نوفمبر 22, 2024
3

اسم الكاتب : علي ثويني

نحتفي اليوم بحلول العام السابع من الألفية الميلادية الثالثة ونحن على مفترق طرق من تسميات الشهور والتقاويم التي تسترعي البحث والمقارنة، حيث نجد خمسة مجاميع في كنف الثقافة العربية ، ونرصد في شجونها تنازع الأهواء وتحزب الفرقاء. وانبرى رهط يمنطق مبرر استعمالها ، ويرغب كل منهم في تعميم ما يألف ، بالرغم من أن جلها وضعي ووارد ومستعار من ثقافات أخرى
التقاويم
تعود فكرة ضبط التقاويم إلى جذور سومرية وأكدية عراقية و مصرية .وأخذوها الفينيقيون تباعا في أفلا كهم إلى ثقافات البحر المتوسط، ولاسيما الرومانية منها التي ورثتها عن الإغريق و الشاميين وأقحمت فيها أسماء قياصرتهم كيوليوس وأغسطس ،ثم ليعيدوها إلى العالم وتتلاقفها الثقافات.ونجد ما يدل على الأصول الرافدية لذلك النظام الفلكي الذي ينم عن دلالات عقيدية، هو كم من الكلمات المقدسة من مثل Astrology) وastronomy) التي تعني التنجيم والفلك،وكذلك Star,Stella)) التي تعني النجمة وهي بمجملها تحريف مهذب لكلمة “عشتارAshtar” المقدسة للبابليين ورمزوا لها بنجمة الصباح وهي نفسها عثتر لدى عرب الجاهلية . وقد نجد اسم تموز(دوموز) حبيبها مازال يقبع في قلب التقاويم الآرامية التي ورثناها.ولا بد من الإشارة إلى فضل السومريين وتقاويمهم التي أعتمدت على النظام الستيني،الذي مازالت البشرية لا تستغني عنه أو تجد له بديل،و الذي قسم أجزاء الدائرة والكون والوقت الأرضي على نفس النظام(الساعة-الدقيقة-الثانية)،بما يدلل على أنهم كانوا على يقين بكروية الأرض ودورانها قبل غاليلو بدهور ،والتي مازالت بعض الجهات المتشنجة ترفض الاقتناع به.
وكلمة تقويم منحدرة من مصدر (قّوّم) التي تعني إزالة الاعوجاج من الشيء وتعديله وهي تشكل مجموعة القواعد للتوفيق بين السنة المدنية والسنة الاستوائية ولتقسيم الأزمنة وجاء معنى تقويم البلدان بين طولها وعرضها وإخراج أراضيها. ومازالت كلمة (روزنامة) الفارسية تستعمل حتى اليوم والتي هي في حقيقتها مركبة من كلمتين (روز) وتعني يوم و(نامة) وتعني كتاب أو سجل أي كتاب الأيام ،ومن الطريف أن الإيرانيين يفضلون استعمال كلمة (تقويم) العربية على “روزنامتهم”.و اليوم لدينا صنفين من التقاويم المستعملة هي القمرية أو العربية والأخرى الشمسية (الإفرنجية أو المسيحية أو الميلادية). وأستعمل جل العرب التقويم الميلادي ما عدا العربية السعودية التي تستعمل التقويم الهجري.وثمة تقويم تتداوله الجماهيرية الليبية تفردا يعتمد سنة وفاة الرسول محمد(ص) بداية له، ولم يحاكي الليبيين بذلك بلد أخر،أو إيران لديها شهور عربية وحساب سنين آخر،حيث هو 1327،بما يقابل العام 2006م. وعادة ما اتبعت الدول صيغة ذكر التاريخين معا ولاسيما في الوثائق الرسمية. و انحصر دور الهجري لدى العامة في ضبط التواريخ الدينية .
وكلمة الشهر ترد في الآرامية بلهجتيها الغربية الشامية والشرقية العراقية بصيغة (يرخو –يرخا) التي جاءت منها (يؤرخ) العربية،وربما لأسم مدينة أوروك حيث كانت تسمى(أورخا)،و التي تعتبر الأقدم في مدن الدنيا وتداخل الأمر مع القدم أوأخبار الماضي أو التاريخ. وكلمة “الشهر” وتعني في العربية كذلك القمر، وقد وردت في القرآن الحكيم ،سورة البقرة-الآية 184 : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وقد كانت في اللغات السامية (العربية البائدة) ،تعني الأمر نفسه بسبب ارتباط الشهور بدورة القمر فقد سميت (سهر) في بعضها وكذلك (سين) الذي اقتبست منه كلمة سيناء، بما تعنيه الكلمة من روحانيات وعبادة آلة القمر لديهم. و ترد أحيانا في السريانية بصيغة ( Sharo شارو) ،حيث ذكر “الجواليقي” في (الإتقان ص 140) بأن اصل الكلمة سرياني (سهر) الذي عرب بعد ذلك .وجاء لدى العرب بما يعني الكثير فقال في ذلك “ثعلب” بأنه سمي شهرا لشهرته وبيانه لان الناس يشهرون دخوله وخروجه.وقال غيره سمي شهرا باسم الهلال لانه إذا أهل يسمى شهرا ،وقال “ذو الرمة”: يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل.
والتقويم القمري سبق التقويم الشمسي لسهولة تتبعه بحسب ظهور القمر دوريا، ولكنه يقل بيوم واحد كل عام عن التقويم الشمسي, وسميت أسماء الشهور القمرية منذ القدم وأهتم بها وطور حسابها الكلدان في بابل. و ثمة شهور منها تدعى الأشهر الحرم، وقد حددت لها قوانينها وضوابطها وصل حد تحريم وتحليل صيد البر والبحر، ومنع بها إعلان الحرب الذي تمادوا به أهل السياسة والإرهاب ذو اللباس الديني اليوم ليعلنوا الحرب متى شاءوا . وقد قالت العرب إن الأشهر الحرم أربعة ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ،ثلاثة منها سرد وواحد فرد ،ويرد في تراث العرب أن شذ عنها قبائل بني خثعم وبني طي ،حيث كانوا مثل عرب اليوم يستحلون في تلك الشهور الحروب.
و كان لعرب الشام أو الحجاز واليمن تقاويمهم قبل الإسلام ،التي سرعان ما اضمحلت بعد إقرار التقويم الهجري فمثلا أرخ سكان مدينة بصرى في سجلاتهم لتأريخ يقل بـ 105 أعوام عن التأريخ الميلادي المعاصر ،كما وجد ذلك (دوسو) عندما تتبع منابع الخط النبطي في بادية الشام، ولاسيما في حرة وادي السوط في جنوب حوران. وثمة جداول نظمت لضبط الفرق بين التاريخين الهجري والميلادي ولاسيما لدى الباحثين والمؤرخين الذين يستسهلوا إضافة العدد622 وهو عام الهجرة الميلادي الذي حدث في 16 تموز (يوليو) عام 622م إلى التاريخ الهجري مع ضربها بمعامل بسيط فحواه الفرق(11 يوما) بين التقويمين ليظهر لهم بالتقريب العام الميلادي.
تقاويم الشرق القديم
وما وصلنا من ميراث ثقافات المنطقة العربية اليوم عيد شم النسيم وفيضان النيل في مصر الوارد من التواريخ الفرعونية وكذلك الحال في كثير من الأعياد الرافدية. فمازال الفلاحون في جنوب العراق يستعملون أسم نيسان للدلالة على موسم الحصاد الذي يرد بصيغة الفعل (نيسن) ،ويعتقد أن نيسان تعني (نيشان) أي علامة لموسم الحصاد ،وكذلك لذكرى عيد رأس السنة البابلية(الأكيتو) الذي هو بالأساس قد وردهم من السومريين عندما كانوا يطلقون عليه أسم(زكموك) .وقد كان في هذه المناسبة يعاد تجديد البيعة للملك في بابل والذي يصادف الأيام الإحدى عشر الأولى من هذا الشهر والتي تقع اليوم في نهايات آذار وبدايات نيسان ويصادف موسم الاعتدال الربيعي. فهو في العراق عيد دورة السنة أو وعيد النوروز.وتحتفل به كل شعوب الشرق تقريبا،و من المؤكد بأن الأكراد والفرس و تبعهم بعدها الاتراك كان قد أخذوه من بابل وربما سومر من قبلهم،وهو بذلك يوم يخص تقاويم العراقيين عموما ، وليس فئة منهم، ويجدر إحياءه في العراق الجديد، و يصادف يوم 21 مارس ويرمز الى تساوي الليل والنهار.
وكلمة نوروز تعني بالفارسية(اليوم الجديد) وهو يصادف يوم دخول الشمس برج الجدي . وثمة نوروز خاص بالعراقيين المندائيين (الصابئة) يصادف اليوم السادس والعشرين من تموز ،ويكنى يوم نوروز الصغير المندائي ـ نوروز زوطا ـ وهو اليوم السابع والأكثر قدسية في عيد رأس السنة المندائية ويسهر المؤمنون في ليلته حتى الصباح ويسمونها ليلة السلام العظيم ـشيشلام ربا ـ حيث تكون فيه أبواب الدعاء مشرعة. وبنفس المعنى يطلق على نوروز بالتركية (يني كون) و يعني اليوم الجديد. وقد تداوله العرب كذلك وذكر في سياقات التاريخ الإسلامي ،حيث كان ذلك يمارس على نطاق دوري في مدن بغداد وسامراء خلال الحقبة العباسية وكان المتوكل يوزع فيه الهدايا .وورد في شعر البحتري:
وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأصل نوما
أو
لا تخل من عيش يكرّ سروره أبداً ونيروز عليك معادِ
ومن الجدير ذكره أن طائفة الصابئة(المندائية) في العراق مازالوا يطبقون التقويم البابلي حتى يومنا هذا في أعيادهم الدينية بحسب بعض الباحثين ،ويعتبرون أن يوم 21 آذار(مارس) هو يوم تساوي الليل مع النهار واتصال ذلك بالتوازن بين عالم الأنوار والظلمات الذي تنبني على أساسه عقيدتهم. ومازالوا يعتبرون يوم 20 كانون الأول (ديسمبر) الذي يطلقون عليه احتفال (البنجة) وهو يوم زيادة النهار على الليل وزيادة عالم النور أو (هيبل زيوا) في عقيدتهم. ولكن الباحث ثائر صالح يأخذ مذهبا آخر حيث يذكر في مقاله (رحلة التقاويم – جريدة الحياة 1996) أن التقويم المندائي يحاكي التقويم المصري،وهو يدخل في السجال حول أصول المندائية،أو تداخل بعض المفاهيم المصرية والغنوصية(العرفانية) فيها، أو حتى اقتباسات أوردها مندائيي الشام قبل رحيلهم إلى أهوار العراق. وكان المصريون قد ضبطوا تقويمهم على فيضان نهر النيل كونه يعتمد على مصدر رزقهم وهو النشاط الزراعي، بحيث قسموا السنة إلى 12 شهراً، كل شهر بثلاثين يوماً، وأضافوا ”شُهيراً“ صغيراً من 5 أيام لتعديل الرقم من 12× 30= 360 يوماً إلى 365 يوماً، وهو أقل من السنة الشمسية الفلكية بأقل من ست ساعات. وعرف المصريون القدماء ذلك الفارق، وحسبوا الدورة التي يعود عندها التطابق بين السنة المصرية والسنة الفلكية، وهي 1460 عاماً وأسموها دورة سيث (نسبة إلى نجمة سيريوس وهي الشعري التي يرتبط ظهورها بفيضان النيل). ويذكر ثائر صالح أن الأيام الخمسة الكبيسة لدى عامة الصابئة تسمى بالبنجة، وهو مواعيد عيد الخليقة، والاسم مأخوذ من الكلمة الفارسية بنج أي خمسة. وانحرف التقويم المندائي عن التقويم الميلادي المستعمل حاليا بحوالي 193 يوماً، فقد قابل اليوم الأول من كانون الثاني 1992 يوم 11 تموز حسب التقويم المندائي، أي أن آخر تعديل جرى على التقويم المندائي حدث العام 1220 ميلادية، في أواخر أيام الدولة العباسية، وكما يورد، لم يعدل الصابئة تقويمهم منذ ذلك الحين.
ونقرأ للكاتبة والأكاديمية الأمريكية كارن ريما نيمت-نجاة عن أثار حضارة بلاد ما بين النهرين الموجودة في مختلف متاحف العالم في كتاب(الحياة اليومية في بلاد مابين النهرين قديما) بأن ثمة مواسم للترفيه والتسلية شكلت جزءا من حياة السكان اليومية منها الصيد والرياضة والعاب التسلية. وتذكر أن العراقيون استخدموا التقويم الشهري القمري الذي يتكون من 29 أو 30 يوما ستة منها كانت مخصصة للعطل وثلاثة للاحتفالات القمرية وثلاثة أخرى للراحة. وكانت كلا من العطل الشهرية والسنوية اوقاتا للألعاب والتسلية.
وتذكر الكاتبة الأعياد العراقية ولاسيما الدينية الدورية التي تتلخص في العلاقة بين المدينة وإلهها مثل عيد السنة الجديدة وعيد كل معبد وإله. وكانت الأعياد تدور في المعتاد حول الدراما الدينية. ونقرا في نص يخص الطقوس و الشعائر الدينية. ” سوف يشعل ناس الأرض النيران في منازلهم وسوف يقيمون الولائم لكل الآلهة وسوف ينشدون الأناشيد “. وكان أعظم الأعياد التي يُحتفل بها في العصور البابلية هو عيد السنة الجديدة خلال الأحد عشر يوما الأولى من شهر نيسان (أبريل ). وكانت الأيام الأولى منها تخصص للوضوء الديني والصلاة وفي مساء اليوم الرابع تتلى ملحمة الخلق كاملة على الملأ التي تبين كيفية خلق العالم من خلال نصر مردوك الذي زود البابليين بالضمان بأن العالم الذي عرفوه سوف يستمر ولن يتغير. واليوم الخامس يخصص أكثره للتطهر الديني. وفي هذا العيد يُحتفل في الزواج المقدس في مدن معينة. وهو دراما الخصوبة الذي يُعتقد بأنه القوة التي تنمي التمور والنباتات والفواكه وقطعان الماشية في المراعي. في هذا الطقس الديني يمثل الحاكم، الكاهن-الملك أو الملك الإله واتصاله الجنسي مع الآلهة انانا التي تقوم بدورها كاهنة أو ربما حتى الملكة ينتج عنه الخصب في كل الطبيعة.
السنة الأشورية
و في التراث العراقي القديم عيد أكيتو ،أو رأس السنة الآشورية الذي يصادف الأول من نيسان من كل عام،والذي يعتبر أحد أقدم أيام العراقيين. ومازال الاحتفال به يرد حتى اليوم بما يكتسيه من مكانة مقدسة لارتباطها بموسم الأمطار وبداية السنة الجديدة وزيادة الخصب ونمو الأعشاب وتكاثر الحيوانات . وتدل الألواح الطينية المكتشفة في المدن الآشورية القديمة بأن الاحتفالات كانت تستمر لاثنتي عشر يوماً تتخللها ممارسة طقوس دينية وسحرية وشعائر وتقديم خلالها قرابين ومراسيم مرور مواكب احتفالية كبيرة وإقامة بعض الألعاب الرياضية ورقصات تضفي عليها رمزية نشوء الخليقة يتقمص المشاركون فيها ملابس وأقنعة تنكرية. ويمكن أن يكون هذا العرف العراقي قد طار في الأفاق وعم بعده عادة التنكر في الحفلات حتى يومنا في ثقافات العالم .
وكانت الاحتفالات تقام في ساحات كبيرة ويحضرها أعداد كبيرة من المشاهدين والمشاركين من ممثلين وموسيقيين وغيرهم إضافة إلى ضيوف شرف، كالملوك والزعماء الذين كانوا يردون من الدول المجاورة.ويمكن رصد تلك الاحتفالات اليوم لدى الآشوريين واليزيديين الذين تبعوا لنفس البيئة والتراث المشترك. وكان في التاريخ يشارك الملك وحاشيته والكهنة وبقية الشعب وفي اليوم الأول يقوم الملك بوضع حزمة من محصول الشعير حول تمثال الإله آشور تعبيراً عن الشكر والامتنان له . أما في اليوم الثاني والثالث فتكون المراسيم عبارة عن طقوس سحرية ودينية في المعبد الخاص وبحضور الكهنة لتمجيد الإله وذلك بالسجود نحو القبلة باتجاه شروق الشمس إضافة إلى الطواف حول المعبد . وفي اليوم الرابع يقوم رئيس الكهنة في سرد قصة الخليقة على مسامع الملك وحاشيته وعموم الشعب ويبدأ بعدها في عملية إعلان بدء السنة الجديدة رسمياً . وتبدأ في اليوم الخامس عملية تقديم القرابين والذبائح للإله ورش جدران المعبد بدم تلك الذبائح وتعقبها عملية تقديس مياه نهر دجلة برمي الذبائح فيه. وفي اليومين السادس والسابع تصل الاحتفالات ذروتها في قيام الملك بالإعلان عن خضوعه وانصياعه للإله المقدس وأداء صلوات الغفران وتأديته قسم الالتزام بما تمليه عليه واجباته في حماية الشعب والمعابد والمدن من الأعداء والدخلاء والغاية الأساسية من الفعاليات في اليوم السابع هو تبيان ما ستؤول إليه الأمور في حالة غياب السلطة المتمثلة بالملك وفي هذا اليوم يتنازل الملك عن العرش ويعلن عن هجرة الإله للناس لتسود الفوضى والاضطراب في عموم البلاد ويعتقد البعض بأن ظاهرة الكذب في الأول من نيسان والتي يطلق عليها ( كذبة نيسان ) يعود اصلها إلى ما كان يمارس في هذا اليوم لدى العراقيين ،من فوضى واضطرابات وفي اليوم الثامن يتم الإعلان عن عودة الإله وجلوس الملك على عرشه من جديد وسيادة حالة الاستقرار والأمن . وأما في اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر من الاحتفالات فكانت مخصصة لطقوس خاصة بالزواج المقدس وزيادة النسل وفي اليوم الثاني عشر وهو اليوم الأخير فكانت تطغي عليه مراسيم حفل الختام وتوديع الضيوف والمتمثلة في مغادرة الإله بعد مباركته الملك والشعب والبلاد . وهنا نرصد القدسية للرقم إثناعشر الذي ورد في عقائد أخرى في العراق .
ولا يزال الآشوريين في مواطنهم في شمال العراق يحتفلون في الأول من نيسان مع بداية الربيع من كل عام ولكن بطريقة تختلف عما كان قائماً قبل آلاف السنين بعد أن قاموا بتجريد احتفالاتهم من الممارسات الميثولوجية بما يتعارض مع إيمانهم المسيحي. ولعل ابرز ما يقوم به الآشوري منذ حلول ساعات الفجر الأولى في الأول من نيسان هو قيامه بجلب حزمة من العشب الأخضر وتعليقها في أعلى مدخل الدار قبل نهوض الأطفال والتي كان يسميها جدي الطيب ( دقنا دنيسان ) وهي التسمية الآشورية لقبضة العشب الأخضر المعلقة فوق مدخل الدار والتي تعني بالعربية ( لحية نيسان ) وحينها يخرج الناس إلى المروج الخضراء للاحتفال بقدوم نيسان الخير والبركة التي للأسف اختفت خلال السنين الأخيرة ،ولاسيما عندما حلت سلطة البعث في العراق.
أسماء الشهور
و بصدد أسماء الشهور ،فأن جلها ورد من التسميات القديمة فمثلا نجد في الأشهر القمرية أسم عاشور وهو أول شهور العرب وهو نفسه وارد من الديانات القديمة في العراق التي مجدت ألهتهم (أشور) الذي أتى بتسمية الآشوريين ،وكان قد أقتبسه الفرس كذلك وأسموه (أهورا) مقترنا بالآلهة الفارسي القديم. وفي سياق اقتباس الكلمات من الفارسية نجد كلمة (مهرجان) التي تعني عيد الملك وهو الذي يحتفل به في الخريف.
وبسبب جهل المؤرخين المسلمين بالآرامية واللغات الشرقية المنقرضة عموما فكان سهلا عليهم أن ينسبوا الكلمات لأصول فارسية أو رومية أو يقربوها إلى معان في العربية كونها من (السامي المشترك) مثل كلمة (كانون) التي مازالت تستعمل بدلالات لغوية تعني موقد النار بما يعني الشتاء الذي تحل به المواقد . وذكر البيروني بعض التسميات وضن بأنها مجوسية ويعني بابلبة لاختلاط الحال عنده بين المانوية البابلية والزرادشتية الفارسية.
ونجد ما قاله صاحب اللسان مبتدءا بشهر (آب-أغسطس): (و آب من الشهور أعجمي معرب) وتمادى في ذلك بخصوص شهري كانون (والكونان شهران في قلب الشتاء، رومية) .ووهم مثله صاحب (القاموس) بقوله :(وحزيران اسم شهر بالرومية وكذلك نيسان وتشرين وآذار). وزاد “الشرتوني” (ج2:ص 1108 ) شرحا بقوله (والكونان شهران في قلب الشتاء ،و قيل هو عربي مأخوذ من معنى الثقل لشدة برده وصعوبة المتسبب والحركة فيه وقيل دخيل). وقال “البيروني” في (الآثار الباقية ص 59 و 318) (المجوس وقد يسمون الشهور بالأسماء السريانية، أما النصارى بالشام والعراق و خراسان فقد مزجوا بين شهور الروم وشهور اليهود، وسموها بأسماء سريانية وافقوا في بعضها اليهود وباينوهم في بعضها). وقال “ابن العبري” في كتابة الفلكي السرياني الموسوم بـ(الصعود العقلي مج 2 ص 190): (فمن الأمم التي عدت بعض شهورها ثلاثين يوما ومنها أكثر من ثلاثين وبعضها أقل منه كالرومان واليونان والرهاويين(أهل حران أو أورفة أو أوديسا) والسريان،واما الرهاويين لما اقتبسوا أسماء الشهور من العبرانيين لم يوافقوهم في تقسيم كمية أيامها لكنهم وافقوا في ذلك اليونان والرومان. وفي قول هذا العلامة فأن مجموعة من أسماء شهور العبرانيين لا توافق أسماء شهور السريانيين وهي : مرحشوان، وكسيلو ،وطيبث، وسيون والثلاثة الأولى توافق تشرين الثاني(نوفمبر) وكانون الأول(ديسمبر) وكانون الثاني(يناير) .ومن الجدير ذكره أن لليهود بعض التسميات المشتركة مع السريان ولكن الملفت أنها تعني أشهر أخرى فمثلا أيار لديهم يعني شباط السرياني وحزيران يدعوه آذار أول ثم ثاني وأب يحل محل آيار ..الخ.
وأورد الأب دورم في كتابه (البلاد الواردة في الكتاب المقدس ص 42 )، أن طيبثTebet وسيون Siwan اسمان بابليان، وليس عبريان ، و يؤكد اقتباس اليهود للكثير من المفاهيم ومنها أسفارهم من أساطير بابل. وذكر أيضا في كتابه أنف الذكر وكتابه المسمى بـ(الديانة الآثورية البابلية) أن أسماء شهور آذار ونيسان وأيار وتموز وآب وأيلول ( ويسمونه أولولوUlulu) وتشرين ويذكرونه مرخماً(تشري) كما هو عند العبرانيين والسريانيين أيضا Tesrit وهي بابلية الأصل ، ومن البابلية أخذها العبرانيون والسريان فقال العبرانيون ، نيس، واواب (مثل السريان) وتمز، وايلل، وسفط .أما حزيران، وكانون الأول، وكانون الثاني فأسماء سريانية ووردت كذلك Hziron, Kanoun, Kadhmoio, Konoun, Traino) ) .
وأخذ العبرانيون نظام التعديل الذي يقرب السنة القمرية من السنة الشمسية كثيراً الذي يمكن حسابه مقدماً من الكلدانيين في القرن الرابع ق.م. بعد أن كانوا يستعملون سنة قمرية خالصة، واحتفظوا بهذا النظام إلى اليوم، وأخذوا أسماء الأشهر الكلدانية – البابلية: طبيتو، شباطو، ادارو نيسانو، ايارو، سيمانو، تموزو (أو دموزو)، آبو، ألولو (أو أولولو)، تشيرتو، اراشامنا، وكانونو (كسليمو أو كسليفو). وهذ الأشهر بالعبرية: طبيث، شباط، ادار، نيسان (أبيب = الربيع)، ايار (زيو)، سيوان، تموز، آب، ألول، تشري (إيثانيم)، مرحشنان (بول)، وكسليف. وأسماء الأشهر هذه أخذها العرب والأتراك أيضاً مع تغيير بسيط، وقبلهم الأراميون والمسيحيون والسريان والمندائيون. ولدى الصابئة تسمى الأشهر طابيث، شباط، آدار، نيسان، أيار، سيوان، تموز، آب، ألول، تشرين، مشروان، وكانون.
ويمكن أن تكون بعض تلك التسميات من أصول سومرية وهي أولى الحضارات المثقفة في جنوب العراق مثل كلمة (دموزي) أو (تموز) الموحي بشغفهم بزوج آلهتهم القديمة (أنانا) التي أصبحت لدى البابليين عشتار . و( دموزي) تعني في لغتهم (الأبن الشرعي) وتم انتقالها مثلما نقل الكثير من مظاهر الثقافة والحضارة إلى الاكديين أول الشعوب السامية(العربية البائدة) التي خرجت من الجزيرة ، و انتقلت دواليك إلى من ورثها من الأقوام الآمورية والكنعانية والكلدانية والآرامية واقتبسها العبرانيون فأصبحت إحدى شهور هم ونقلها الفينيقيون إلى اليونان فحرفت و أصبحت (أدونيس) لتضطلع بنفس المعنى الروحي.وقد أكد ذلك عالم التأريخ (جيمس فريزر) في كتابه (الفص الذهبي) والذي ترجمه المرحوم جبرا إبراهيم جبرا. ومن الطريف نذكر هنا ،أن العراقيين القدماء ولاسيما البابليين كانوا يحزنون في أيلول الذي يشعرهم ببواكير الخريف ونضوب الخصب والخضرة ،وقد جعلوه موسما للبكاء والعويل على (دموزي) بعد أن زال خصبه ،وما كلمة أولولوUlulu التي ورد منها (ايلول)إلا تعني الولولة أو النحيب في العربية ونلاحظ أنها قريبة لشقيقتها.ومن الغريب أن لها مرادف قريب في الإنكليزية (wailing ) ويعني الأمر عينه ،بما يدعوا إلى العجب العجاب.
وهنا نقف على الأرث العراقي في المسميات الغربية التي تتداولها التقاويم اليوم، حيث أن جل تلك التسميات تخلو من المنطق السديد وتكتنفها فوضى وتسلسل وارد من مصادر شتى. فهي أما هجين من الاقتباسات الرومانية اللاتينية التي ورثت الحيثيين في آسيا الصغرى،ونقلت من الإرث العراقي جل نتاجه من واجهته في الشام أو الفرات الأعلى، أو استرسال رقمي قديم حينما كان العام يبدأ في الشهر الثالث الحالي (21 منه) كما أسلفنا قي نوروز أو اليوم الجديد. ونجد في سياقات المعاني أن (يناير) يعني شهر الشباب أو التجديد و(فبراير) يعني شهر التدفئة و (مارس) ورد من بقايا الوثنية والفلك ، ويعني المريخ. ونرجح التحريف الذي طرا على أسم (أبريل) بالقلب من الإرث السامي (يسميها البعض العربية البائدة)، بعدما كانت (أربع أيل) أو (اربيل) التي تعني الآلهة الأربع، و(ايل) أكدية ،وتعني (الله) العربية ومنها وردت إسماعيل (المطيع لله)وجبرائيل(عبد الله) وميخائيل (الله المحيي)، وبابل أو باب -أيل(باب الله)..الخ.ومن ناحية موقع أبريل فهو الأصح من حيث وروده الرابع. ونجد الخلل الرقمي قد ورد في الأشهر الرقمية بعد تسميات الملوك التي تنتهي في أغسطس، مثل سبتمبر ،الذي يعني في اللاتيني،الرقم السابع وموقعه التاسع و أكتوبر ويعني الثامن وموقعه العاشر وديسمبر ويعني العاشر وموقعه الثاني عشر.وهذا يؤكد أنهم كانوا يبدءون سنتهم بفارق شهرين، أي في الشهر الثالث أو آذار-مارس، وهو رأس السنة العراقية القديمة.
ومن المعلوم أن الغرب أستعمل التقويم الروماني الشمسي المعروف بالتقويم اليولياني، الذي أدخله يوليوس قيصر العام 46 ق.م. وأضاف سنة كبيسة كل أربع سنوات ليكون طول السنة اليوليانية 365 يوماً وربع اليوم. لكن هذا التقويم يقل في الواقع بـ 11 دقيقة و 14 ثانية عن السنة الفلكية، هذا يعني اختلاف يوم واحد كل 128,2 سنة أو ثلاثة أيام كل أربعة قرون تقريباً. وقد أصلح البابا غريغوري الثالث عشر هذا الخطأ العام 1582 م، حين أمر باستعمال التقويم المعروف حالياً بالتقويم الغريغورياني. وبدأت الدول الكاثوليكية استعمال التقويم الغريغورياني في القرن السادس عشر، أما الدول البروتستانتية فلم تستعمله إلا في القرن الثامن عشر. ولم تعترف الكنيسة الباروسلافية الروسية بهذا التقويم، ولم يجر إصلاح التقويم في روسيا إلا العام 1918، ولهذا السبب اختلف التقويم الروسي عن التقويم الغريغورياني المستعمل عالمياً حتى وصل الفارق إلى 13 يوماً .
وهكذا نجد الكثير من مسلمات الأمور التي يجدر إعادة المعاينة بها ، على المبدأ البحثي “الشكي” العراقي.و نقر بأن تقاويم الدنيا تدين للمنتج الفكري العراقي ومازالت تحتفظ بالكثير من حيثياته. وثمة دعوة لتبني تقويم سنوي يخص العراق كأمة ودولة، يبدأ منذ تأسيس أول دولة عراقية ،والتي تمكث أول دولة في التاريخ الإنساني، على يد سركون الأكدي، قبل 4377 عام، حينما تيقن وبفطنة عراقية، أن شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها هي أرض واحدة،ولايمكن فصلها عن بعضها، وإن إقتطاع جزء منها يعني يباس الأجزاء الأخرى وموتها، معتمدا على حكمة البيئة النهرية التي خلق منها الوطن العراقي(بيت النهرين). ومنذئذ تأسست أول دولة عراقية، ولم تكن عطية أو فبركة جاء بها سايكس- بيكو كما يروج له القوميون العرب والأكراد والطائفيون السنة والشيعة اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *