اسم الكاتب : علي ثويني
نحو إحياء السنن الفلسفية العراقية في منظوماتنا التعليمية
نقلت الأخبار بالأمس عن أن طالبا فرنسيا أسمه جيروم شاراس ابن شقيق وزير اشتراكي سابق قد كسب معركة قضائية ضد الدولة الفرنسية بعدما رسب في امتحان الفلسفة لان مدرسّه كان نادر الحضور الى الصف.وفي أول حكم من نوعه في البلاد التي تمارس حماية كبيرة لموظفيها ولجذورها الثقافية فاز الطالب بالقضية، بعد أن أدى إخفاقه في التعرف على الفيلسوف الالماني (أرتور شوبنهاور) الى حرمانه من دخول كلية رفيعة المستوى.
وهكذا نلمس دور درس الفلسفة في المنظومة التعليمية للدول المتحضرة، والذي يبدأ به مبكرا في سنوات التربية،نظرا لما للعمر من دور في رسوخ الأفكار والتوجهات. وعلى خلاف ما عندنا في العراق حينما خلت منظومة ساطع الحصري (1880-1968) التعليمية، من أي نفحات و إنفتاح فلسفي. وربما تعرض الحصري الى ضغوط من بعض المتشنجين الدينيين في حينها ،وهو الذي شارك في وضع منظومة كرواتيا التعليمية، أو ربما هكذا كانت مراميه ورهطه الذين جلبهم فيصل الأول وزكتهم الخاتون كرترد بيل(1869-1926).ومن الجدير بالذكر أن الحصري بدأ حياته السياسية قوميا تركيا (طورانيا) في حزب الاتحاد والترقي،ثم تحول بعدها بقدرة قادر، الى (مفكرعروبي) ووضع منظومة التعليم و التعريب العراقية، وقد قرأنا جميعا كتابه (القراءة الخلدونية) الذي وردت تيمنا باسم ولده خلدون.
كان المقصود من حركة الحصري التعليمية أن يخرج من المدارس والجامعات العراقية موظفين وكتبه لتمشية أمور الإدارات، وليس أجيال متنورة تبحث عن بواطن الأمور من خلال آلية الفَلـْسَفَة التي تمكث منذ التاريخ القديمُ حقل للبحث والتفكير يسعى إلى فهم غوامض الوجود والواقع، و يحاول أن يكتشف ماهية الحقيقة والمعرفة، وأن يدرك ماله قيمة أساسية وأهمية عُُظمى في الحياة. كذلك تنظر الفلسفة في العلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع. والفلسفة نابعة من التعجّب وحب الاستطلاع(الفضول) والرغبة في المعرفة والفهم. بل هي عملية تشمل التحليل والنقد والتفسير والتأمل وتنعكس على عدة جوانب حياتيه منها الأخلاق والجمال، الذي تسعى كل المجتمعات لتكريسها ،بعدما سعت لها الأديان منذ نشوءها الأول.
ولفت نظرنا خبر الطالب الفرنسي جيروم ،كون فرنسا كانت ومازالت موئل للفلسفة الأوربية،فمنذ “عقلانية” ديكارت ،حتى” تفكيكية” دريدا ،مرورا برهط طويل من الفلاسفة،تبوأت الثقافة الفرنسية من خلاله الحضور الأوفر في الثقافات كلها، وتقمصها حتى أعدائها كالأنكليز والألمان والإسبان. أما رينيه ديكارت (1596-1650) فقد عمت فلسفته أوربا، ويعزي الكثيرون نهضتها من جراء أفكاره الجريئة والواقعية،وتسنى له أن يؤثر في كل التوجهات النهضوية حتى بعد وفاته المفاجأ الذي حدث في السويد النائية ،بعدما أستعارته الملكة كرستين نفسها ليعلمها الفلسفة، ولم يكن الجو البارد هنا يلائم صحته. وكانت الملكة قد حددت له الساعة الخامسة صباحا وقتا للتحدث معه في الفلسفة وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جدا على الفيلسوف، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11 شباط البارد من عام 1650.
وفي هذا السياق نذكر بأن ديكارت الذي تبنى المنهج (الشكوكي) في الفلسفة تبعا لمقولته الشهيرة (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وتسنى للشك أن يولجه إلي حقيقة أن العقل إذا أدرك أنه يفكر فهو دليل إثبات على وجود من يفكر.. ودليل مضاف على وجود الروح الحية . وتسنى له أن يشع بفكره وأن تتمخض (شكوكيته) تباعا عن منظومة (الأنوار Elightenment) في القرن الثامن عشر التي عمت ألمانيا أكثر من فرنسا نفسها،بسبب الأحداث السياسية والتقلبات (الثورية). ومفهوم التنوير هذا كان قد وضعه ديكارت نفسه، بمفهوم لا ديني ،ولم يكن يريد أن يكون نقيضا للدين البته، كما ذهب الى ذلك فولتير وديدرو في فرنسا من بعده .
وكان قد أشار الوزير الجزائري المثقف المرحوم (أبو القاسم آيت بلقاسم) مرارا بأنه وجد في مكتبة ديكارت التي تقبع اليوم في باريس على كتاب غير ذي شأن للأوربيين، مؤلفه الإمام أبو حامد الغزالي(1058-1111م)، وهو ملئ بالهوامش، يكرر فيها عبارة (وهذا مانتفق معه ونتبناه)، أي أن مبدأ الشك واليقين الذي تقمصه ديكارت، قد جاءه من مدد الإمام الغزالي، الذي بدوره أتى بسنة فلسفية عراقية قديمة جوهرها الشك والبحث عن اليقين دون طائل ،بما حرك العقول وشوق النفوس وصنع جدوى للحياة في بيئة يعمها الطوفان والكوارث كل عام،ولا حدس في ما تؤول إليه الأمور.
وقد وطأ الغزالي مبدأ (الشكوكية) بعدما حل بالعراق ،و وجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: “الفلاسفة” الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و”المتكلمون” الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و”الباطنية” الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و”الصوفية” الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة. وسعى الغزالي جاهدا ليتقصى الحقيقة بين تلك التيارات الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد، حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه (المنقذ من الضلال). بيد أنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، وهكذا أصابته “السوسة” العراقية فأنتج في ترحاله وقراره أكبر ما تفتخر به البشرية من فكر (شكوكي) .ونجد مذهبة في ما كتبه موضحا: ( إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم). ويطرق تجربة البحث عن الحقيقة فيقول( فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا ( . وهو يفسر ذلك بأن: (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال(.
وتجسد مبدأ (الشك واليقين) بأقدم نموذج عراقي مدون جاء في ملحمة كلكامش حينما عكست شكا في ثوابت الكون ومطلقه وهو (الموت)، الذي لا ريب فيه،ونجد في ثنايا الملحمة إشارات للتصوف والزهد وطلاق الدنيا، الذي لا نستغرب ظهوره في العراق الإسلامي بعد قرون من تلك الريادة.
وقد عكست ملحمة كلكامش بصدق هواجس عراقية وردت من بيئتها ،و استمرت”ثابتا” ثقافيا الى اليوم، وتبناها في الأزمنة (العتيقة antiquity )حتى فيثاغورس (الحراني) استنادا الى إشارة خفية ورامزة ودقيقة وذات دلالات له في رسائل( إخوان الصفا وخلان الوفا) حينما وسموه بـ (شيخنا فيثاغورس الحراني)، أي كونه عراقيا من حران التي هي إطلالة وبوابة الفكر العراقي (الشكوكي) على جهات الغرب،و نسب جزافا بسبب أسمه وجغرافية (حران) بعد تبدل الدول، الى النتاج الفكري الأغريقي، ودليلنا بأن نظرية المثلثات التي نسبت إليه، قد وجدت في بابل برقم طيني تعود الى ألف عام قبله .
ويمكن أن تشكل هذه المعلومة تشجيعا للبحث والتدقيق في فك رموز المليون رقم طيني ونيف المسروقة من المواقع الآثارية العراقية ،و التي تقبع اليوم منسية وتائهة وتحمل الكثير من الأسرار في متاحف اسطنبول وبرلين واللوفر والأهم ما تضمه (سراديب) المتحف البريطاني، ويقدر عددها بنصف مليون رقم، و التي سوف يكون فتح رموزها وبالا على مسلمات العلم وشطحات النظريات التي لوت أعناق الحقائق خلال قرون، فيا ويلها من فتح قمقم الأسرار الأركيولوجية. وأرجح بهذا السياق أننا سنجد في حيثيات تلك الآثار، جذور الفلسفة اليونانية (الشكوكية) من أصولها العراقية.
ومن الجدير بالذكر بأن الإمام أبو الحسنين علي (ع) تبنى نفس المنهج الفلسفي العراقي كونه أرتبط بفكر أهله وأنتمى إليه من خلال مقولته التي أوردها ابن أبي الحديد (نحن نبط من كوثى في السواد)، وعلى أساسها جاءت مقولته (سوء الظن من حسن الفطن)، الذي تبناها الغزالي بعده على مبدأه (الشك علمني اليقين)، والذي قفز الى ديكارت الفرنسي إبان النهضة الأوربية.
أن مبدأ الإحتمالية في الرياضيات الوارد من حالة (الشك واليقين)،شكل المحرك الأساس والجوهري لعلم (اللوغارتمات) الذي أوجده الخوازمي في البيئة العراقية عينها.وقد تداعى هذا العلم الى اختراع الكومبيوتر في الأزمنة الحديثة، التي تعتمد على (الشكوكية) في الحيرة بين رقمي الصفر والواحد(0-1) حتى تكون (البايت) من ثمان مراتب وتضاعف العد فيه الى الكيلو والميكا والكيكا.وهذا ما دعى الكثيرون ومنهم الدكتور رشيد الخيون يذهب الى أن إيقاع المدد الحضاري لو كان قد أستمر بمنهجه لدى(المعتزلة) لكان قد توصل لقانون الجاذبية قبل تفاحة (نيوتن) بقرون طوال، وكذلك الحال في إختراع الكومبيوتر منذ ذلك الحين. كل ذلك حث خيال بعض العلماء الألمان حينما تتبعوا أن أصل علم اللوغارتمات هو وليد الحضارة العربية الإسلامية وأن محركه(بحسب النظرية القومية المعتمدة على جوهر اللغة المحرك للفكر) هي اللغة العربية ومنهجيتها البنيوية في التفكير. وهكذا اقترحوا تلقين بعض الطلاب الألمان النابهين اللغة العربية، كي يتقمصوا روح الخوارزمي في بيت حكمة بغداد ليخترعوا جيل جديدي من اللوغارتمات، التي ستكون أساس لجيل جديد من أنظمة الكومبيوتر ،غير ما نعهده اليوم ،وأجزم أنهم سيبوئون بالفشل لتباين البيئات.
وجوهر (الشكوكية) في الفلسفة هو: التأكيد بأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة حقائق الأشياء. ويتناول (الشكوكي) بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ فهو يستكشف كيفيات التمييز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة. ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة البرهان أو الاستدلال.ويتمثل البرهان في جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن تستند إلى المقدمات أو تنبثق عنها. إن البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس البرهان الضعيف.
ويوجد نوعان أساسيان من المحاكمة العقلية، يسمى أحدهما الاستنتاج والآخر الاستقراء. يوصف البرهان الاستنتاجي بأنه صحيح عندما يأتي الحكم صحيحًا بالضرورة من المقدمتين. ويوصف بأنه باطل إذا كان حكمه النهائي لا يتولد بالضرورة عن المقدمتين. فالبرهان الذي صيغته كما يلي مثلا: البشر كلهم عُرضة للموت. العراقيون بشر. إذن العراقيون كلهم عُرضة للموت، هذا البرهان الاستنتاجي صحيح. لكن البرهان الذي صيغته: البشر كلهم عُرضة للموت. العراقيون كلهم عُرضة للموت. إذن العراقيون كلهم بشر، هذا البرهان باطل وإن كان الحكم النهائي صحيحًا، لأن هذا المنوال من المحاكمة العقلية يجعلنا نفترض جدلاً أن الكلاب باعتبار أنها أيضًا عُرضة للموت هي بشر أيضًا.
وتُستعمل المحاكمة العقلية الاستنتاجية لاستكشاف النتائج المترتبة على بعض الافتراضات. أما المحاكمة العقلية الاستقرائية فيستعان بها لإثبات الوقائع والقوانين الطبيعية، وليس هدفها أن تكون صحيحة من الناحية الاستنتاجية. فالذي يحكم عقليًا أن السناجب تحب الجوز، على أساس أن كل السناجب التي رصدناها تحب الجوز، يكون قد بنى حكمه بطريقة استقرائية. فالحكم النهائي قد يكون هنا باطلاً حتى ولو كانت المقدمة صحيحة. ومع ذلك فالمقدمة توفر سندًا قويًا لاستخلاص الحكم النهائي.
وهكذا أمست الفلسفة ونوعها العراقي (الشكوكي) مصدر كل النتاجات القانونية والأخلاقية والجمالية وأنعكس على منظومة القيم الفكرية،ويمكن أن يكون سببا في وفرة الشعراء في البيئة العراقية وكذلك وجود لمحات ماكثة في عرف اجتماعي لأشخاص يطلق عليهم في القرية العراقية (الفريضه) ، الذي يتعامل بنفس المبدأ (الشكوكي) ومنهجه الإستنتاجي، ولدينا في قصة (علي ال صويح) أو (أبو فدعه) في ديوان حمد الحمود في الديوانية التي تناقلتها الألسن منذ نهايات القرن الثامن عشر أسوة ومثال،بالرغم من أن الرجل عاش ومات أميا ولم يطلع على فكر الغزالي أو ديكارت.
وبالرغم من رسوخ الفلسفة في كثير من حيثيات الحياة الفطرية العراقية، لكن غياب المنظومة الفلسفية الناضجة الموروثة والمكتسبة ولاسيما المسيرة للإرادة السياسية العليا، تجعلنا متخبطين في حياتنا حتى أننا لم نستطع اليوم أن نصنع لنا دستورا مقنعا ،وما (شخبطناه) من دستور لا يرتقي الى دستور( أور- نمو) الإنساني الذي سنّه قبل 4200 سنه أو حمورابي أو الذي سنّه قبل 3700 سنه.
نعود الى المنظومة التعليمية العراقية التي أرساها ساطع الحصري ورهطه القادم من مدارس تركيا السلطانية والبلقان المتمرد عليها، والتي نعتبرها متخلفة كثيرا عن نظيراتها في الغرب أو حتى لدى نظرائنا في المغرب العربي، الذي سار على المنهج الفرنسي،و الذي قفز في تدريس الفلسفة للناشئة،وتمخض الأمر عن تكوين تيارات متفلسفة و رهط ورموز من الفلاسفة ، يبشرون بمستقبل واعد بالرغم من الوضع السياسي المتأزم والمتشنج بسبب التأرجح بين مصالح وارتباطات: ملكية متزمتة، وعسكرتارية مستحوذة، ودكتاتوريا شمولية.لكن و بالرغم من ذلك سمعنا عن فلاسفة مثل إبن نبي وأركون وعابد الجابري ، وحركات وحلقات للفكر تستثمر إطلاعها على الفلسفة من خلال مصادرها الفرنسية الأصلية.
وربما يكون هذا سببا كافيا بأن الحركة اليسارية وواجهتها الشيوعية مثلا في المغرب العربي أكثر نضجا منها في المشرق عموما والعراق تحديدا، كونهم أطلعوا على النظرية الماركسية من خلال النصوص الفرنسية الأصلية وبعقلية راجحة منذ ديكارت، بينما شيوعيونا في المشرق أخذوها من خلال الترجمة الروسية، التي كانت مشوهة أساسا لدى لينين ورهطه، وزاد طينها بلة مشروع (الكومنترن) أو (الأممية الثالثة) والذي تبنى مبدأ (دكتاتورية البروليتاريا) الشمولي، والذي أساء للماركسية نفسها. وهكذا مكثنا في العراق نشتر من فكر مشوه أصلا، ورمنا أن نبني عليه منظومة قيم نأت بالنتيجة كل النأي عن المنال. ويمكن أن يكون جزء من السبب هو التغاضي عن فهم الخصوصية(الشكوكية) العراقية التي كان الأجدر لمفكرينا أن يدروسها بعمق ويحاولوا ربط الخيوط المتقطعة بين التراث المحلي الثابت مع آليات الحاضر العالمي المتحرك، من أجل الوصول الى النظرية الفلسفية المحلية ، التي هي كفيلة بموائمتها مع الذات العراقية، و يمكن أن تنحو نحو العالمية مثلما فعل ديكارت ،حينما تقمص روح الغزالي بنفس غربي. وبسياق توسيع التجربة وتكبير مقاسها عندما تكون مترعة بالأخلاقيات نتذكر المبدأ الذي شاع في الدنيا ويتعلق بعلاج الجرحى والمعطوبين في الحروب،بعيدا عن ساحات الوغى والتي تبناها السويسري (أنري دو نان Henri Dunant) منذ العام 1863,بعدما أطلع عليها بصيغتها المبسطة لدى بعض القبائل البدوية في تونس وتفاهمها على هذا المبدأ. وحينها قفزت له فكرة تكريسها عالميا.وهكذا جاءت فكرة (الصليب والهلال الأحمر) ، كوجه للممارسة الأخلاقية المتداعية من تعاليم قديمة تبنتها الثقافات خارج نطاق المركزية الغربية.
كنت قد درست العمارة وتخطيط المدن في معهد العمارة في بوخارست،وكانت مفاجأتي كبيرة بدرس وجدت به ظالتي في تفسير الكثير مما كنت أسأل نفسي عنه.كنت أستغرب من جذوة اللذة التي تنتابني بعد أن أنجز عملا إبداعيا ما، كالرسم أوالتصميم المعماري أو حتى كتابة رسالة لأهلي. وتبين لي أن ثمة علم يسبر غور تلك الظاهرة الوجدانية يدعى (الجمال – الأستطيقا) الذي يبحث في اللذة والقيمة والتعجب والجودة في الحبكة الإبداعية، وكذا في المبادئ التي يقوم عليها الفن ، كما أنه يدرس أفكارنا ومشاعرنا ومواقفنا حينما نرى ونسمع ونطالع شيئًا جميلاً ،كالأثر الفني، مثل الرسم أو النحت أو الموسيقى أو القصيدة الشعرية أو المسرحية أو الفيلم، أو حتى غروب الشمس أو زهرة نظيرة أو غيرها من الظواهر الطبيعية. فضلاً عن ذلك، فإنه يستقصي الخبرة التي اكتسبها من يمارس أنشطة مختلفة.
ويتطابق هذا العلم أحيانًا مع فلسفة الفن التي تبحث دائمًا في طبيعة الفن ومجريات الإبداع الفني وطبيعة التجربة الجمالية ومبادئ النقد. لكن ميادين تطبيق علم الجمال أوسع، حيث تشتمل على الأعمال الفنية التي أبدعها الإنسان، وكذا مظاهر الجمال الملحوظة في الطبيعة.وندرك من خلال هذا العلم علاقة الجمال بالأخلاق و الفلسفة السياسية حينما نتساءل: أي دور ينبغي أن يؤديه الفن والجمال في المجتمع، وفي حياة الفرد؟ .ومن بين تلك الأسئلة أيضًا: كيف يمكن تحسين ذوق الإنسان في مجالات الفن، وتهذيب طبعه وترويض روعه ،وجعله مسالما دمثا؟. والأهم في ذلك هو كيف ينبغي أن نعلّم الفنون في المدارس؟ وهل للحكومات حق في وضع القيود للتعبير الفني؟.
وعلمت بعد حين بأن ثمة فرع في الفلسفة أسمه (علم المنطق) الذي يتناول بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ فهو يستكشف كيفيات التمييز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة. ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة البرهان أو الاستدلال. ويتمثل البرهان في جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن تستند إلى المقدمات أو تنبثق عنها. إن البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس البرهان الضعيف.
وحينها قفزت لخاطري جواب عن سؤال: لماذا لم يضع (ساطع الحصري) ولا حتى سلطة البعث في منظورها أن تدّرس المنطق للناشئة العراقية؟. والجواب: كونه وبدون تلكأ يفتح في عقولهم مرصدا “لمنطقة” الأمور،والشروع في عملية محاسبة لكل ماعداها، ومن ضمنها ممارسات تلك السلطات النائية تماما عن أي منطق وعقل. حتى أن عفلق نفسه القادم من (الصربون) والثقافة الفرنسية “المتفلسفة” لم يرى ضرورة لتدريس تلك المفاهيم للعراقيين،كونها تكشف عورته ورهطه قبل غيره.
وحينما عرف السبب بطل العجب، فلم يدرس الجمال للعراقيين كي يوغلوا بالتوحش، ويصلوا أن يقتل ويقطع رأس أحدهم الآخر كما هو دائر اليوم،أو يفجروا جماليات معمارية مترعة بالروحانية والقدسية، مثل قبة الإمام العسكري في سامراء،أو يفجروا كنائس المتقشفين المسالمين، أو يقتلوا الوديعين من أهلنا الصابئة وغيرهم من فئات الوطن ودون ذكر للأسباب.
قرأت يوما بأن إنكليزي نصح السلطة المحتلة للعراق إبان الحرب العالمية الأولى بأن تراعي أن العراقي فضولي بطبعه، ويحب أن يعلم ويسمع الأخبار ويتناقلها في محيطه، لذا نصح الإنكليز بأن يروجوا لجريدة يومية تنقل للناس الأخبار وتلهيهم ،والأهم أنها سوف تساير سجاياهم الفضولية، كي يتركوا الإنكليز يخططون لدولة المحاصصات التي سنتها (الخاتون) منذ ذلك الحين. بما يستوجب الأمر وسيلة فتح مدارس لتعليمهم لفك رمز الحروف .
ولم يخطر على بال هذا الإنكليزي الحصيف أو ساطع الحصري، أن يعوا طبيعة العقلية العراقية المتفلسفة الباحثة عن بواطن الأمور خلف قشورها، والمتشككه حتى بالمسلمات، وبالنتيجة فتلك الذات باحثة دؤوبة عن الفضيلة والمكارم التي جسدها في كم الديانات والفلسفات والمذاهب الفكرية التي خرجت من رحمها،وكلها وغيرها تلتقي عند النقطة الشكية والأخلاقية في الفلسفة.وهذا يعني أن تدريس الفلسفة هي الأقرب لسجايا العراقي والأرغب لها.
كل ذلك وغيره يدعونا أن نرسم خطة رصينة لتدريس الفلسفة ولاسيما في موضوعات المنطق والأخلاق للصفوف الأولى والجمال وتاريخ الفلسفة للصفوف المتأخرة ،بأساليب مبسطة ،وغير قسرية أو إملائية(دكتيه أو دكتاتوريه). وقرأت بحثاً متميزا بهذا الصدد حول موضوع “الكشف عن مواهب الطلاب وصقلها إبداعيًًّا” والذي يبين أن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال من سن الولادة إلى السنة الخامسة من أعمارهم نحو 90%، وعندما يصل الأطفـال إلى سن السابعة تنخفض نسبة المبدعين منهم إلى أن تصل إلى 10%، وما أن يصــلوا إلى السنة الثامنة حتى تصير النسبة 2% فقط، مما يشير إلى أن أنظمة التعليم والأعـراف الاجتماعية تعمل عملها في إجهاض المواهب وطمس معالمـها على أنها كانت قادرة على الحفاظ عليها بل وتطويرها وتنميتها.
وهنا ننبه الى ضرورة ممارسة إصلاح جوهري على منظومة العراق التربوية ، التي ينقصها الكثير،وتحتاج الى علماء أكفاء لبحثها والبت في حيثياتها،والأجدر الإطلاع على تجارب الدنيا وموائمتها مع الخصوصية العراقية . نجد مثلا أن إيطاليا تحسن من أداء المنظومة التعليمية لديها وتزيد عليها كل ستة أشهر،والسويد دائبة البحث يوميا عن الارتقاء بعقل الطفل والنشأ والشباب، من خلال الملاحظة التحليلية، والبحث المعمق وإعتماد التفسيرات التطبيقية، من خلال آليات تشويقية تعتمد اللعب والمتعة وإحترام النزق الطفولي لتوصيل جملة الأفكار المقصودة.
أما نحن أهل بيت النهرين،و أصحاب أول مدرسة في التاريخ (منذ حمورابي) وباكورة مراكز البحث الجامعي (دار الحكمة)،فمازلنا نشتر من منظومة الحصري التي أكل عليها الدهر وشرب، ونسير على هدى ممارسات قومية وطائفية جاء بها الحصري ثم عفلق وطلفاح وصدام ورهط ممن لم يعوا قيمة مكانهم ولامكانتهم ،فهبطو وأهبطوا الى الدرك الأدنى جذوة التطلع العراقي.