشيخ الشيرازي في تفسيره الأمثل قائلا: ومن الممكن أن يكون المراد من كلمة (رسوله) نبيّهم موسى أو عيسى عليهما السّلام، لأنّهم لم يكونوا أوفياء لأحكام دينهم، وكانوا يرتكبون كثيرا من المحرمات الموجودة في دين موسى أو عيسى، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل كانوا يحكمون بحليتها أحيانا. ويمكن أن يكون المراد من (رسوله) نبيّ الإسلام محمّدا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أي إنّما أمر المسلمون بمقاتلة اليهود والنصاري وجهادهم إيّاهم، لأنّهم لم يذعنوا لما حرّمه اللّه على يد نبيّه، وارتكبوا جميع أنواع الذنوب. وهذا الاحتمال يبدو أقرب للنظر، والشاهد عليه الآية (33) من هذه السورة ذاتها، وسنقف على تفسيرها قريبا، إذ تقول: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ ودِينِ الْحَقِ‏” (التوبة 33). أضف إلى ذلك حين ترد كلمة (رسوله) في القرآن مطلقة فالمراد منها النّبي (محمّد) صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. ولو سلّمنا بأنّ المراد من (رسوله) هنا نبيّهم، فكان ينبغي أن تكون الكلمة (تثنية) أو جمعا، كما جاء في الآية (13) من سورة يونس‏ “وجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ‏” (يونس 13) ونظير هذا التعبير في القرآن ملحوظ ويمكن أن يقال: إنّ الآية في هذه الصورة ستكون من باب تحصيل الحاصل أو توضيح الواضح، لأن من البديهي أن غير المسلمين لا يحرمون ما حرمه الإسلام. لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من هذه الصفات هو بيان علة جواز جهاد المسلمين اليهود ومقاتلتهم إيّاهم. أي يجوز أن تجاهدوا اليهود والنصارى- لأنّهم لا يحرمون ما حرم الإسلام ارتكبوا كثيرا من الآثام- إذا واجهوكم وخرجوا عن كونهم أقلية مسالمة. وتذكر الآية الصفة الثّالثة التي كانوا يتصفون بها فتقول: “ولا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ” ‏. ويوجد احتمالان في هذه الجملة أيضا، إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد من دين الحق هو دين الإسلام المشار إليه بعد بضع آيات. وذكر هذه الجملة بعد عدم اعتقادهم بالمحرمات الإسلامية، هو من قبيل ذكر العام بعد الخاص، أي أن الآية أشارت أوّلا إلى ارتكابهم لمحرمات كثيرة، وهي محرّمات تلفت النظر كشرب الخمر والربا وأكل لحم الخنزير، وارتكاب كثير من الكبائر التي كانت تتسع يوما بعد يوم. ثمّ تقول الآية: إن هؤلاء لا يدينون بدين الحق أساسا، أي أن أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل، فنسوا كثيرا من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها، فعليهم أن يتقبلوا الإسلام، وأن يعيدوا بناء أفكارهم من جديد على ضوء الإسلام وهداه، أو يكونوا مسالمين- على الأقل- فيعيشوا مع المسلمين، وأن يقبلوا شروط الحياة السلمية مع المسلمين. وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي في الحقيقة المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب، تقول الآية “مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ” ﴿التوبة 29﴾‏.

ويختتم الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل للآية التوبة 29 قائلا: وكلمة (من) في الآية بيانية لا تبعيضية، وبتعبير آخر: إنّ القرآن يريد أن يقول: إن أهل الكتاب السابقين- وللأسف- لا يدينون بدين الحق وانحرفوا عن المعتقدات الصحيحة، وهذا الحكم يشملهم جميعا. ثمّ تبيّن الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم، بالجملة التالية “حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ‏” ﴿التوبة 29﴾. (و الجزية) مأخوذة من مادة الجزاء، ومعناها المال المأخوذة من غير المسلمين الذين يعيشون في ظلّ الحكومة الإسلامية، وهذه التسمية لأنّها جزاء حفظ أموالهم وأرواحهم (هذا ما يستفاد من كلام الراغب في مفرداته فلا بأس‏ بمراجعتها). (و الصاغر) مأخوذ من (الصغر) على زنة (الكبر) وخلاف معناه، ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أن الجزية ينبغي أن تدفع في حال من الخضوع للإسلام والقرآن. وبتعبير آخر: هي علامة الحياة السلمية، وقبول كون الدافع للجزية من الأقلية المحفوظة والمحترمة بين الأكثرية الحاكمة. وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المراد من الجزية في الآية هو تحقير أهل الكتاب وإهانتهم والسخر منهم، فلا يستفاد ذلك من المفهوم اللغوي لكلمة الآية، ولا ينسجم وروح تعاليم الإسلام السمحة، ولا ينطبق مع سائر التعاليم أو الدستور الذي وصلنا في شأن معاملة الأقليات. وما ينبغي التنويه به هنا هو أنّ الآية وإن ذكرت شرط (الجزية) من بين شروط الذمة فحسب، إلّا أن التعبير ب “هُمْ صاغِرُونَ‏” إشارة إجمالية إلى سائر شروط الذمّة، لأنّه يستفاد من هذه الجملة بأنّهم- مثلا- يعيشون في محيط إسلامي، فليس لهم أن يظاهروا أعداء الإسلام، ولا يكون لهم إعلام مضاد للإسلام، ولا يقفوا حجر عثرة في رقيه وتقدمه، وما إلى ذلك، لأنّ هذه الأمور تتنافى وروح الخضوع والتسليم للإسلام والتعاون مع المسلمين.