نوفمبر 22, 2024
KONICA MINOLTA DIGITAL CAMERA

KONICA MINOLTA DIGITAL CAMERA

اسم الكاتب : الروائي إبراهيم أحمد ؛ حوار : محسن حسن .


التقيته صامتاً بين المتكلمين، تظهر في عينيه علامات الغربة والوحشة والحزن، وعندما تحدثت إليه، عرفت كم هو شديد الحساسية تجاه صورة العراق في أعين الآخرين، كما تبين لي أيضاً مقدار ألمه الدفين تجاه التصنيف الثقافي المبني على أساس طائفي ليس بين المثقفين العراقيين في الداخل فقط، وإنما بينهم في الخارج أيضاً، ذلك هو القاص العراقي إبراهيم أحمد المقيم بالسويد، والذي أصدر أول مجموعة قصصية له في بغداد عام 1976 بعنوان (عشرون قصة قصيرة جدا)، كما صدرت له عن وزارة الإعلام المجموعة القصصية ( زهور في يد المومياء )، وبعد خروجه إلى المنفى أصدر (صفارات الإنذار) مجموعة قصص،(بعد مجيء الطير) مجموعة قصص، (المرآة) مجموعة قصص، (طفل السي إن إن) رواية، (الانحدار)، رواية (التيه في أيس ) مجموعة قصص، (لارا زهرة البراري) مجموعة قصص، (قصة حب لزهرة الأوركيديا) مجموعة قصص، والذي ترجمت له قصص إلى الإنجليزية والألمانية والدنماركية والنرويجية وغيرها، وقد التقته “العالم” في هذا الحوار

* بداية كيف ترى المشهد الثقافي العراقي من خلال وجودك بالسويد؟

ـ أنا أرصد هذا المشهد بشكل دقيق جداً، وأرى أن الوضع الثقافي العراقي متأثر جداً بالأوضاع السياسية والأمنية والأوضاع العامة في البلد، والتي تتصف بالتمزق والصراعات الحادة، ثم بانعدام الخدمات، فمثلاً إذا تصورنا انعدام الكهرباء فبالتالي الكاتب العراقي يعيش بلا ضوء وبلا كومبيوتر، فوضعه الثقافي معوّق، كما أن الصراع الطائفي بحالته المرعبة والمؤلمة جداً، أحدث شرخاً في روح الثقافة العراقية، ففي عهود سابقة لم تكن الحالة الطائفية تأخذ هذا المدى من الإيذاء والإضرار بالمشهد الثقافي، وأكاد أقول بعد تمحيص إن هناك استقطاباً طائفياً داخل الثقافة العراقية، وإلى حد ما بين المثقفين العراقيين أنفسهم وهذا أمر مؤسف.

* إذن كيف تكون المقارنة بين المشهد الثقافي في العراق الآن وبين نظيره قبل الاحتلال؟

ـ هو أيضاً كان سيئاً قبل الاحتلال الأميركي، نحن كنا نأمل بعد ذهاب الاحتلال وسقوط نظام صدام، أن يتحقق الاستقرار وتتحقق مراجعة للأوضاع السلبية القديمة التي كانت سائدة في ظل الديكتاتورية، من انعدام الديمقراطية واندحار للروح الإنسانية في العراق، وغياب الإبداع الصحيح والحقيقي، كنا نأمل بعد كل هذا أن تتعدل أحوال المثقف في العراق، ولكن لم يحدث شيء من هذا حتى الآن، فلا تزال علاقة المثقف بالسلطة مضطربة، ولا يزال القمع مستمراً، ولا يزال السجن والتعذيب والاعتقال والتنكيل قائماً ومعلوماً في بغداد. وللعلم فقد قام صدام بمصادرة بيتي قبل الاحتلال، والآن وبعد زوال صدام لا يزال بيتي مصادراً ولم أسترده بعد.

* هل العيب هنا في الدولة العراقية أم في المثقف العراقي؟

ـ المثقف العراقي إلى حد ما هو ضحية، وربما هو أيضاً مساهم في صنع شيء من هذا الخراب بحكم أشكال من النزعات منها ما يتعلق بالوعي؛ وعي المثقف بما حدث، ومنها ما يتعلق بالمصلحة؛ فبعض المثقفين وجدوا أن من مصلحتهم أن يركبوا مع النظام لارتباطات مادية أو طائفية، وقسم من المثقفين اختاروا أن يقولوا الحقيقة وقسم من المثقفين هاجروا، وقسم من المثقفين هم أصلاً كانوا في المنافي ولم يستطيعوا العودة إلى الداخل.

* ماذا عن إمكانية اجتماع مثقفي العراق على وحدة الروح العراقية؟

ـ هذا سؤال جيد ومهم وضروري جداً، لكني أقول لك بصراحة إن ذلك صعب وصعب جداً أن تجمع المثقفين على روح العراق، لا أريد أن أقول من الزاوية السياسية، وإنما روح العراق من الزاوية الإبداعية، روح العراق المبدعة، روح العراق المعطاءة، روح الجمال في داخل الشخصية العراقية وفي داخل الوطن العراقي، هذا صعب جداً الآن، لكن إذا سألتني كيف يتم هذا، أقول إنه من الضروري أولاً أن نبلور مشروعاً ثقافياً وطنياً، ورغم أن هذا من الممكن أيضاً أن يتقاطع مع السياسة ويتقاطع مع الاقتصاد والإمكانيات المالية، لكن على الأقل الخطوة الأساسية أن يكتب مشروع واضح دقيق وعميق، يتناول كل القضايا الجوهرية التي تخص الثقافة والمثقفين، ويُبلور بروح ديمقراطية، ثم يُطرح على المثقفين للنقاش وهم يقولون كيف يتم تطبيقه وتفعيله.

* لكن لم لا يبادر مثقفو العراق في الخارج بتقديم مثل هذا المشروع وطرحه داخل العراق .. هل هناك مانع من ذلك؟

ـ لا، لا يوجد مانع من ذلك، إنما أنا أتصور أن أهم معضلة نعانيها هي فقدان الثقة حتى بين مثقفي العراق في الخارج، فلا توجد ثقة عميقة بين هؤلاء المثقفين، بل توجد للأسف شكوك ونزاعات واحترابات، فالتهشم الذي حدث بالداخل انعكس على الموجودين بالخارج، وأيضاً هم تقسّموا وفق محاور غير موضوعية، ورغم أني لا أقول بأن حدة الفرز الطائفي الموجودة في الداخل هي نفسها الموجودة في الخارج، إلا أنها موجودة، بل إن السلطة الآن بدأت تمد أصابعها ونفوذها إلى الخارج، لتستقطب مثقفين من الخارج، والآن قسم منهم يكتبون ويطبلون ويزمرون، وهناك قسم من المثقفين الذين كنت أعرفهم أنهم يساريون وشيوعيون، هم الآن يمجدّون الطائفة، ومراجع الطائفة، ويتعصبون لحكومة المالكي التي هي الآن في اعتقادي غدّة رجعية ديكتاتورية قامعة ساحقة، وهؤلاء يمجدونها بسبب انتمائهم الطائفي.

* وأين تكمن بارقة الأمل في كل هذا؟

ـ بارقة الأمل هو أن نطرح مشروعاً ليس فقط على المستوى الثقافي، وإنما مشروعاً وطنياً عاماً، نعيد فيه للعراقيين روح العراق ونجعلهم يلتفون فيه حول الوطنية العراقية بعيداً عن الطائفية، بعيداً عن الإقليمية والمناطقية أو ما يسمونه الآن بـ “الجهوية”، فإذا استطعنا ذلك وإذا استطعنا أنتزاع من غرّر به أو ضُلل بحيث أصبح بوقاً للطائفية، وأن نعيده إلى صوابه وأن نعيد الثقة والتفاعل للإنسان العراقي بعراق موحد، فسوف ننجح في إنقاذ العراق والعراقيين.

* هل تستثني المناطق الكردية من هذا المشروع الوطني؟

ـ نعم، ربما أستثني المناطق الكردية لأنه في رأيي إذا كان الأكراد راغبين في الانفصال، فإنه يجب أن يُباركوا على انفصالهم، وأن تتحقق لهم دولتهم وفق حق تقرير المصير، وتبقى العلاقة ما بيننا وبينهم علاقة دولة بدولة وانتهى الامر، وأنا أدعو بصراحة لحق تقرير المصير للشعب الكردي من الآن، لأن بقاءهم بهذه الصورة يعد معرقلاً للوحدة الوطنية العراقية ومؤججاً للصراع الشيعي السني في العراق، وإذا استطعنا أن ننتهي من المشكلة الكردية هذه يبقى بعد ذلك هذا الاحتراب ما بين الشيعة والسنة، فيتم حلّه بطريقة وطنية وبطريقة إنسانية وبطريقة تقوم على المحبة واستعادة الأخوة الوطنية وعدم السماح بتمزيق ما تبقى من العراق ليبقى الشيعة والسنة غيرهم متعايشين بسلام .

* هل ترى أن الطائفية أصبح لها ملامح الآن في الثقافة العراقية بشكل مخيف؟

ـ طبعاً هذا صحيح، فالطائفية سرطان داخل الثقافة العراقية يمتد وينتشر، ولك أن تعلم إنهم الآن يعقدون مؤتمرات ويدعون إليها على أساس طائفي، ويقرّبون هذا ويبرّزن ذاك على نفس الأساس الطائفي، فلم يعد الأمر سرّاً، ولو أرادوا أن أحكي لهم بالأسماء لفعلت، فأنا لا أتحدث عن نفسي، وأنا بالأساس أدعو إلى عراق موحد فيه السني والشيعي، يأخذون مواقعهم كلهم حسب الكفاءة وحسب الجدارة والأحقية، ولا مانع عندي من أن تنال مجموعة من طائفة واحدة مكاناً ما في أى مؤسسة عراقية طالما أنهم جديرون بهذه المكانة، لكن أن تصير الأمور كلها وفقاً لانتماءات طائفية ومناطقية، فهذا لا أوافق عليه ولا أرتضيه للعراق، وهذه الطائفية رفضناها أيام صدام رغم أنها لم تكن بهذه الحدة، فطائفية صدام كانت حزبية، وطبعاً صدام حسين في عهده قرّب أبناء العوجة وأبناء تكريت وغيرها، لكنه بعد ذلك لم يمض على هذا المعيار الطائفي، حتى أن 90% من جهاز الثقافة كان من الطائفة الأخرى من غير طائفته؛ محمد سعيد الصحاف، وحميد سعيد، وعبد الجبار محسن، وأعداد أخرى بالمئات لم يكونوا من طائفته رغم أنهم كانوا معه، ولكن الآن سيطرت طائفة حزب الدعوة على الأمور، فإذا ذهب أحد المثقفين إلى أى مؤسسة عراقية يسألون عنه من وين ومن أى المناطق، فإذا كان مخالفاً للطائفة لا يتعاملون معه ولا يخرجوه لا في قنواتهم التليفزيونية ولا في جرائدهم، وهذا شيء مؤلم للغاية.

* كيف ترى الوجه التطبيقي للثقافة في العراق الآن؟

ـ في ظل إقصاء المثقف الوطني بالعراق الحريص على الثقافة الإنسانية والوطنية وعلى نهضة الشعر والمسرح والفن والغناء والموسيقى، تراجعت أمور كثيرة، ولك أن تتخيل أنه في إحدى المناسبات بالعراق، بدأت فرقة موسيقية تقديم معزوفاتها للحاضرين وكان من بينهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، والذي قام بدوره بالانصراف من القاعة كأنما نخزه أحدهم بخنجر، وذلك بحجة أن سماعه للموسيقى حرام، وهذا مؤشر خطير بالنسبة للوضع الثقافي في العراق؛ فعندما يستحرم رئيس وزراء البلد أن يستمع للموسيقى، فكيف بالمثقفين إذن أن يثقوا في دوره الثقافي بالنسبة لبلد حامل لمشاعل الحضارة والنهضة في العالم، فهذا أمر غريب ومحير.

* كيف تنظر لأحداث الربيع العربي من وجهة نظرك الخاصة؟

ـ الربيع العربي أنظر إليه من وجهة نظر مزدوجة أساسها “نعم” و “لا” ، فأما نعم فأقولها لكل الثورات العربية التي تغيّر بشكل عميق وبرؤى فكرية واضحة، ونظرية ثورية حقيقية، وأما لا فأقولها لكل ارتجال ثوري على أيدي رجال رجعيين مرتبطين بالفكر الديني السلفي الظلامي، فنحن لا نريد أن ننقل بلادنا من ظلمة صغرى إلى ظلمة كبرى.

* ما توقعاتك لحجم تداعيات الربيع العربي على المثقفين العرب؟

ـ في رأيي أن المثقفين العرب فوجئوا بهذه الثورات تماماً كما فوجىء بها رجال السلطة، ونحن كمثقفين الآن نعاني من إشكاليات التناقض بين الإلتزام الجماعي والعمل الفردي؛ فهزيمة 1967 زعزعت الثقة في الإلتزام الثقافي الجمعي وجعلته يتراجع، ومن ثم انصرف المثقف الفرد إلى تجويد وتحسين أعماله ومنجزاته الإبداعية من منطلق أنه غير معني بالفعل الثوري، والحقيقة أن كل الداعين للالتزام لم يقدموا إنتاجاً ثقافياً مقنعاً، بل قدموا مجرد مواعظ وكتابات تعليمية توجيهية، ومن ثم فالمثقفون الآن في حاجة إلى اكتساب ثقافة ثورية لم يتعودوا عليها قديماً، لذا فالأمر يحتاج لوقت حتى نواكب ثوراتنا ثقافياً بعد المفاجأة التي وضعتنا أمامها.

* تراث العراق تعرض للكثير من الإهمال واللصوصية فكيف نستعيد هذا التراث ونحافظ عليه؟

ـ للأسف الشديد، المسؤولون العراقيون منهمكون في زياراتهم التي تستغرق الشهر والشهرين في قضايا لا جدوى من ورائها، في الوقت الذي لا يهتمون فيه باسترداد التراث العراقي المنهوب على أيدي الاحتلال من مخطوطات ومقطوعات أثرية وخلافه، وأنت تعرف أن تراث العراق يمثل حضارته التي تمتد إلى سبعة آلاف سنة، وهي حضارة تضاهي الحضارة المصرية القديمة، فالحضارة الفرعونية والسومرية والبابلية والأكادية والآشورية، كلها كانت في أزمان متقاربة وقدمت الكثير للبشرية، ونحن نُحسد على جذور حضارتنا العراقية، لكن الأمر الآن أصبح مختلفاً فهناك خراب وتدهور بعد سرقة المتاحف والمكتبات وأغلب المنجزات الحضارية.

* ما رأيك في حركة الترجمة العراقية وما تعانيه من مشكلات؟

ـ من زمان وحركة الترجمة مسحوقة في العراق، ومن عهد صدام وكل موارد الدولة العراقية مكرسة للحروب والمعارك العسكرية، وأما الآن فأيديولوجية الدولة العراقية دينية طائفية، لذا فهي غير معنية بالاهتمام بنقل وترجمة الثقافات الإنسانية أو العلوم والفلسفات، ولعل الإنسان العراقي الآن يجهل “الآخر” بشكل كبير نظراً للوضع الحالي، وأنا أتساءل أين الإنترنت ومراكز الترجمة والمؤتمرات الحضارية في العراق؟ كل هذا مفقود ونحن في حاجة ماسة إليه، ولك أن تعرف أن العراق تاريخياً منفتح على الآخر، ومنذ أن دخل الإنجليز العراق أوائل الحرب العالمية الأولى، إلى أن انهارت الدولة الوطنية عام 1958، وكثير من منظومة القيم بدأ ينهار ويتداعى ليصبح الوضع بيد العسكر ثم بيد حزب البعث، فنحن كنا منفتحين على العالم، ولكن الظروف هي التي حجبت عنا العالم، حيث شاعت الآن النظرة الدينية والقومية الضيقة والطائفية، فلم يعد هناك رغبة في الاطلاع على الأدب العالمي والفكر الكوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *