صباح البغدادي
لم يكن المؤتمر الصحفي اليوم الإثنيين 15 أيلول 2025 للوزير الأمريكي “ماركو روبيو”مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” وقبل ساعات من انعقاد المؤتمر القمة العربي الإسلامي في العاصمة القطرية / الدوحة , مجرد خروج عن بروتوكول الدبلوماسية، بل كان كشفاً صارخاً عن العقلية الاستعمارية التي لا ترى في الشعوب الأخرى المضطهدة والمحتلة الأخرى سوى “كائنات” يجب إخضاعها أو إبادتها. استخدامه لمصطلحات مثل “حيوانات” و”برابرة” ” متوحشين ” ليس انفعالاً عابراً، بل هو استمرار للخطاب الإمبريالي الذي مهد لمجازر التاريخ من الإبادة الجماعية للهنود الحمر إلى جرائم في جنوب إفريقيا.
اللغة الانفعالية والعصبية التي استخدمها المدعو “روبي” ليست فقط غير دبلوماسية، بل هي ترويج لجريمة تحريض مباشرة على الإبادة الجماعية وضاربا بعرض الحائط اتفاقية منع جريمة الإبادة (1948) وتكريس لخطاب الكراهية الذي يشرع انتهاك حرمة المدنيين تحت شعار “محاربة الإرهاب”. ولكن الأهم والمهم هو إعلان وفاة الحياد الأمريكي في الصراع ، واعتراف صريح بأن الولايات المتحدة طرفٌ فعال ومؤثر في الحرب على الفلسطينيين وليس وسيط محايد ونزيه؟.
أن رمزية القوة المقصودة لعقد المؤتمر الصحفي في مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي يُرسل رسالة بأن الولايات المتحدة تتعامل معهم كشريك وحليف متساوٍ موثوق به وقوة إقليمية فعالة ومؤثرة والتصريح من العاصمة “القدس” يُعزز الرواية الإسرائيلية بأن المدينة “موحدة لليهود وغير قابلة للتقسيم” على الرغم من أن هذا الموقف ترفضه معظم الدول العربية والمجتمع الدولي ولكن في اعتقادنا بأن اختيار هذا الموقع ليس ” بريئاً ” أو صدفة أو مرجح له , بل هو جزء من الحرب النفسية الرمزية التي تخوضها إسرائيل وحلفاؤها لتقديم أنفسهم كـ”طرف شرعي” في الصراع، وبينما يُصور الفلسطينيون ومقاومتهم كـ”إرهابيين” خارجين على القانون. و “القدس الشريف” هنا ليست مجرد خلفية، بل هي سلاح سياسي يُستخدم لشرعنة الاحتلال وتهميش سردية الرواية الفلسطينية.
على الرغم من أن التوقيت الزيارة يشير إلى ارتباط الزيارة بقصف الدوحة، إلا أن ذلك قد يكون تكيفاً مع التطورات وليس سبباً رئيسياً للزيارة كما حاولت بعض وسائل الإعلام الترويج له وبسبب أن الرد الأمريكي على قصف الدوحة كان فورياً عبر إدانة (لم تُوجه مباشرة لإسرائيل)، .وبالإضافة إلى أن الزيارة تركز على ملفات أوسع مثل مفاوضات تبادل الأسرى وتصعيد في قطاع غزة ولبنان، مما يجعل قصف الدوحة مجرد عنصر في أجندة مزدحمة لوزير الخارجية ” روبيو”. ولان إسرائيل لم تعترف بالضربة رسمياً، ومما يمنح الولايات المتحدة مساحة للمناورة دون مواجهة مباشرة مع حليفها الموثوق به دون إعطاء فرصة للغير إلى انتقاد هذه العلاقة الحميمية ؟.
صحيح إن الزيارة كانت مخطط لها مسبقاً في إطار الأجندة الأمريكية لإدارة الأزمة الإقليمية، ولكن توقيتها وتركيزها عدل خلال الأيام الماضية لاستيعاب صدمة قصف الدوحة. وان هذا النموذج الهجين الدبلوماسي يعكس المرونة الأمريكية في التعامل مع الأزمات، لكنه أيضاً يكشف أن قصف الدوحة لم يغير الأولويات الأمريكية، بل أدخلها في حسابات أكثر تعقيداً. صحيح إن هناك ضغط أمريكي على إسرائيل لتهدئة الوضع إقليمياً، مع تعويضات معنوية وعينية غير معلنة لقطر، لكن دون مساءلة إسرائيل أو وقف الدعم الأمريكي لها.
إن الرسالة المبطنة والضوء الأخضر لإسرائيل ليس للقصف المباني والمؤسسات والمستشفيات في قطاع غزة أو بالضفة الغربية فحسب، بل كانت دعوة صريحة للتطهير العرقي والتصريح في المؤتمر الصحفي لم يكتفِ كذلك بمنح الضوء الأخضر لاستهداف قيادات ومقاتلين حماس، بل ذهب أبعد من ذلك وتخلي صريح عن حماية المدنيين وإلى قبول مبدئي بضحايا مدنيين كـ”أضرار جانبية” مسموح بها لإسرائيل مادام أن قيادات ومقاتلين حركة حماس يتواجدون بينهم على حد زعم الدعاية العسكرية لجيش الاحتلال وكذلك توسيع نطاق الاغتيالات والإشارة إلى استهدافهم “في أي مكان” (حتى الكعبة أو مرقد الحسين) هي رسالة بأن لا حرمة لأي مكان مقدس إذا تعلق الأمر بـ”الهدف الأمريكي الإسرائيلي”. ونزع الشرعية الدولية عن المقاومة ووصفهم بـ”الجماعة الإرهابية” يتجاهل سياق الاحتلال وحق الشعوب في المقاومة وفقاً للقانون والتشريعات الدولية.
وبما إننا تابعنا بصورة مباشرة المؤتمر الصحفي في القدس وخرجنا بنتيجة قد تكون اقرب للقراءة الاستراتيجية لإدارة الأزمة لا حلها والزيارة والمؤتمر الصحفي تؤكد أن الولايات المتحدة تتعامل مع الأزمة الحالية كـحريق يجب إخماده لا كقضية لإيحاد الحلول لها صحيح إن الهدف المعلن :” منع تصعيد إقليمي وحث إسرائيل على “ضبط النفس” (بالمعنى والمفهوم الأمريكي وليس العربي)” ولكن الهدف الخفي غير المعلن :” حماية المصالح الأمريكية في الخليج، خاصة مع غضب قطر (مزود الغاز ومؤثر إقليمي لا يستهان به وللاستثماراتها في أمريكا التي تجاوزت مجموع مبالغها ما يقارب تريليون ونصف دولار ). والرسالة الأمريكية لإسرائيل واضحة : “لديك ضوء أخضر لقصف إي مكان يتواجد فيها قيادات ومقاتلين حماس ولكن بشروطنا ، ولا تجعلوا الأمور تخرج عن السيطرة”. رسالة “روبيو” إلى العالم أصبحت واضحة وصريحة لا لبس فيها أو تأويل مفاده .. الدم الفلسطيني أرخص من أن يُدافع عنه ولان تصريح روبيو لم يكن خطأً دبلوماسياً، بل كان إعلاناً رسمياً أن الولايات المتحدة تتبنى أيديولوجيا العنف نفسها التي تتهم الآخرين بها. إنه يعيدنا إلى زنازين التاريخ المظلم، حيث كان المستعمر يصف أهل الأرض الأصليين بـ” الهمج / البرابرة / المتوحشين ” ليبرر استباحة أرضهم ودمائهم. الفرق اليوم أن الضحية لم تعد صامتة، وأن كاميرات العالم ترصد كل شيء. التاريخ سيتذكر أن دبلوماسياً أمريكياً وصف نضال شعبٍ تحت الاحتلال بـ”الهمجية”، بينما دافع عن جيش احتلال يقتل الأطفال بالقنابل الفوسفورية ويتم تجويعهم .
الخطر الحقيقي الآن يتجسد عندما تتحول لغة الكراهية والإبادة والتصفيات الجسدية خارج القضاء والقانون إلى نهج لسياسة رسمية معترف بها من قبل أمريكا ودول الاتحاد الأوربي وبريطانيا هذا التصريح الخطير لكل من ( روبيو/ نتنياهو) سوف يمهد لقرارات أممية محتملة بتجريم المقاومة الفلسطينية تحت غطاء “مكافحة الإرهاب” ويغذي معها ” الإسلاموفوبيا ” في الغرب ويوفر غطاءً رسمية لزيادة جرائم كراهية ضد المسلمين أينما كانوا والاهم بأنه يقتل أي أمل بحل سياسي دبلوماسي عادل ويغلق الباب أمام الحوار والتفاهمات للخروج بحل يرضي جميع الأطراف ويغتاله إلى الأبد.
بكل مرارة وَصَفْتُ، شاهَدْنا في قمة الدوحة ماكينة دبلوماسية عربية مُخْتَرَقَة تَدورُ بِبُطءٍ مَخْزٍ! ثلاث ساعات كاملة من التطبيل التّقليديّ للشجبِ والإدانة والاستنكار ، وَسَباقٌ ماراثوني مَشْؤومٌ على من سَيُطلقُ أَعنفَ لعنةٍ على إسرائيل دون أن يتحمل تبعات كلماته!
أما البيان الختامي – ذلك الوثيقة المكونة من سبع صفحات – فكان أشبه بجثةٍ دبلوماسيةٍ مُعدةٍ سلفاً، مُحنطةٍ بحبرِ المهادنةِ والاستسلام. نعم، صاح البعضُ كالسلاطين الأبطال: تركيا وماليزيا والجزائر وباكستان نادوا بِقطعِ العلاقات الدبلوماسية ومقاطعةِ إسرائيل اقتصاديا وتجاريا ، لكن صرخاتهم ضاعت في ممراتِ القمةِ كصدى صوتِ ينادي في صحراء!
وها هو الأمين العام المساعد للجامعة العربية، السيد “حسام زكي”، يعلنها بِصوتٍ مكسورٍ وخانع وذليل : “لا يوجد عدو مشترك متفق عليه بين الدول العربية وبأن الظروف الآن غير مواتية لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك “! يا للعجب.. أليست إسرائيل – التي قصفَتْ إحدى عواصمنا – عدواً؟ أم أن العدوَّ الحقيقيَّ هو شجاعتنا المفقودة؟! وعلى الرغم من إن اتفاقية الدفاع العربي المشترك من الناحية العملية تمثل أحد أهم ركائز منظومة الأمن القومي العربي، حيث تنص بوضوح على مبدأ الدفاع الجماعي ضد أي اعتداء خارجي، غير أن الواقع المأساوي الذي يعيشه العالم العربي قد يجعل الظروف الحالية غير مواتية لتفعيل هذه الاتفاقية والتي سوف تبقى مجرد فرضية على الورق غير قابلة للتطبيق فعليا وان اتفاقية الدفاع المشترك؟ لا تبحثوا عنها كاستراتيجية فعالة إلا في متاحفِ موت التاريخ العربي. لقد تحولت إلى مجرد ورقةٍ تتباهى بها الأنظمة في المؤتمرات الإعلامية بينما تُخفي خلفها عجزاً مطلقاً وخوفاً مهيناً من غضب واشنطن!.
مع الأسف وكما توقعنا سابقا فان قمة الدوحة لم تكن سوى جنازة أخرى للكرامة العربية، وشهادة وفاة جديدة لإرادة الأمة. لقد دفنوا اتفاقية الدفاع المشترك بأيديهم، وتركوا للشعوب العربية رثاءَ الهزيمة وَعارَ الاستسلام! هذه القمة كانت فرصة سانحة ومواتية لغرض لجم ومعاقبة إسرائيل دبلوماسيا واقتصاديا ولكن على ارض الواقع فلم يطبق أي شيئ ؟ البيان الختامي من سوف يطبقه حرفيا من الدول التي شاركت في هذا المؤتمر وتلتزم به بصورة ملزمة لها ويكون نهج لسياستها الخارجية ؟