رياض سعد
ضاق صدره ولم يعد يحتمل الجدران الأربعة التي كان يعدّها يوماً حصناً يحميه من ضجيج البشر، وضوضاء المدينة , ومن أصوات الناس وهي تخدش أطراف روحه … ؛ كأنها لم تعد رفيقة عزلته بل قفصاً شفافاً يضغط على روحه من كل الجهات… ؛ فقد كانت الجدران، في بدايات وحدته، مثل قوقعة محارة يحتفظ فيها بصداه وذكرياته وارتجافاته الصغيرة… ؛ لكن مع مرور الوقت، تحوّلت إلى طبقات من الغبار المتراكم، كأنها تمتص الهواء من رئتيه، وتضغط على صدره ببطء مدروس، كأنها تريد أن تُحوّله إلى ظِلّ آخر بلا هيئة … .
أغلق الباب خلفه بخطى ثقيلة تلك الليلة … ؛ شعر للمرة الأولى أنّ الباب لا يُغلق على الغرفة… بل يفتح في داخله شيئاً مجهولاً، شيئاً يشبه الفراغ، أو يشبه بداية طريق لم يختره… ؛ ثم انطلق في الشوارع كمن يسير فوق خيط رفيع لا يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي… ؛ كانت المدينة تلمع تحت أضواء المساء، لكن داخله كان معتماً، كالفراغ الذي لا يريد أن يسمع شيئاً سوى خفقات قلبه المضطرب.
مشى في الشوارع التي يعرفها ولا يعرفها… ؛ كانت المدينة في الليل تشبه جسداً نائماً تتوهج بعض أجزائه بخفوت… ؛ الشوارع تمتد كأنها خيوط لحنٍ نصف مكتمل، والسيارات تمرّ كالذكريات السريعة، لا تتوقف عنده، بل تمرّ من خلاله… ؛ أحسّ أنه يسير فوق أرض ليست أرضه، رغم أنها المدينة التي ترعرع فيها منذ طفولته… ؛ لكن الغربة لا تحتاج إلى مدن أخرى؛ أحياناً تكفي خطوة واحدة خارج الذات كي تتحوّل كل المسافات إلى تيهٍ طويل.
وفي إحدى الزوايا التي يعبرها الناس دون انتباه، التقى بالغريب القريب، بالمجهول المألوف؛ ذاك الذي بدا كأنه خرج من ذاكرة منزاحة أو من حلم قديم… ؛ كانت صدفة، لكنها بدت له أعمق من كل المواعيد التي لم يجرؤ يوماً على تحديدها.
نعم , في ذلك التيه، ظهر الغريب—ذاك الوجه الذي لم يره من قبل، لكنه أحسّ أنه يعرفه تمام المعرفة… ؛ الشخص الذي كان يبدو كأنه خرج من كتاب لم يكتبه بعد، أو من حلم لم يحكِه لأحد…؛ لا ملامح منتظمة، بل ملامح تتغيّر مع الضوء، كالكريستال الايطالي … ؛ كأنّه ليس شخصاً بل فكرة تمشي… .
كانت الصدفة بينهما تشبه انفتاح نافذة في غرفة مغلقة منذ أعوام… ؛ تبادلا الكلمات كما لو كانا يسترجعان حديثاً من عالم سابق… ؛ الحديث لم يكن عادياً، ولا عابراً، بل كان مثل حوار بين ظلّين التقيا في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم… ؛ تحدثا… ؛ كان الكلام بينهما يتدفق بسهولة غريبة، كأنهما يستعيدان حواراً لم يُكمَل منذ زمن بعيد… ؛ مرّ الوقت سريعاً، كبرق يلامس السحاب ثم يختفي تاركاً في النفس رائحة المطر… .
ومع أن الحشود كانت تتحرك حولهما كضباب بارد، إلا أنّ حرارة القرب الروحي جعلت العالم ينكمش… ؛ تألّقت العيون بوميض لا يشبه الشهوة بقدر ما يشبه اللهفة، ذاك التوهّج الذي يحدث حين تكتشف فجأة أنّك لست وحدك في هذا الكون، وأن ثمة روحاً أخرى تخاطبك بلغة لا تُقال.
نعم , تحت وهج ذلك التقارب، بدأ داخلهما يشتعل بشيء ليس حبّاً بالمعنى المعروف، بل دفئاً وجودياً يحسّه المرء حين يدرك أن الروح ليست وحدها في هذا الكون الشاسع، وأن هناك من يستطيع أن يسمع الأنفاس الصامتة التي لا تُسمع .
اقتربا، وتبادلا ما يشبه العناق وما يشبه الاعتراف غير المنطوق… ؛ لحظة هشة وقوية في آن واحد… ؛ فحين اقتربا من بعضهما، لم يكن الاقتراب جسدياً فقط؛ كان اقتراباً بين هويتين تبحث كلّ منهما عن معنى، عن صدًى، عن مرايا جديدة … ؛ كان العناق بينهما مجازاً للانتماء، واعترافاً غير منطوق بأنّ الغربة، مهما طال مداها، يمكن أن تتشقق فجأة تحت كلمة، تحت لمحة، تحت يدٍ تقترب لا لتأخذ، بل لتفهم… ؛
لكن نظرة عجوز مرّ بالقرب منهما ـ نظرة محمّلة بالعتاب، وربما بالخوف، وربما بالحنين ـ اخترقت المشهد كحجر في سطح ماءٍ راكد… ؛ لم تكن نظرة عتب فحسب، بل كانت نظرة أجيال متراكمة، عيون تحمل في حدقتها حراساً قدامى للعادات، للأدوار، للوجوه والأقنعة… .
تباعدا قليلاً؛ ترددا؛ تباعدا لحظة، ليس خوفاً بل دهشة: كيف يستطيع فرد غريب أن يجرح لحظة كانت على وشك أن تصبح كاملة؟!
ثم عادت النار لتشتعل في داخلهما، نار ليست نار جسد، بل نار غريزة أعمق: غريزة أن يجد المرء صدى ذاته في آخر … ؛ فالنار التي اشتعلت بينهما لم تكن قابلة للانطفاء بنظرة عجوز عابرة … ؛ لم تكن نار هوى سطحي، بل نار بحثٍ عميق عن معنى وجودي… ؛ وحين عاد كل منهما إلى الآخر، كان الأمر أشبه باندفاع نبتة صغيرة تشقّ التراب لتصل إلى الضوء… ؛ لم يكن ما حدث بينهما فعل شهوة بل كان فعل اعتراف: اعتراف بضعف الإنسان، بحاجته إلى الآخر، بكونه كائناً مكسوراً يبحث عمّن يلملم شتاته ولو لثوانٍ … .
ولم يلبث الإرهاق العاطفي أن علا عليهما كضباب دافئ، فجلسا على مصطبتين متجاورتين قرب الحديقة التي شهدت صدفة لقائهما… ؛ ؛ كانت المصطبتان كجسرين صغيرين فوق نهر من التفكير والضياع والوله … ؛ جلسا بصمت، وكل منهما يهرب إلى أعماقه، وإلى الصور التي تشكّلت داخله بسرعة حدقتين تلمعان في ظلام الحديقة… ؛ جسداهما مرهقان، لكن الإرهاق كان أقرب إلى ولادة جديدة منه إلى تعب… ؛ كانا يتنفسان ببطء، لا من تعب الحركة، بل من ثقل الشعور… ؛ وللحظة أحسّ كل منهما أنه وجد الآخر الذي كان يبحث عنه بلا وعي… ؛ نصفه المكسور، أو توأم شعوره، أو الورقة الضائعة من كتاب حياته … ؛ أو وجد مرآته، أو ربما وجد الطريق إلى هاوية جديدة …!!
وبينما كانا غارقين في هذا السكون الحالم، وقفت سيارة سوداء قرب الحديقة… ؛ اللون الأسود كان لافتاً، يشبه تلك اللحظات التي تقتحم أحلامنا دون استئذان… ؛ ترجّل رجل مسنّ، ونادى على رفيقه… ؛ نداء بدا كأنه قادم من زمن آخر، من عهد لم يتحرر منه بعد… ؛نهض الغريب الحبيب بسرعة، كمن سُحب بخيط غير مرئي، وركض نحو السيارة بلا تردد، بلا نظرة حب، بلا كلمة وداع , دون التفاتة أخيرة، ودون أن يُفسّر شيئاً…!!
وقف هو وحده، يشاهد السيارة تبتعد… ؛ لم يكن الحزن هو ما شعر به، بل شيء أعمق: شعور بأن الحياة نفسها أحياناً تُغلق المشهد قبل أن تكتمل القصة… ؛ وبأن البشر، مهما اقتربوا، قد يعودون فجأة إلى قدرٍ لم يختاروه… .
رأى السيارة السوداء تختفي، تماماً كما تختفي لحظات الحقيقة في زحام الأيام الرمادية… ؛ لم يعرف رقمها، ولم يعرف لماذا رحل الغريب بهذه السرعة… ؛ كل ما عرفه أنّ الليل عاد يطبق على المدينة، وأن الأيام السوداء التي ظنّ أنه نجا منها… ؛ عادت تسير بجانبه من جديد، لكن هذه المرة ومعها ظلّ يرقد في ذاكرته: ظلّ شخص قريب وبعيد، مجهول ومعروف…؛ ظلٌّ مرَّ أمام نافذته، ثم رحل…!!