تبدل الوجوه ودوران عجلة الزمن: من مطارد إرهابي إلى رئيس يُحاوره العالم.. دروس للعراق في مسار سوريا الجديد

صباح البغدادي

في زمن يتسارع فيه إيقاع التاريخ، تكشف الأحداث عن مفارقات مذهلة تذكرنا بأن السياسة ليست خطاً مستقيماً، بل دائرة تتلاقى فيها الوجوه والأدوار في أماكن غير متوقعة. تخيلوا رجلاً كان يُطارد بجائزة مالية قدرها 10 ملايين دولار من الولايات المتحدة، ويُصنف كإرهابي عالمي، يجلس اليوم في قمة دولية يُخاطب فيها قائد عسكري أمريكي سابق بـ”سيادة الرئيس”. هذا ليس سيناريو روائي، بل واقع حيّ يتجسد في لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع (المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني) مع الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، مدير الـCIA السابق، خلال قمة كونكورديا في نيويورك أواخر سبتمبر 2025. هذا اللقاء، الذي أثار ضجّة على وسائل التواصل، ليس مجرد حدث دبلوماسي، بل رمز لتحول جذري في الشرق الأوسط، يدعونا إلى التأمل في كيفية تبدل المواقف والأماكن، وكيف يمكن لعجلة الزمن أن تحول المعتقل إلى قائد يُصغي إليه العالم. من المقاتل في العراق إلى الرئيس الانتقالي: قصة تحول أحمد الشرع ولد أحمد الشرع عام 1982 في الرياض بالمملكة العربية السعودية، لعائلة سورية، قبل أن يعود إلى دمشق في سن التاسعة. في أوائل العشرينيات من عمره، عبر الحدود إلى العراق ليصبح “مقاتلاً أجنبياً” ضد الغزو الأمريكي عام 2003، حيث انضم إلى تنظيم القاعدة وأُسر في معسكر بوكا الشهير، الذي وُصف بأنه “ساحة تجنيد” للجماعات المتطرفة. بعد إطلاق سراحه، عاد إلى سوريا عام 2011 ليؤسس جبهة النصرة كفرع للقاعدة، ثم انشق ليؤسس هيئة تحرير الشام، التي قادت هجوماً خاطراً أطاح بنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024. في 29 يناير 2025، أُعلن الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا في مؤتمر “إعلان انتصار الثورة” بدمشق، بحضور قادة 18 فصيلاً عسكرياً، مع إلغاء دستور 2012 وحل حزب البعث. كانت الجائزة الأمريكية البالغة 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكانه لا تزال قائمة حتى أواخر 2024، لكنها أُلغيت في ديسمبر بعد اتصالات دبلوماسية، مما مهّد لزيارات رسمية من قادة عرب مثل أمير قطر في اليوم التالي لتعيينه. اليوم، يُدرج الشرع ضمن أكثر 100 شخصية تأثيراً في العالم حسب مجلة “تايم”، ويُصغي إليه جنرالات أمريكا وقادتها في منصات دولية. لقاء الوجوه في أماكن مختلفة: بترايوس والشرع في كونكورديا اللقاء الأبرز كان في قمة كونكورديا، التي تعقد سنوياً حول الأمن والديمقراطية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. هنا، كان الجنرال بترايوس – الذي قاد القوات الأمريكية في العراق من 2007 إلى 2008، وطارد مقاتلين مثل الشرع – يفتتح الحوار بـ”السلام عليكم سيادة الرئيس”، مُثيراً ضحكاً مشتركاً يعكس المفارقة. سأل بترايوس الشرع: “كيف وصلت من القاعدة إلى رئاسة سوريا؟”، فرد الشرع بثقة: “كنا في ميدان حرب، والآن في ميدان حوار. من خاض الحرب يعرف أهمية السلام أكثر”. أكد الشرع أن مهمته في سوريا “أصعب من مهمة بترايوس في العراق”، مشدداً على أولويات الأمن والبناء الداخلي، وداعياً إلى رفع العقوبات بموجب “قانون قيصر”. هذا الحوار، الأول من نوعه لرئيس سوري في مثل هذه المنصة منذ 58 عاماً، يُظهر كيف تحول الشرع من “عدو” إلى شريك محتمل، وسط تهانٍ دولية واتفاقيات مع قوات سوريا الديمقراطية لدمج مؤسساتها. إنه دليل على أن التاريخ لا يُحكم بالأحكام النهائية، بل بالسياقات المتغيرة. سوريا الجديدة: من الترهيب إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية تحت قيادة الشرع، لم تعد سوريا تلك البلاد المُدارة بالترهيب والفساد والقتل، كما في عهد الأسد الذي سرق قوت الشعب. اليوم، تركز الحكومة الانتقالية على بناء دولة، مع دستور مؤقت لخمس سنوات وتشكيل حكومة انتقالية. اقتصادياً، بدأ التعافي الأولي: انخفض التضخم إلى 6.4% في يناير 2025، واستأنفت سوق دمشق للأوراق المالية التداول بعد توقف ستة أشهر، مع تحول نحو اقتصاد حر يعتمد على القطاع الخاص. على الرغم من التحديات – انكماش الناتج المحلي بنسبة 85%، وفقر يصل إلى 90% –، يُقدر إعادة الإعمار بأكثر من 400 مليار دولار، مع دعوات لرفع العقوبات من واشنطن والاتحاد الأوروبي، ودعم عربي من السعودية وقطر. اجتماعياً، أُنشئت لجان لصياغة إعلان دستوري، ورفض مبدأ المحاصصة لصالح “التشاركية” في تشكيل الحكومة، مع التركيز على السلم الأهلي والاندماج الإقليمي. الشرع، الذي تحول من “رجل حرب” إلى “رجل بناء دولة”، يُجسد نموذجاً للرجال الحقيقيين الذين يتكيفون مع الزمن ليبنوا مستقبلاً. العراق: المعادلة المأساوية.. بين التخوين والسرقة، وبحث عن الهاوية أما نحن في العراق، فالصورة مختلفة تماماً. بعد عقدين من الغزو والفوضى، ما زال قادتنا السياسيون يفكرون بعقلية جمعية لا تبني ولا تنمي، بل تعارض وتُخون وتُشَهِّر وتسرق. نكابد أكاذيب ملفقة، ويُحرَّف التاريخ بدلاً من صنعه، في بلد يمتلك موارد هائلة لكنه يُسحَب إلى الهاوية بسبب الفساد الذي يبتلع كل شيء. في 2025، تواجه الحكومة تحديات خارجية تُربك الداخل، مع هجمات من “المقاومة الإسلامية في العراق” (200 هجوم على قواعد أمريكية)، وتراجع ثقة المواطنين بالمؤسسات بنسبة ملحوظة، وسط فساد مال سياسي يهدد الانتخابات البرلمانية القادمة. النخب الحاكمة تعتمد على قمع المعارضة بدلاً من بناء شرعية وطنية، مع مشكلات خدمية مستمرة في الكهرباء والنقل، وانخفاض أسعار النفط الذي يهدد الميزانية (98% من الإيرادات). الجميع يبحث عن سرقة الموارد، لا تنميتها، مما يجعل العراق يتخبط في معادلة مأساوية: 1.1 مليون نازح داخلياً، وبطالة وبؤس اجتماعي يُفاقِمُهِ قانون يُجرم “الترويج للشذوذ” بغرامات تصل إلى 15 مليون دينار. الانتخابات قد تُغَيِّرُ الوجوه، لكن دون إصلاح هيكلي، ستظل الهاوية تنتظر.

دروس من الزمن.. نحو بناء حقيقي في النهاية، يُعلِّمنا لقاء الشرع وبترايوس أن الزمن يُغَيِّرُ كل شيء: من مطارد إلى مُحَاوَرْ، من حرب إلى سلام. سوريا، تحت قيادة الشرع، تُثْبِتُ أن التحول ممكن عبر التركيز على التنمية لا الترهيب. أما العراق، فيحتاج إلى قادة يُصْمِمُونَ التاريخ لا يُحَرْفُونَهُ، يبنون دولة لا يسرقونَها. هكذا هم الرجال الحقيقيون: يدورون مع عجلة الزمن ليصنعوا مستقبلاً أفضل، لا يسحبونَ أمَّتَهُمْ إلى الهاوية. هل يتعلم العراق الدرس قبل فوات الأوان؟