ركائز بناء الأمة : مقدمة في سوسيولوجيا الهوية العراقية

ثامر عباس

يطيب لبعض العراقيين الذين يقلقهم هاجس (الانقسام) العصبوي المسلط عليهم كسيف ديموفليس ، النظر الى أنفسهم بمثابة (أمة) واحدة موحدة تجمعها طائفة بارزة من العوامل الجغرافية – التاريخية ، والأواصر الاجتماعية – النفسية ، والرموز الدينية – الأخلاقية . بحيث يعتبرون ان تفشي مظاهر التصدع في كيان الدولة ، والتشظي في مدماك المجتمع ، والتذرر في معمار القيم ، ما هي إلاّ نتاج ظروف عابرة وحصيلة أوضاع شاذة ، لا تلبث أن تمضي وتزول إن عاجلا”أو آجلا”، دون أن تكون حائلا”يمنع التئام شمل عناصر تلك الأمة ويعيد لكيانها الانتصار ولرموزها الاعتبار .
والحقيقة أنه لا يوجد عراقي واحد لا يتمنى أن ترى هذه (الأمة) المزعومة النور ، ولا يتشوق أن تبلغ المستوى الذي تستحقه من الحضور ، بعد أن تتمكن – طبعا”- من لملمت شعث هذا الوجود الفوضوي من الكيانات المتشرذمة والجماعات المتذررة ، ومن ثم تحيله الى كتلة بشرية متراصة وطنيا”ومتماسكة اجتماعيا”ومتجانسة حضاريا”. ولكن ما يتمناه المرء ويرغب فيه شيء ، وأن يرى ما تمناه ورغب فيه متحقق على أرض الواقع شيء آخر تماما”. إذ إن الأمم – كما يقول المؤرخ الماركسي (إريك هوبسباوم) – (( ليست أبنية اجتماعية تزود الشعب في الظروف العادية بأبسط الحلول لأعقد المشكلات . بل هي – على العكس من ذلك – كيانات ثقافية ذات روابط حقيقية عميقة الجذور بالهوية والانتماء )) . ولذلك لا يعدو الحديث الصاخب عن وجود (أمة) عراقية أن يكون مجرد خطابات رومانسية وشعارات طوباوية صيغت لأغراض سياسية ومآرب إيديولوجية ، لا يمكن أن تنطلي على من يمتلك الحدّ الأدنى من الوعي والقدر الضئيل من الثقافة .
وفي إطار تعيين المحاور أو تشخيص الركائز الأساسية التي يمكن اعتمادها في بيان المعطيات والكيفيات ، التي يمكن من خلالها توضع الأسس البنيوية وتحدد الأطر السوسيولوجية المعول عليها بناء مدماك (الأمة العراقية) الذي عزّ خياره وطال انتظاره دون جدوى ، رغم بون التقادم في الزمان والتراكم في المكان حيث فشل التجارب وإخفاق المحاولات ، دون أن يصار الى معرفة الأسباب والاهتداء الى المعوقات التي تحول دون تحقق هذا الحلم الموغل في الطوباوية . هذا وقد ارتأت هذه المحاولة ان مشروع بناء ما يسمى ب (الأمة العراقية) لا يمكن وضع أسسه وبلوغ كيانه ، دون مراعاة بناء الركائز الثلاث التالية :
الركيزة الأولى – تشذيب (الثقافات الفرعية)
لما كان المجتمع العراقي من المجتمعات التي تحتوي على فائض سوسيولوجي وانثروبولوجي من (الثقافات الفرعية) ، التي هي نتاج تاريخ مديد من الهجرات الاقوامية والغزوات القبائلية والاحتلالات الأجنبية ، فإن الأمر يستدعي منا – حين نشرع بدراسة مثل هذه الظواهر الاجتماعية – الى مراعاة المحاذير والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن طمس معالم تلك الثقافات وتغييب خصائصها ، لاسيما وأنها تعكس الطبيعة النوعية للجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع العراقي . ذلك لأن أية محاولة متهورة من هذا القبيل قمينة ، ليس فقط في حمل تلك الجماعات والمكونات على التمسك بأصولها الأقوامية ومواريثها القبائلية ومرجعياتها الطوائفية وسردياتها الأسطورية ، ومن ثم تحفيزها على (التعصب) في المواقف و(التطرف) في السلوكيات فحسب ، وإنما اعتبار كونها (المحاولة) صيغة تتماشى مع سياسات (إلغاء) الآخر (الجواني) من جهة ، وتتعارض وتتناقض مع حقائق ووقائع (التنوع) الانثروبولوجي في المجتمع من جهة أخرى .
والحال ما العمل لتفادي أو تجنب مثل هذه المشاكل والإشكاليات المتوقع حدوثها في حال تم تجاهل وقائع (التعدد) الاثني ، و(التنوع) القبلي ، و(التباين) الطائفي ، التي تعد من أبرز الخصائص السوسيولوجية والانثروبولوجية للمجتمع العراقي ، سواء في المراحل التاريخية السابقة أو المراحل اللاحقة ؟! . ان ضرورات المنطق ومستلزمات العقلانية تستدعينا للتعاطي مع هكذا كيانات واقعية ، أسيء استثمار دورها التاريخي في غير سياقها ، واستغلال وظيفتها الاجتماعية في غير ظروفها . بحيث تحولت – تراكم الاحتقانات وتفاقم الأزمات وتعاظم الصراعات – الى قنابل موقوتة ، لا تحتاج سوى قدحة عابرة حتى يتحوّل المجتمع الى ركام من الخراب والدمار . ولهذا فقد شدد أحد علماء الاجتماع الغربيين (سام برايك) على (( ان بناء الأمة يتكون من كتابة التواريخ القومية في شكلها الأسطوري ، وابتداع الرموز ، وتعيين الإجازات القومية ، وإحياء ذكرى معينة والاحتفاء بها ، ووضع المعايير ، وتشجيع اللغات القومية ، في المدارس والجامعات والأكاديميات ، وإنشاء شبكات للمواصلات والبريد ، وتكوين خبرات إذاعية وإنشاء الملاعب القومية )) .
ولعل من أبرز ما يشتمل عليه مفهوم الثقافات الفرعية هي : (القومية / الإثنية) ، (القبلية / العشائرية) ، (الطائفية / المذهبية) ، (الجهوية / المناطقية) ، (اللغوية / اللهجية) . والتي تشكّل الركائز الأساسية والبنى المعيارية لأي مجتمع لا زال يتخبط بدوامات مراحل تحوله ؛ من التبربر الى التحضر ، ومن التوحش الى التأنسن .
الركيزة الثانية – تهذيب (الشخصية المعيارية) ؛
حين نتحدث عن هذا النمط من الشخصية الاجتماعية ، ينبغي علينا استحضار مجموعة أخرى من (القواسم المشتركة) التي تعتبر بمثابة القواعد المؤسسة لصيرورة (الشخصية المعيارية) في المجتمع ، والتي تحتاج – باستمرار – الى بذل كل ما من شأنه حمايتها والنأي بها عن كل ما يعيق تكوينها الطبيعي من شتى أصناف النوازع الأنانية والدوافع الفئوية ، التي من المرجح أنها قد تتسلل وتتسرب إليها عبر مختلف الأنشطة الشخصية والممارسات الاجتماعية ذات الطابع العفوي والتقليدي ، بحيث يفضي إهمال عواقبها أو تجاهل أضرارها – بالنتيجة – الى انفراط عقد النسيج الاجتماعي – الوطني الهش أصلا”، الى شعث مكوناته الأولية – البدائية .
والجدير بالملاحظة ان كينونة (الشخصية المعيارية) هذه ، تحتاج حتى تكتمل بالشكل الذي يجعلها فاعلة ومؤثرة الى الاعتماد على تحقيق مضامين المزدوجات التالية ، ليس بصيغة المفاضلات والأسبقيات التي من مساوئها ترجيح هذا الطرف على ذاك ، أو تميّيز هذه الخاصية على تلك ، وإنما بصيغة التفاعل الجدلي والتكامل البنيوي والتخادم الوظيفي . ولعل في مقدمة تلك المزدوجات الواجب مراعاتها نذكر منها : (جغرافيا / انتماء) ، (تاريخ / ولاء) ، (دين / تعايش) ، (ثقافة / رموز) ، (قيم / معايير) . وبقدر ما يؤخذ هدف تحقيق هذا التكامل بصورة متوازنة بعين الاعتبار ، بقدر ما يصار الى تمتع هذه الشخصية (المعيارية) بخصائص (النضج) في التكوين و(الصلابة) في التحديات ، التي لا مفر من توقع مواجهتها باستمرار في مثل هذه المجتمعات الانتقالية ، سواء عبر سيرورات التحول السلمي في العلاقات ، أو من خلال الانتقال العنفي في التوازنات .
الركيزة الثالثة – تخصيب (الهوية الحضارية) ؛
وتعد هذه المرحلة بمثابة المحطة النهائية في مشروع بناء مدماك الهوية (الوطنية / العراقية) ، التي من شأن التعويل عليها تشجيع مبادرات (الانفتاح) على الآخر – البراني (الخارجي) ، ومن ثم تسهيل عمليات (التفاعل) مع الأمم والشعوب الأخرى من جهة ، والانخراط في أتون (التثاقف) الحضاري والإنساني من جهة أخرى . بحيث يفضي اكتمال هذه المرحلة الحضارية ليس فقط الى التخفيف من غلواء النزاعات العنصرية ، واستشراء الدوافع العصبية ، بين مختلف الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية فحسب ، بل وكذلك التجفيف لكل مصادر الاحتقانات النفسية ، والكراهيات الدينية ، والانقسامات الاجتماعية ، والصراعات السياسية .
والجدير بالملاحظة ان الوصول الى هذه المرحلة من صيرورة (الهوية الحضارية) ومن ثم بلوغ شوطها النهائي ، تحتاج ليس فقط الى تخطي الكثير من الحساسيات النفسية ، الالتباسات التاريخية ، والإشكاليات الثقافية ، بين مختلف الجماعات والمكونات على صعيد الانتماء والولاء والهوية فحسب ، وإنما الى فترات زمنية طويلة نسبيا”- ربما عدة عقود – وذلك لجسر الهوة العميقة التي تفصل بين تلك الجماعات والمكونات ، جراء استمرار (القطيعات) العديدة والمتنوعة التي كونتها الأساطير الدينية ودعمتها السرديات التاريخية ، للحدّ الذي بات متعذرا”استئصال رموزها من الوعي وإطفاء وهجها من الذاكرة .
وأخيرا”، السؤال الآن ؛ بعد كل ما تقدم من معلومات ومعطيات ، هل من الممكن أن تتحول التكوينات (الفسيفسائية) التي يتشكل منها المجتمع الى كيان (أمة) عراقية ، كما تروج له الخطابات السياسية والإيديولوجية الطافحة بالرومانسية والغارقة في الطوباوية ، بحيث ترتكز على (ثوابت) قارة وتحتكم الى (مرجعيات) معيارية لا يجوز تخطيها أو تجاهلها ؟! . الجواب على ذلك – من وجهة نظر هذه الورقة – هو (كلا) لا يمكن تحقيق هذا الحلم البعيد المنال !! .