كرسي الرئاسة وتشكيل الكابينة الوزارية والرأي الأخير لربان السفينة “المرجعية الدينية في النجف” !

صباح البغدادي


بينما ما تزال تتواصل القوى السياسية الاحتفال بما تعدّه انتصارًا في “عرس” انتهاء الانتخابات البرلمانية وما أفرزته من مقاعد نيابية ، تغافلت — عن قصد أو دون قصد — عن الصوت الأهم في تحديد اتجاه المرحلة المقبلة إلا وهو صوت ربان سفينة العراق ، المتمثل بالمرجعية الدينية في النجف. حيث كانت وما تزال واضحة وصريحة في موقفها الشرعي من الانتخابات البرلمانية السادسة والتي جرت قبل ايام , فهي وإن لم تدعم أي قائمة أو جهة سياسية أو تحالف حزبي، ولكنها في الوقت عينه أكدت دعمها لحرية الناخب وحقه الشرعي في ممارسة اختياره. وجاء في بيانها وعلى شكل استفتاء قدم لها : “نعم، حسب قناعة المواطن، فإن وجد أن المشاركة أوفق بمصلحة العراق، فليشارك بانتخاب المرشّح الصالح الأمين”. ويبقى لنا تحديد هذا “الصالح الأمين” سيكون من مسؤولية الناخب وحده دون غيره . وعلى الرغم من صمت المرجعية الظاهري وابتعادها عن صخب الأحداث التي رافقت العملية الانتخابية،  إلا أنها ما زالت تمتلك الكلمة الفصل والحَكَم الذي لا يمكن تجاوزه حتى لأعتى قوة مسيطرة على العراق سواء أكانت طهران أو وواشنطن أو بعض من دول الجوار.

قد يعتقد البعض أن في هذا الكلام الذي نطرحه بدورنا على الراي العام ومن هم في موقع المسؤولين حاليآ فيه شيئًا من المبالغة وعدم الواقعية، إلا أن مراجعة بسيطة لما مررنا به في التجارب الانتخابية السابقة ، وما رافقها من صراعات بين قادة الكتل والأحزاب والتحالفات، تكشف لنا من دون أي تا,يل أو شك الحقيقة الدامغة التي قد لا يتعرف بها البعض : بإن “الموافقة” أو “عدم الموافقة” الصادرة من النجف كانت دومًا البوصلة التي تتجه إليها السفينة ، على الرغم من كل التيارات والعواصف والوصايا والشروط والاملاءات الخارجية المفروضة على العراق. فهي “مرجعية النجف” ولذا، فإن الكابينة الوزارية القادمة، وإن بدت للوهلة الأولى أنها لم تأتِ تماماً ومثلما كان يراد لها بحسابات بيدر إيران ولا حقل أمريكا، فإنها تبقى مشروعية حقيقتها في نتاج وليدة التوازن الذي تسمح به المرجعية وتقبله وتعطيه له الشرعية الدينية . لأنها تبقى هي القوة التي تراقب من برج السفينة ، وتترك الجميع يقذفهم أمواج التدخلات الخارجية والداخلية على حد سواء ، ثم تتدخل بكلمة أو إشارة لتُعيد توجيه البوصلة عندما توشك السفينة على الانحراف عن غير مسارها المحدد لها مسبقا حتى ولو انحرفت ذات اليمين وذات الشمال وفي اللحظة التي يظن فيها الجميع أن المعركة النهائية سوف تنحصر  بين نفوذ كل من طهران وواشنطن، لذا تذكرنا النجف بأن للعراق قلباً نابضاً وإرادةً عليا، قد تختفي تحت الرماد أحياناً، لكنها قادرة على إشعال النار في كل الحسابات عندما يحين الوقت المناسب؟. لان في كل دورة انتخابية يعيشها العراق، نجد بان الأسئلة ذاتها تتجدد : من يملك حق الحسم في رسم ملامح السلطة ؟ ومن يضع النقطة الأخيرة في سطر تشكيل الحكومة واختيار رئيسها ؟ ومع أنّ الساحة تعجّ بالأحزاب والتحالفات والقوى المتصارعة على النفوذ، يبقى الدور الأكثر حسمًا — وإن لم يُعلن بصوت مرتفع وواضح —  ولكن للمتابع لبواطن الامور العلنية منها والخافية يجد نفسه أمام صورة حية مرسومة إلا وهو ما يتمثل وتمارسه المرجعية الدينية في النجف، بصفتها الضمير الأخلاقي والروحي للشعب، والمرجعية التي يعود إليها الجميع عند اشتداد الأزمات.لان في كل محطة مفصلية يمرّ بها العراق حاليأ أو ما شاهدناه في السابق ، يعود الجدل من جديد حول من يملك الكلمة الفصل الحاسمة في تحديد وجهة الدولة ، من كرسي الرئاسة إلى شكل الكابينة الوزارية. ورغم كثرة تعدد القوى السياسية وتضارب مصالحها، وما أفزرته صناديق الانتخابات البرلمانية السادسة ؟ سوف تبقى أعين الجميع شاخصة نحو النجف، حيث تستقر المرجعية الدينية التي كثيرًا ما كانت ـ بصمتها أو تصريحها ـ ربان السفينة في بحرٍ تموج فيه العواصف. فما بين حسابات السياسة وضغوط الداخل والخارج، يبقى موقف المرجعية هو البوصلة التي يُعاد عندها ضبط الاتجاه كلما اختلّت الموازين. صحيح ان في خطب الجمعة للشيخ عبد المهدي الكربلائي يلاحظ عليه بان المرجعية لا تعمل  كجهة سياسية، ولا ترغب بذلك، ولكنها في الوقت نفسه ومتابعة عن كثب فأنها تترجم أنها تؤدي دورًا أشبه بدور “ربّان السفينة” الذي لا يمسك عجلة القيادة بيده فقط، بل يوجّهها حين يوشك المسار أن يختلّ ويخرج عن الطريق القويم . وفي بلدٍ تعصف به وما تزال التحديات الداخلية والخارجية، يبقى هذا الدور ضرورة لحماية الدولة ومنع غرقها في صراعات المصالح والمناصب والامتيازات التي سوف تحدث خلال الأيام القادمة وعليه، فإن كرسي الرئاسة وتشكيل الكابينة الوزارية الحكومة — وعلى الرغم من أنهما مجرد إجراءات سياسية — لا ينفصلان عن تأثير المرجعية التي يلتفت إليها معظم العراقيون كلما ضاقت الخيارات واشتدت المنافسة فيما بينهما . وإنها كلمة لا ترفع شعارًا، لكنها تُهدي طريقًا، وتضع نقطة التوازن حين تتشابك الخيوط وتتعقّد الحسابات الداخل والخارج. فخطب الجمعة سواء اليوم أو في الأسابيع القادمة لممثل المرجع السيد علي السيستاني في كربلاء والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية الشيخ “الكربلائي” سوف يكون المحور الرئيس لهذه الخطب وعناوينها الرئيسية سوف تتمثل ــ وإن كانت لا تفرض أشخاصًا بعينهم ــ ولكنها تضع بدورها المعايير التي طالما طالبت بها المرجعية من حيث : النزاهة، الكفاءة، الأمانة، والقدرة على خدمة المواطن”. وهذه المعايير، مهما حاولت القوى السياسية التحايل عليها، تصبح في النهاية مقياسًا يُسقط أو يرفع من يجلس على كرسي الرئاسة أو يدخل ضمن الكابينة الوزارية . أذا ومن خلال ما ذكر أعلاه في المعادلة السياسية والحكم أصبحت واضحة وصريحة بان الشرعية السياسية قد تُكتسب من البرلمان ، لكن الشرعية الأخلاقية والاجتماعية تتأتى من موقف المرجعية ، وهو موقف دائمآ يراقبه الشارع عن كثب وبتمعّن ويحسب له حسابًا كبيرًا خارج اصطفافات ومصالح وإملاءات وشروط التدخلات الخارجية ويبقى ربان السفينة بدوره يراقب ومن خلال  إشارات خطب الجمعة سواء أكانت  — تصريحًا أو تلميحًا أو انتقادا — لأنها سوف تبقى وكما كانت دائمًا بمثابة الضوء الذي تهتدي به القوى السياسية المتنافسة عند المنعطفات الحاسمة؟ وهذا ما سيكون على أرض الواقع .