اسم الكاتب : خالد سلامة
يشهد العراق وجواره موجة حر حارقة في آب (أغسطس) “اللهاب”. ما التبعات الاقتصادية والاجتماعية لذلك؟ وما هي استراتيجية حكومة بغداد لمواجهة تلك التبعات والاستعداد لما لا يبدو أنه سيكون سحابة صيف عابرة؟
في حديقة الحيوانات الوحيدة في بغداد، يجهد نمران سيبيريان لالتقاط أنفاسهما، مستلقيَين قرب حوض في حرارة تجاور الخمسين درجة مئوية يعاني منها البشر والحيوانات على السواء.
وعلى بعد نحو ساعة ونصف في السيارة عن بغداد، بدا شاطئ بحيرة الحبانية، الذي ازدادت مساحته مع تراجع منسوب المياه، خالياً إلا من بضعة كلاب شاردة ونوارس محلقة. ولم يعد المكان سوى ظلٍّ لما كان عليه في الماضي، ما أثّر سلباً على جذب السياح وترك الشقق السياحية هناك تصفر بها الريح من دون نزلاء.
وعلى بعد مئات الكيلومترات، وفي مدينة البصرة الجنوبية تحديدا، يكافح عامل البناء سجاد الزاملي المرتدي قبعة لحمايته من الشمس الحارقة لكسب قوت عياله. ويشكو من ظروف العمل القاسية في ظل ارتفاع درجات الحرارة، حيث يصاب البعض بالإغماء ويسقطون من المباني.
“الخامس” في العالم
ما سبق انعكاس واضح لمعطيات الأمم المتحدة التي صنّفت العراق بأنه البلد الخامس الأكثر تأثّراً بالتغير المناخي في العالم.
وفي ختام زيارته للعراق، حذّر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك قبل أسبوع من أن ما يواجهه العراق من ارتفاع في درجات الحرارة وجفاف هو بمثابة “إنذار” للعالم أجمع.
وزار تورك جنوب البلاد حيث “الحقول جرداء ترزح تحت وطأة الجفاف”، كما قال. واستعاد تورك تعبيراً استخدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الشهر الماضي، حيث قال إن العالم قد دخل في “عصر الغليان”، مضيفاً أنه “هنا (في العراق)، نعيش ذلك، ونراه كلّ يوم”.
الناشط البيئي جاسم الأسدي دق هو الآخر ناقوس الخطر. وقال في مقابلة مع DW عربية: “تجاوزت درجة الحرارة الخمسين درجة في 13 محافظة عراقية، ما يتطلب مجموعة من الإجراءات والسياسات الملحة كرفع التوعية بضرورة شرب المياه، وقبل كل شيء توفير تلك المياه الصالحة للشرب للمدارس والمجتمعات المحلية، وجعل العمل في بعض المهن الشاقة كما في البناء في الليل بدل النهار”.
وفرضت دول أخرى في المنطقة، ولا سيما السعودية والإمارات، منذ فترة طويلة استراحة في منتصف النهار لتجنب العمل تحت أشعة الشمس المباشرة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.
ويقول مراقبون إن إجراءات الحماية من هذا القبيل في العراق محدودة، إن وجدت أصلاً، وتُطبق بصورة فضفاضة. ويجري تشغيل العديد من العمال بشكل غير رسمي، مما لا يترك لهم سوى القليل من الضمانات القانونية.
وألقت درجة الحرارة بثقلها على حركة السكان، فيما قلّصت بعض المحافظات العراقية لا سيما في الجنوب، مثل ذي قار الدوام الرسمي للموظفين.
أزمة كاشفة
ويعكس الصيف تداخل أزمات يعيشها بشكل يومي سكان العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة، من تهالك قطاع الكهرباء والارتفاع المتواصل في درجات الحرارة بالإضافة إلى النقص في المياه.
“على الحكومة القيام بحملة تشجير حول المدن، وتغير في سياسة النقل: الانتقال من النقل الفردي للنقل الجماعي، وذلك للحد من ارتفاع درجة الحرارة التي تزيد منها عوادم السيارات. فعلى سبيل المثال يوجد في بغداد وحدها أكثر من مليوني سيارة. كما يتعين على الدولة توفير الكهرباء؛ إذ أن المولدات الكهربائية ترفع هي الأخرى درجة الحرارة”، يتابع الناشط في الأسدي في طرح رؤيته لمواجهة الأزمة.
في العراق، الذي “يطفو على بحر من النفط”، يعاني قطاع الكهرباء من التهالك، ولا يوفر سوى ساعات قليلة من التيار خلال اليوم. ويلجأ الكثيرون إلى المولدات الكهربائية، لكن ذلك يكلّف نحو 100 دولار في الشهر لكل أسرة، وقد لا يكون متوفراً للجميع.
وجعل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من مكافحة التغير المناخي واحدة من “أولويات” حكومته، لكن ناشطين بيئيين يحذرون من ضعف التحرّك في هذا الصدد.
وخلال مؤتمره الصحافي في بغداد، أعرب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك عن قلقه من “معلومات تفيد بأفعال عنف وترهيب وتهديدات بالقتل” ضدّ هؤلاء الناشطين. ومن بينهم، جاسم الأسدي، الناشط البيئي المنخرط في العمل على الحفاظ على منطقة الأهوار جنوب البلاد، والذي تعرّض للخطف من قبل مجهولين لمدّة أسبوعين في شباط/فبراير.
الأمن المائي-الغذائي
“ارتفاع درجة الحراة زاد من تبخر المياه، مع العلم أن المياه المتاحة من تركيا وإيران (في نهري الفرات ودجلة وغيرهما) قليلة بالأصل”، يتابع الأسدي، وحسب معلوماته يفوق التبخر 9 مليارات متر مكعب سنوياً.
وتقول السلطات العراقية إن السدود التي تبنيها الجارتان تركيا وإيران تعدّ سبباً رئيسياً في تراجع منسوب نهري دجلة والفرات، اللذين ولدت على ضفافهما أقدم الحضارات والبشرية إلى جانب الثورة الزراعية.
كما أن تراجع هطول الأمطار إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية عاملان ساهما في تعميق الأزمة. وقال المتحدّث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال في وقت سابق لفرانس برس إن المخزون المائي هو “الأدنى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ مطلع عشرينات القرن الماضي”.
ما سبق يلقي بظلاله على الواقع الزراعي وخاصة في الأهوار. “يحتاج العراق لتغير سياساته في ملفي الزراعة والمياه: القيام بحملة توعية للحد من استهلاك المياه في الزراعة عن طريق الري بالتنقيط، والابتعاد عن زراعة المزروعات التي تحتاج كميات كبيرة من الماء كالأرز، والانتقال لزراعة المنتوجات الموفرة للمياه وذات المردودية العالية والتي تحتاجها الأسر العراقية كالخضروات”.
كما ذكّر الأسدي بضرورة الإسراع بإنشاء “ناظم سد البصرة” بهدف التقليل من المياه الذاهبة “هدراً” إلى البحر في الخليج والاستفادة منها.
وفي تموز/يوليو، حذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أن منطقة الأهوار التاريخية في جنوب العراق تشهد “أشدّ موجة حرارة منذ 40 عاماً”، متحدثةً كذلك عن تراجع شديد لمنسوب المياه.
ومؤخراً كشف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن خسارة العراق حوالي 100 ألف هكتار كل سنة بفعل التغير المناخي.
“شعور” بالخذلان
في العراق تمثل الزراعة نسبة 20% من الوظائف وتعتبر ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5%، بعد النفط.
دعا الناشط البيئي جاسم الأسدي إلى “دعم المزارعين والأسر الأكثر هشاشة للحفاظ على أرزاقهم وحيواتهم للحيلولة دون الهجرة من الريف إلى المدينة وما يرافقها من تبعات اقتصادية واجتماعية، ووقف النزيف في قيمة الدينار العراقي وفي العملة الصعبة نتيجة زيادة فاتورة المستوردات بالدولار”.
وحتى منتصف آذار/مارس، كانت هناك “12 ألفاً و212 عائلة (73 ألفاً و272 شخصاً) نازحةً بسبب الجفاف في عشر محافظات عراقية” في وسط وجنوب العراق، بحسب تقرير نشرته مؤخراً منظمة الهجرة الدولية.
في نيسان/أبريل، حذّر تقرير أممي من خطر “الاضطرابات الاجتماعية” التي قد تنشأ عن العوامل المناخية. ونبّه التقرير إلى أنه “في ظلّ غياب الخدمات العامة والفرص الاقتصادية الكافية… قد يؤدي التحضّر والانتقال إلى العيش في المدينة بفعل المناخ إلى تعزيز هياكل قائمة مسبقاً من التهميش والإقصاء”.
وفي مقابلة سابقة لـ DW مع خلود العامري، مؤسسة شبكة مقرها بغداد للصحافيات من أجل المناخ، أكدت الصحافية العراقية أن الكثير من أبناء شعبها يشعرون في الغالب بأنهم يواجهون الطقس الحار بمفردهم بدون دعم من الحكومة.