وهمُ التنوير في العقل العلماني المسلم/1

علي المؤمن

يستخدم العلمانيون العرب والمسلمون مصطلح (التنوير) في أدبياتهم للدلالة ــ عادة ــ على الفكر الذي يُعارض الفكر الديني وأصوله وموروثاته وتطبيقاته الشعائرية والطقوسية الاجتماعية، ومنها نموذج رجل الدين كما يسمونه؛ إذ يضعون التنويري إلزاما ضمن معادلة في قبال رجل الدين أو الإسلامي الحركي، والمؤسسات التي تمثلهما، وهما النموذج الأبرز للظلامي من وجهة نظر الخطاب العلماني المحلي.

والتنوير الذي يعنونه هو المصطلح نفسه الذي ظهر خلال عصر التنوير (Enlightenment) في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو امتداد جغرافي وتاريخي وفكري واجتماعي لعصر النهضة الأوروبية (Renaissance) ؛ إذ انتصرت الأفكار العلمانية الوضعية، بكل تنوعاتها وتياراتها ومذاهبها الفلسفية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، على الاستبداد السياسي السلطاني والاستبداد الديني الكنسي المسيحي والأعراف الأخلاقية الاجتماعية.

وقد صنع عصر التنوير في أوروبا مفكرون وفلاسفة أوربيون، ملحدون وربوبيون وعلمانيون، أمثال “ديكارت” و”لوك” و”هيوم” و”سبينوزا” و”كانت” و”فولتير” و”روسو” و”مونتسكيو”، وكان جميع هؤلاء مهووسين بمهاجمة المؤسسة الدينية الكنيسية المسيحية ورجالاتها، وصولاً إلى مهاجمة الدين نفسه، كمفهوم، وبكل مصاديقه وليس الدين المسيحي وحسب، ويعدون الدين ومؤسسته العقبة الوحيدة أمام تنوير العقول ونهضة المجتمع والدولة وأمام التقدم العلمي والفني والأدبي.

إلى هنا؛ يمكن أن نعدّ هذا الحراك الأوروبي الفلسفي والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ شأناً أوروبياً خاصاً؛ لكونه فعلاً عاماً تراكمياً لصيقاً بخصوصيات البيئة الأوروبية وصراعاتها الاجتماعية والدينية والسياسية، وبالصراع بين الكنيسة والمفكرين الملحدين والعلمانيين، وقد يكون مفيداً وصالحاً لهذه البيئة، من أجل إنقاذها من التخلف والاستبداد السياسي والديني، خاصة وأن المؤسسة الدينية الكاثوليكية ظلت منذ مئات السنين تصطنع طقوساً وتعاليم وسياقات دينية لا علاقة لها بالديانة المسيحية، وإنما برغبة رجالات الكنيسة في ضمان دورهم كسلطة حديدية، تتحكم بالدين والدنيا، على الرغم من أن الدين المسيحي هو ــ بالأساس ــ دين روحي لا يحتوي بذاته على تشريعات للمجتمع والدولة، وهو علاقة خاصة بين المسيحي والمسيح والرب.

بينما يختلف الدين الإسلامي اختلافاً بنيوياً مع الدين المسيحي الروحي الطقسي؛ إذ تستوعب تشريعات الإسلام كل شؤون الحياة الفردية والمجتمعية والدولة والسياسة والاقتصاد والعمل العسكري، وهي تشريعات تعبر عن ثوابت الإسلام وأصوله ونصوصه الأصلية، وليس من مصطنعات علماء الدين الإسلامي، وإن أخذ علماء الدين على عاتقهم التفريع من الأصول، بناء على أصل ديني إسلامي يفوّض المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية الجديدة، عبر التفقه والاجتهاد في الأصول، وليس وفق استحساناتهم ورغباتهم. وبالتالي؛ يكون من المستحيل تطبيق معادلات عصر التنوير الأوروبي في بيئات المسلمين؛ بالنظر للاختلاف الديني من جهة، والاختلاف الأنثروبولوجي المجتمعي من جهة أخرى.

(التتمة في القسم الثاني)