رياض سعد
في المشهد العراقي الراهن، يطفو على السطح سؤال جوهري لا يمكن تجاوزه: هل تحوّل العراق إلى مصنع لتفريخ الساسة والزعماء والمرشحين ؟
ولماذا تتكاثر هذه الظاهرة على نحوٍ أشبه بالعدوى السياسية؟
أهي دلالة على حيوية المجتمع وتنوّع مساراته القيادية وتطور امكانياته السياسية وطاقاته البشرية ، أم أنّها تعبيرٌ صارخ عن فوضى المعايير وتعدد الولاءات والارتباطات الخارجية وضمور القيم الوطنية التي كانت ذات يوم ميزان الزعامة الحقيقية؟
إنّ المتأمّل في الحملات الانتخابية الأخيرة يلحظ طفرةً غير مسبوقة في عدد المرشحين الذين يقدّم كلٌّ منهم نفسه باعتباره “المنقذ” أو “القائد الوطني المنتظر”… ؛ لقد خرجت الزعامة من معناها الجوهري، لتتحول إلى شعارٍ استهلاكي يُعلّق على اللافتات، أو إلى لقبٍ يُشترى بالمال والنفوذ والعشيرة والدين والسلطة … ؛ فما إن يملك أحدهم رأس مالٍ أو منصبًا عابرًا، حتى يظن أنه مؤهل لتقمّص دور الزعيم، ناسياً أن الزعامة ليست ورقة دعاية بل امتحانٌ أخلاقيٌّ وتاريخيٌّ عسير وكفاءة فريدة .
هذه الظاهرة لا تعبّر عن كثرة القادة والساسة بقدر ما تعبّر عن ندرتهم. فكلما زاد الادعاء بالزعامة، تراجع حضور الزعيم الحقيقي… ؛ وكلما ازدحمت الشوارع بصور المرشحين، خلت الساحة من شخصية جامعة تُلهم الناس وتُعيد الثقة بالمشروع الوطني… ؛ فالزعيم الحقّ لا يُولد في استوديوهات الإعلانات، ولا يصعد على أكتاف الولاءات الضيّقة، بل يتكوّن في رحم المعاناة الشعبية، ويتغذّى من صدق الانتماء والتضحية والمسؤولية و الهوية الوطنية الاصيلة .
نعم , لقد أصبح المشهد الانتخابي في العراق أقرب إلى مسرحٍ كبير تتبدّل فيه الوجوه لكن تبقى الأدوار ذاتها… ؛ فكل دورة انتخابية تحمل إلينا مئات “الزعماء والمرشحين والساسة الجدد” الذين يُقدّم كلٌّ منهم نفسه على أنه القائد الوطني المنتظر، والمنقذ الذي سيعيد للعراق مجده ومكانته، لكن سرعان ما يتبيّن أن معظمهم ليسوا سوى واجهات مصنوعة بعناية في مطابخ الأحزاب الكبرى او اقبية المخابرات الخارجية ، أو أذرع للحيتان السياسية التي تمدّ خيوطها كالأخطبوط في كل الاتجاهات لتضمن بقاء نفوذها وهيمنتها على المشهد.
ولقد أصبحت “الزعامة والعمل في السياسة والترشح للانتخابات ” في العراق مهنةً مربحة أكثر من كونها رسالة و وظيفة وطنية خطيرة ، حتى غدت بعض الأحزاب تفرّخ زعماءها ومرشحيها وساستها كما تُفرّخ الشركات منتجاتها ؛ اذ لكل منتجٍ اسمه وشعاره وسوقه المستهدف… ؛ والنتيجة: تضخّم في الوجوه، وانكماش في المواقف، وتعدّد في الشعارات مع غيابٍ فادحٍ للمعايير والمواقف الوطنية .
إنّ خطورة هذه الظاهرة لا تكمن في وفرة الطامحين، بل في غياب الغربال الذي يميّز بين الطموح المشروع والطموح الانتهازي… ؛ فحين تتكاثر الزعامات الوهمية، يضيع صوت الجماهير في ضجيج الادعاءات، ويُختزل الوطن في سباقٍ محموم على الكراسي والمناصب والامتيازات لا على القيم النبيلة والمسؤوليات الوطنية .
نعم , إن ظاهرة تفريخ الزعماء ليست مؤشراً على نضج التجربة السياسية، بل على تفسّخها… ؛ فكلما ازداد عدد المتزعمين والمرشحين والساسة ، قلّ وزن الزعامة والقيادة … ؛ وكلما ازدحمت الشوارع بصور المرشحين، خلت الساحة من شخصية جامعة تُلهم الناس وتعيد الثقة بالمشروع الوطني… ؛ والأدهى أن كثيراً من هؤلاء “الزعماء الورقيين” ما هم إلا واجهات خفية تُخفي وراءها مصالح كبار الفاعلين في المشهد السياسي؛ رجال ظلٍّ يحركون اللعبة من وراء الكواليس، يستخدمون وجوهاً جديدة لتجديد الواجهة بينما تبقى البنية الفاسدة على حالها.
لقد تحوّلت الانتخابات إلى مختبرٍ متكرّر لتجارب الأحزاب الكبرى في إعادة إنتاج نفسها بوجوهٍ مختلفة… ؛ فكل حزبٍ أو تيارٍ يمتلك اليوم عدداً من “المرشحين المستقلين” الذين يُقدَّمون للجمهور على أنهم أصواتٌ جديدة تمثل الشباب أو المجتمع المدني، لكنهم في الحقيقة أدوات ناعمة لتوسيع رقعة النفوذ الحزبي تحت قناعٍ من الاستقلالية الزائفة… ؛ وهكذا بات المواطن العراقي يقف أمام لافتات متشابهة تحمل وجوهاً جديدة، لكنها تظل مرتبطة بخيوطٍ قديمة تمتد نحو ذات المراكز المتحكمة بالقرار والمال والإعلام.
لقد أصبح بعض المرشحين مجرد أدواتٍ في يد الحيتان السياسية الكبرى، يُستخدمون لتمرير مشاريع مشبوهة أو لتشتيت الأصوات أو لتزيين صورة الفساد بلونٍ جديد… ؛ فبينما يُمنّى الناخب بوجوهٍ شابةٍ ومبادراتٍ إصلاحية، يجري في الخفاء توزيع الأدوار والمقاعد، وتُدار اللعبة بذكاءٍ مكرٍ سياسيٍّ يُتقن فن الإيهام والتلاعب بالمشاعر الوطنية.
إن العراق اليوم لا يحتاج إلى زعماء جدد بقدر ما يحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، يملكون شجاعة الوقوف في وجه التيارات الجارفة، لا أن يسبحوا معها طمعاً بالمناصب أو حمايةً للمصالح … ، يحتاج إلى قياداتٍ تُعيد تعريف الزعامة بوصفها مسؤولية لا امتيازاً، وواجباً لا وجاهة، ووفاءً لا ترويجاً , و خدمةً لا غنيمة … ؛ فالمجتمعات التي تكثر فيها الزعامات تنقص فيها القيادة الحقيقية، لأن القائد لا يُعرّف بعدد أتباعه، بل بقدرته على أن يكون صوت العقل في زمن الفوضى، والبوصلة في زمن التيه.
ولعلّ السؤال الأهم الذي يبقى مفتوحًا هو: متى يدرك المرشح العراقي أن الزعامة لا تُعلن في المهرجانات، بل تُصنع في المواقف حين يكون الصمت جبنًا، وحين يصبح قول الحقيقة عملاً بطوليًا؟
هكذا يبقى العراق — في خضم هذا الطوفان من الأسماء والشعارات — يبحث عن زعيمٍ لا يُزاحم على الصورة، بل يضيء بها وطنًا أُطفئت أنواره تحت ظلال الحيتان السياسية والأخطبوطات التي لا تزال تمسك بخيوط المسرح من خلف الستار … .