حسين شكران الأكوش العقيلي
في هذا العالم الذي يتسابق فيه الناس على المناصب، والمكاسب، والأضواء، ينبثق من تراب العراق طيفٌ مختلف، طيفٌ لا يبحث عن صدارة، بل عن موطئ قدم في طريق الحسين عليه السلام؛ حيث تُغسل الأرواح بخدمة الزائر، وتُكتَب المجدات على لوح الإيثار، لا صفحات الإعلام.
ليسوا موظفين، ولا متعاقدين، ولا مدفوعي الأجر، بل هم أنبياء الخدمة دون رسالة مكتوبة، لأن رسالتهم تُقرأ على جباههم، وتُسمع في نبرة التعب، وتُحسّ في فنجان شايٍ يُقدَّم بإيمانٍ، لا بمجرد واجب.
سرد شعبي: من طين الكرم ووهج الولاء
في كل موكب حسيني، تجد رجلاً عجوزًا يُنظّف الطريق، وشابًا يحمل إبريق الماء، وطفلًا يصفّ التمر على الصينية. لا تسألهم عن انتماءاتهم السياسية، ولا خلفياتهم الاجتماعية، فهم جميعًا أبناءُ مدرسة الحسين عليه السلام ، التي لا تُخرّج وزراء، بل تُخرّج خدّامًا لا يعرفون الكبرياء إلا في التواضع، ولا يفهمون الشرف إلا في التعب من أجل الآخرين.
هنا لا تُحسب الخدمة بالساعات، بل تُوزن بالنية، ولا تُقيَّم بالمردود، بل بالأثر الروحي الذي يتركه الخادم في قلب الزائر.
تحليل اجتماعي: المواكب كشبكات أهلية للتلاحم والإصلاح
من منظور علم الاجتماع، تُعد المواكب الحسينية ظاهرة فريدة في العالم العربي والإسلامي؛ إذ تجمع بين العمل التطوعي، والدين، والتنظيم الأهلي، في آنٍ واحد. وتشير الدراسات إلى أن هذه المواكب تسهم في:
١- تعزيز الهوية الجمعية القائمة على التضامن والمبادرة الفردية.
٢- بناء منظومات اقتصاد تكافلي غير رسمي تُقدَّم فيه الخدمات دون مقابل.
٣- خلق مساحة لتفاعل الأجيال والمذاهب والطبقات في حوار غير لفظي تُعبّر فيه الممارسة عن الانتماء أكثر من الخطابة.
تقييم مؤسسي: هل أنصفت الدولة خدام الحسين؟
رغم حجم الجهد الخرافي الذي يبذله خدام المواكب، إلا أن الدولة لا تزال في كثير من الأحيان تتعامل معهم كـ”ظاهرة موسمية”، وليس كقيمة ثابتة ينبغي دعمها وتطويرها. فلا يوجد حتى الآن هيكل إداري رسمي يُعنى بمواكب الخدمة، ولا تشريعات تضمن حقوقهم، أو تنظم سبل مساعدتهم، اللهم إلا بعض القرارات المؤقتة.
إنها دعوة لإعادة النظر: هؤلاء لا يصنعون المناسبة، بل يصنعون المعنى، فهل يجوز أن تبقى مؤسسات الدولة بعيدةً عنهم، وكأنهم يعملون خارج الوطن؟
روح الخدمة: فلسفة إيمانية تتجاوز الطقوس
في وجوه خدام الحسين، تقرأ فلسفة متكاملة عن معنى الحياة: فحين يَحني الخادم رأسه ليُقدّم الماء، كأنه يقول للدنيا إن الكرامة لا تُقاس بعلو المنصب، بل بانحناء القلب. الخدمة هنا ليست طقوسًا تُؤدى، بل عقيدة تُمارَس، وموقف وجودي يُعلَّم دون كلام.
وهؤلاء، كما سماهم العنوان، أنبياء الخدمة؛ لأنهم يُعلّموننا بلا كتب، ويُربّوننا بلا خطب، ويصلون بنا إلى الحسين، لا بجمال الطريق، بل بنبل النفوس.
ختاما نقول حين تتأمل في المواكب الحسينية، تفهم أن القضية الحسينية ليست ذكرى، بل صيرورة مستمرة، تمتد من كربلاء إلى الزقاق الشعبي، ومن الدم المقدّس إلى الكف المتعبة، ومن العبارة الملتهبة إلى الصمت الخادم. هؤلاء الخدام ليسوا مظهرًا فولكلوريًا، بل عمق أخلاقي واجتماعي وديني يجب أن يُقرأ، ويُدرّس، ويُدعم، لا أن يُختزل في صور الذكرى.
فلنكتب عنهم، لا لنؤرّخهم، بل لنُخلّدهم في ضمير الأمة.
ولنعلن: إن خدمة الحسين ليست وسامًا يُعلَّق على الصدور، بل نبوة صغيرة تُمارَس على الأرض، بهدوء القديسين، وشغف العاشقين.